يتعملّق صبيُّ الكُتّاب، ابنُ الحادية عشرة، ويحسّ بأنّه شبَّ سريعاً، وتجاوز عُمرَه الحقيقي بسنوات. نجح نعمان في تجاوز “الختمة” الأخيرة للقرآن، بعد أربع محاولات فاشلة. دخل في عهدة شيخ الكُتّاب بعمر السابعة، واستطاع أن يتغلّب على العائق الوحيد، حفظِ سورة “الكهف” في أسبوع واحد، من سنته الرابعة في الكُتّاب. (يقتصر الاختبار الختامي في العادة على سماع سورةٍ طويلة واحدة، يختارها الصبيُّ الحافظ ويتقن تلاوتَها).
تمثّلت له السورة الكريمة، بآياتها المسجوعة، كوحي يهطل عليه من سقف الكُتّاب، روحاً وصوتاً وإيقاعاً، يحثّه على التلاوة بلا تلكؤ وانقطاع. كان وجه الأمّ يرتسم بين فواصل الآيات الهاطلة، مشرِقاً بالرضا والامتنان (ففي الختام سيُنسَب نعمان لأمّه، بعد أن توفي الأب في الرابعة من عمر الصبيّ المعاق). لكنّه، في صباح ختمة القرآن، وبينما يتذوّق نعمان فطورَه، اجتاحه شعورُ التعملق والتجاوز الزمني سنوات فوق عمره (كأنّه يوشك على الالتحاق بوحيه الصوتيّ، ويفارق أمّه فراقاً أبدياً، بعد فقده حركة ساقيه إثر الولادة).
نظر إلى أمّه صامتاً، ثم انهمرت عيناه بالدموع، وبلّلت قطعةَ الخبز التي حملتْها إلى فمه: “للخبز طعم غريب يا أمّاه، كأنّي ألتهمُ كدسَ الأجزاء القرآنية المتفرقة التي نضّدَها شيخُنا في رَوشن الكُتّاب”.
ذُعِرت الأم لرؤيا الابن، وأسرعت بمسح فم ابنها بمنشفة رطبة، ثم حملتْه ووضعتْه في عربته الخشبية، وأمسكت بالمقود، ثم اجتازت به باب المنزل العريض (كانت العربة أوّل اختراع من نوعه في البلدة، بعجلتين مطاطيتين صمّاوين، كبيرتين، تطويان أخاديدَ الدَّرب المترِب، بين المنزل والكُتّاب).
تمكّن عشرة صبيان فقط من اجتياز عقبة السُّورة، وواصلوا مع نعمان قصة الفئة المؤمنة، التي خضعَت للنوم مئات السنين، استجابة لقوّة قاهرة، وبلغوا النهايةَ العجيبة (بناء جدار دونهم، يقطعُ بأيّ تفسير مغاير). لم تأتِ العقبة الكأداء من الآيات القرآنية، البالغة مئة وعشر آيات، إنما من التفسير التاريخي الذي تعدّدت فصولُه وأبطاله ومظالمه ضدّ الأتقياء من أتباع ملك بيزنطة (كان لمعلّم الكُتّاب تفسيره الخاص للسُّورة). حفظوا مع الآيات المئة وعشر أسماءَ ملوك ومؤمنين مضطهدين، ومواقعَ مدنٍ وأسواق وأنهار وطُرق، وفوق هذا كلّه قيمةَ العُملات النقدية المتبقّية في جيوب ملابسهم قبل الاختفاء والاستسلام لسلطان النوم المجهول. غير أنّ أسئلة عمّن تسلط على نومهم، وأخرى عن رفاق حزبهم الهاربين، ونسائهم، جعلت الشيخَ الصارم، ومساعِدَيْه، يحذّرون الخاتِمين من الجدال في تفسيرات تقع تحت طائلة التحريم).
استلقى نعمان بثوبه الأبيض، على فراش العربة، واستسلم لعثرات الطريق، وما أن وصلت مركبة الأمّ إلى نقطة الاحتفال، حتى تدافع الصِّبية الخاتمون، واختطفوا العربة وساروا بها متقدّمين موكب “الختمة” السنويّة، يتبعهم التلامذة الأصغر سناً، ثم الأمّهات اللاتي يحملن على رؤوسهنّ صوانيَ الشمع والآس. توقّفت المسيرة عند باب الجامع الكبير “ذي المَنارتيْن”، وباركَ إمامُ الجامع الصبيَّ الفطِن، المتوَّج في عربته، وألبسَه طاقيةَ التفوّق البيضاء.
انفضَّ ركب “الختمة”، وعاد الخاتِمون الى بيوتهم، فيما اتجه شيخ الكُتّاب إلى مكتبه، يتبعه مساعداه بهدايا العائلات من الخبز والحلوى، المعبأة في سِلال وفخّاريات وأوعية صفيح ونحاس. كان الإرهاق بادياً على نعمان، الخاتم الأول، المحمول على محفّته الخشبية، تدفعه الأمّ التي قرأت على وجهه إمارات العُمر المتقدّم، وتجاعيدَ الكهولة الزاحفة قبل أوانها. (مع ازدياد معرفته، وتفصُّح لسانه، كان شعور غريب ينمو عكسياً في ذاته المتعملِقة).
