“لقد أحببتك وانتهى الأمر” نطقها حسن بصدق وهدوء لافت منذ مائتي عام وحين قرأتها دقت في قلبي طبول عشق للرواية والكاتبة بل وشعرت لحظتها أنني ايضاً أستحق حبيباً رقيقاً مثل حسن.
لم تكن شخصية حسن هي المفضلة بالنسبة إلي في رواية “سبيل الغارق..الطريق والبحر” للكاتبة “ريم بسيوني” بل ظللت طوال قراءتي البطيئة للرواية ألوم ريم على اختيارها لشخص مثل حسن لدور البطولة..الشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يعيش والذي لا يملك من الحياة سوى الحلم الذي استطاع ببراعة تحويله لواقع ملموس ..والرجل الذي ما ان لمس حلمه العزيز بيده حتى حل عليه الغضب على من يحب فتارة عاشق مولع وتارة غاضب عنيد مفارق لا يحتمل.
حتى الهانم في الرواية “جليلة” لم تكن كما تمنيتها أنا كانت المرأة الجريئة القوية المتعلمة في مجتمع من الأميين والتي حافظت على عقلها وبراعتها وحلمها لكنها كانت أيضاً عنيدة وفي البداية كانت تصرفاتها تشي بالعنصرية والطبقية والغرور الغبي إلى أن تكشفت لي الأسباب في النهاية والتي أشبعت فضولي وأجابت على بعض تساؤلاتي ..ورغم ذلك ظللت طوال قراءتي أقاوم محبتي الغامرة للهانم وعندما انتهت القراءة اكتشفت أنني كمعظم القراء الذين لا يفرقون بين الكاتب وكتاباته ..وقعت في غرام الكاتبة ..
أسباب اختيار جليلة لحسن لمجرد لونه الأسمر وعضلاته المفتولة وإخلاصه رغم كونه من هو لم تقنعني جدا فجليلة إنسانة متعلمة متحضرة،كاتبة لا يعجبها ابناء العائلات الكبيرة فهي تجادل وتناقش كأنها رجل وحين أحبت شخص كانت تتنمر عليه طوال الوقت وتجرحه بكل ما استطاعت..لكنه الحب ..لا يستطيع أحدنا تبريره ولا تحدي محب ولا لومه فيم اختار ..
سلطت ريم الضوء على فترة عصيبة جداً في تاريخ مصر الحديث الفترة التي ذخرت بشخصيات عظيمة مثل الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وأحمد عرابي ..أظهرت قصص ضرب الانجليز للاسكندرية وقد كانت من أقوى المشاهد المؤثرة في الرواية والتي دفعتني للبكاء رغم أنني لا أبكي إلا بين حروفي..قصت علينا ببراعة وبساطة وقوة كيف احتل الانجليز مصر ومصير مصر وعرابي ومن ساعدوه
تراوحت اللغة بين لغة قوية جدا وشعرية ولغة اكاديمية سلسة وقوية وكذلك اعجبني الانتقال بين المشاهد رغم أنني كنت أعيد القراءة أحياناً مرة أخرى ولكنني أعجبت جدا بالاسلوب .كما ظهر تأثر الكاتبة جدا بالصور والتعبيرات القرآنية والصوفية واضحاً جلياً..حتى أنني شعرت أحياناً أن الامام الغزالي هو من كان يكتب الحوار بين شخوص المتصوفة فقد ظهرت روحه ونفحاته بوضوح..
كانت قناة السويس هي البطل الأول للرواية بلا منازع فقد كانت الحلم الذي يدور ويتردد في مخيلة الشاطر حسن والذي حاول بكل طريقة استعادته ..لكنه محكوما بلعنة اليمامة الظالمة..
أثناء قراءتي المتعمقة للرواية كنت أذكر دوما خالدة الذكر الروائية رضوى عاشور ..شعرت أن ريم تكتب بنفس الطريقة الحيادية التي لا تطغى عليها المشاعر رغم رقتها فريم تكتب بعقل رجل ونادراً ما نجد كاتبة أنثى تكتب بهذه الطريقة ..
“استخدمت ريم جملة عرابي “مصر للمصريين” وفسرتها كل شخصية حسب رؤيتها وثقافتها فكشفت عن وجه المجتمع الطبقي القبيح واهتماماته..وحينما ظهرت نفس الجملة في نهاية الرواية كانت تشي بأمل قادم وجيل جديد يحمل راية الكفاح ..
أظهرت ريم رجال التنوير بصورة عنيفة جدا وغير مبررة وذلك في مشهد اللقاء بين الهانم وبين “هاني ناصف” المستنير العنيف والذي هجم على الهانم بصورة غير مبررة بل وأرسل صديقة عمرها لتهددها للقائه ثانية لم قد يفعل ذلك وهو المعجب بكتابتها وشخصيتها ولم تتواطأ صديقة العمر لترتكب حماقة من هذا النوع؟ ..استوقفني هذا المشهد الغريب لكنه لم يسء جدا للتابلوه بكامله..
اهتمت ريم بإظهار وضع المرأة في المجتمع حينها وكيفية معيشتها والقيود الجائرة التي كانت تكبلها حتى في العلاقة الخاصة مع زوجها! وتحريم التعليم عليها والتعامل مع المرأة المتعلمة بطريقة لا تليق إلى حد رشقها بالحجارة في الطريق!
سعدت لايام بقراءة “سبيل الغارق” والتي مزجت مزجاً تاماً بين التاريخ والتصوف والواقع فلم أقرأ من قبل لكاتب سرد تاريخ الشريان المائي بتلك الطريقة الهادئة رغم قوتها والجذابة رغم قسوتها..تمكن ريم من أدوات السرد والحكي منحنا فرصة لمعرفة ومضة جميلة من ومضات تاريخنا المصري الذي نفر منه لننا لا نجد من يقدمه بطريقة جذابة وقد نجحت ريم في تقديمه مما يحسب لها جدا..