إن رحيل الشاعر مظفر النواب، يترك فراغا تاريخيا عن معنى وجدوى الإشكالات السياسية والثقافية والشعارات الثورية التي التي اعتنقها النواب طيلة حياته مع نخبة كبيرة من المثقفين العراقيين ازعم ان جيلنا كان متأثرا بها بل معتنق لأفكاره، ,وخلال ذلك خسر النواب ما خسر فأصبح تاريخه تاريخنا ، لقد أكسبته هذه الأفكار مكانة رفيعة في نفوس جمهوره شاعرا ومناضلا،وأصبح رمزا من رموز عقود القرن العشرين،على الرغم من ان نضاله وشعره لم يكتملا بتحقيق الحلم الذي كان يراود ضميره المتجسد في وطن حر وشعب سعيد شعار الحزب الذي انتمى إليه وناضل في صفوفه، لكن ذلك لم يضعف شخصيته ولم يثلم مبادئه لكنه أضفى على شخصيته وموقفه احتراما وتقديرا فأصبح إيقونة ورمزا، في الشعر وفي المواقف السياسية.
لنا الحق نحن الأحياء الباقين من جيل الستينيات من القرن الماضي، بعد أن دخلنا في نفق الثمانين، أن نفخر بهذا الانتماء بعد أن رأى: البعيد والقريب العدو والصديق مظاهر التزاحم الكبير للعراقيين في تشييع جثمان الشاعر،على الرغم مما رافقه من مظاهر احتجاج وعنف، فقد كان الحزن وعواطف الشباب وكبار السن سائدا…وإذا استثنينا مظاهر العنف، فقد وحد الشاعر مشاعر الناس من مختلف الانتماءات بكونهم عراقيين ..
غير أن الذي جرى،لم يكن سوى عاطفة صادقة من عراقيين عرفوا الشاعر وعرفوا محنته في الدفاع عنهم ضد كل أشكال العسف وتمنى لهم في أجمل ما كتب حياة راقية تليق بإنسان القرن الحادي والعشرين والقرون القادمة..
أما الإشكالات الثقافية والسياسية والأسئلة الكبرى التي تطرح الآن على الأفكار اعتنقها الشاعر وجيله والأجيال التالية لهم، بوصفها موضع شك وتساؤل كبير في زمن العولمة وما بعد الحداثة التي ألغت يقينيات العلم واستبدلتها بالهوامش والزائل من الأمور،وهي أسئلة تتعلق بمفاهيم ومصطلحات ثقافية وسياسية كانت سائدة آنذاك ثم انحسرت أو أصبحت قضايا للتندر والسخرية من قبل مثقفي ما بعد الحداثة بعد ان حصدت هذه الأفكار والرؤى أرواح الآلاف،وعذبت وسلبت حريات آلاف أخرى منهم في القرن الماضي، لأجل تحقيقها على ارض الواقع .
سأتخذ من تغريدة الكاتب السعودي تركي الحمد التي كتبها في موقعه بعد رحيل الشاعر مظفر أنموذجا :(رحم الله مظفر النواب الذي كانت قصائده تطربنا أيام الثمالة الإيديولوجية والحماسة الثورية،ولكنه في النهاية لم يجد الملجأ والرعاية إلا في دولة ( رجعية)مطبعة مع إسرائيل وفق تصنيف الخطاب السياسي العروبي ، وهذا التناقض هو ديدن العقل السياسي العربي المؤدلج اليوم وبالأمس …رحمة الله عليه….
بداية ألاحظ أن الحمد لم يسخر من منجز الشاعر الشعري الذي كتبه باللغة الفصحى والعامية، بل سخر من تاريخه السياسي، من خلال مصطلحات ومفاهيم كانت سائدة آنذاك حين يقول ( الثمالة الإيديولوجية،الحماسة الثورية، الرجعية والتقدمية، التطبيع مع إسرائيل ..الخ وهي تحيل إلى مجمل المصطلحات الثورية التي حملناها شبابا – وكان الحمد واحدا من حملتها!!!-وعانينا من ثقلها على حيواتنا الغضة،وعلى حياة عوائلنا الفقيرة لكنها كانت أحلامنا التي كانت تغذي حياتنا البسيطة وترفعها إلى مستوى الفردوس القادم.
ومع هذه السخرية الواضحة نسأل أنفسنا هل كان الكاتب تركي الحمد ساخرا دون دلائل او قرائن تضع هذه المصطلحات والأفكار موضع التساؤل عن جديتها وقدرتها على معايشة الواقع الثقافي الذي أفرزته العولمة وثورة الاتصالات؟ وهل هي بحاجة إلى وفحص وتدقيق وقراءة جديدة لها؟؟
نعم نحن نعيش عالما مشاكسا تتغير فيها الأفكار والرؤى،ولكن ذلك لا يغير من الأمر شيئا،فتلك الأفكار الثقافية والسياسية التي امن بها النواب وجيله والأجيال التي جاءت بعده، كانت سائدة في نسق متصاعد أيامها،وكان الإيمان والتصديق بها انتماء صادقا مرحبا به، وحين تغير الزمن وسادت أفكار أخرى: هل معنى ذلك أن نلغي تاريخنا، أو نسخر منه على ما يطابق الواقع الحالي!!!وهل يتجرد الإنسان من تاريخه الشخصي والعام لإرضاء نفوس لم تشعر يوما بجدوى ان ينتمي الإنسان إلى الآخرين ويدافع عنهم وكأنه يدافع عن نفسه!!
إن سخرية الأستاذ تركي الحمد من ( الثمالة الأيديولوجية والحماسة الثورية) وغيرها، ومن تاريخ شاعر ترسخت صورته في وجدان شعبه سخرية لا معنى لها،ولعله رأى مظاهر التشييع التي أظهرت تعلق الناس بالشاعر الذي عبر بهم إلى عالم الأحلام وتخطى بؤسهم .. أقول (للأستاذ ) تركي الحمد انك تسخر من ذات تعالت على آلامها لتصبح رمزا متعاليا لناسها، باحتكامك إلى أفكار عالم صاخب وضاج تضيع فيه الحدود ويختلط فيه الصواب بالخطأ،ويمحى الخيط الفاصل بين الخير والشر ( والتقدمي والرجعي)!!!
سيبقى الشاعر مظفر النواب قامة شامخة، وشاعرا كبيرا ومناضلا،لتحقيق أحلام الناس وتطلعاتهم، لا تثنيه أو تضعف من موقفه نوبات المرض اللعين.