مرّ أسبوع، على حفل “الختمة”، قبل أن يسقط نعمان، طريحاً تحت وطأة النُّوام. والحقيقة، أنّه تهاوى رويداً، وفقَدَ الإحساسَ بمَن حوله من الكائنات والأشياء والكلمات. زارَه شيخُه فلم يستطع الاتصال بوعيه الغافي (أخبر أمَّه بأنّ ابنها يفقد تدريجياً صِلتَه بأجزاء القصّة التي حفظها عن أهل الكهف، ويفقد ما جناه من معرفة عنها جزءاً فجزءاً).
حدث الغيابُ الكلّي للآيات على فترات، كان الشيخ قد انتزع خلالها اعترافات مذهلة من تلميذه الفطِن. بعد يوم من تتويج “الختمة” أبدى نعمان رغبتَه بالحديث مع شيخه في شأن عاجل، فاسترجَت الأمّ حضورَه وتوسلت إليه. لاحظ الشيخ عند دخوله عربةَ الصبي، مركونة إلى جانب من باحة المنزل، وفراشُها لمّا يزل على حاله من الترتيب والنظافة. طلب الاختلاء بتلميذه، فانصرفت الأم لشأن منزليّ، واعتكف الشيخ على سؤال نعمان عمّا يعانيه.
قال نعمان: “أرجوك يا شيخي أن تغفر لي ما سأخبرك به حالاً. كنت أشعر بالكُبْر والعلوّ والمعرفة تصاعداً مع يقظة فتيان الكهف السبعة، وزادني حِفظُ السُّورة عمراً فوق عمري، حتى حسِبت نفسي واحداً منهم، وعُمري يساوي عُمرَ أحدِهم”.
لم يندهش الشيخ لهذا الاعتراف، وانتظر مزيداً من البوح، فلم يُصدِر الصبيُّ غير آهةٍ طويلة، انفرطَت معها سلسلةُ الكلام.
قال الشيخ المتفرّس في وجه تلميذه المتضائل: “ليس في هذا الشعور ما يتناقض والإيمان الحقيقيّ بقصة فتيان الكهف. كان شعورهم قد سبق شعورَك بهذا التقدّم في العُمر. بل طابقَ شعورُك شعورَهم بعد مضي آلاف على حُكم ملكِهم الظالم”.
وبعبارة أقلّ فصاحة من عبارته الأولى، عقّبَ نعمان: “مَن أوحى لنا، لي، لك، بهذا الشعور القديم؟ مَن غيرُنا يرى هذه الحقيقة المتراجعة إلى وراء؟ أن نعرف فوق معرفتنا؟”.
قال المعلم: “الآن، نحن الاثنان، فقط”.
صمت نعمان وقتاً، ثم انحدرَ الى درجة أدنى: “يا شيخي، هذا هو الشيء الذي يقلقني ويهدّ روحي. ما أشعرُ به أنني أفقد ذلك الشيء”.
أبدى الشيخ قلقه: “أيّ شيء يا نعمان؟”
عصرَ الصبيُّ ذاكرته كي يقول: “الشيء الذي يعرفه كلانا.. قلْ لي، أرِحني يا شيخي. لماذا يحدث ذلك لي؟”
انحنى الشيخ على الجسد المتراخي، الذاهب إلى نومه: “ماذا يحدث لك؟”
تلعثم نعمان: “إنّي أتلاشى يا شيخي. أصغُرُ وراء ذلك الجدار الذي بنتْه القريةُ الظالمة حول أهل الكهف. لكَ أن تحذّرني من قول هذا وتوبخني على إلحاحي”.
قال الشيخ: “لكن هذا ليس عقاباً، بل هو دورة أخرى من المعرفة”.
تباطأت كلمات الصبيّ الوسنان، جاهداً في سبك سؤاله: “وسَيري المتزايد نحو النوم؟ كيف سأعرف كم أمدُه، وأين مكانُه، أفي الكهف أم….”. ثم سقط في الغيبوبة، وبدا جثّةً باردة. أمسك الشيخ بمعصم النائم، وحوقلَ منسحباً بهدوء.
في الزيارة التالية، لم يُحِر نعمان بغير عباراتٍ مفكّّكة، خالية من فطنة الإيحاء القرآني الذي درجَ عليه مع معلّمه الشيخ مدّة سبع سنوات سوية. استنكر الشيخ بشدة هذا الانحدار المفاجئ، غير أنّ الصبيّ المتهافت تلعثم مرة بعد أخرى في إخطار شيخه بما يعتريه ويهدم ذاكرته. ثم انقطع حبلُ اتصاله بالقصة القديمة تماماً. (وبينما كانت قصةُ نعمان تصغر في رأسه، كان تخطيط قصّتنا ينمو متصاعداً في الاتجاه الآخر، في الزمان والمعرفة وموقع الكتابة).