الشاعرة رماح إستطاعت أن تكتب الحدث الخارجي والحدث الداخلي في أغلب نصوصها .الخارجي هو مايحيط بنا من شواهد وأمكنة أو شخوص بأسمائها وأفعالها فقط ،أما الداخلي هو وصف الشعوروالأحاسيس والتفكير الباطني.رماح بوبو حين تفرغ جواهرالشعروكإنها تقول لنا من انّ الحب الذي لانشعر به أبدياً فإنه ليس واقعا ولم يحصل بعد. رماح جعلت الشعر يركض ويركض على قدميه مثلما قالها يوما الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (إذا كان كارل ماركس جعل الفلسفة تمشي على قدميها بعد ان كانت تمشي على رأسها فأنا جعلتها تركض) . لأن ماركس أراد تغيير العالم بعد أن كان قبله أرادوا تفسيره.لذلك نرى مهمة الشعر أيضا هو الحلم في تغيير العالم بعد تفسيره من قبل الشاعر وهذا هو الحلم النشيط الذي نراه لدى الشاعرة رماح اللاذقية المسكن وسورية الهوية في ديوانها قيد دارستنا هذه (خشخات تنقر النافذة) والذي نرى من خلاله عيون الشعر لدى رماح وكإنها أصبحت نوافذا للجسد فتطل على الأشياء الجامدة والمتحركة وعلى أفعال البشر خارج مايحيط بها من جدران .
رماح كتبت في أحد أبواب القصائد(انّ الأحجار والمواد هي أسمى الموجودات ، الإنسان هو العماء أو الإختلاط المطلق.. الشاعر الألماني نوفاليس) وهنا يقول محمود درويش في قصيدته الشهيره( لاشيء يعجبني) وعلى لسان أحد ركاب الباص يقول: درست الأركولوجيا فلم أجد الهوية في الحجارة.للدلالة على أرض فلسطين وهويتها التي سرقت. وتبقى المواد لاتشعر ولاتحس وليس كما الإنسان المعذب على الدوام وهي الخالدة كما خلود خشب السنديان .
لو أريد الإنزياح أكثر وأعطي بعدا آخرا للخشخشة في موسومية الديوان التي تعني الصوت الصامت من حركة الأشياء فهي أقرب الى نبات الخشخاش الذي ينتج المورفين لتهدأة آلامنا عند مشرط الطبيب فهكذا هي البنية ومابنته رماح في لغز القصيد وشكل القصيد عموديا وأفقيا فتعطينا الخدر كي نسترخي على الأرائك حين نستدرك ماتعنيه رماح وهي تتوغل في شعاب ودروس النار في تفاصيل الحياة الصغيرة والكبيرة .
رماح لها القدرة على صهر المعرفيات في القصيدة التي تتشكل بين ماهو عام وخاص وتفصلها عن ذلك أيضا ميلودراما لآهاتٍ تنتظر. رماح في هذه المجموعة ترسمُ الموعظة من خلال شعوب مر بها الكثير من الطغيان ولازالت ترزخ تحته ومامهمة الشاعر سوى الإستعارة الواقعية ونقلها للقاريء بتوسعة أفقية وبزمكانية مرّت عليه وعاشها أو كان أحد أبطالها أو سمع بها بنقلٍ صادق.أضف إلى ذلك تعتمد رماح على إيصال الفكرة النهائية للقارئ بشكل صدمة بحيث أنّ القاريْ مُجبر على الشّعور بها بدراية تامّة مثلما نقرأ لأبطال النصوص من أنّ جميعهم كانوا على إدراك عميق بما يفعلونهُ و يستوجبُ المضيّ في فعله وإتمام ما أرادوا أن يصلوا إليه في ذلك المجتمع الذي يعيشون به مثلما حصل للعظيم ( لوركا) ، ومن ثمّ ردّة فعل المجتمعات جعلت من هذا الشاعر الفدائي مشهورا على مرّ التأريخ لأنّ الذي قام به هو ليس ضمن النّطاق الإعتيادي لأخلاق البشر وتضحيّاتهم بل هو حالة قلّما تتكرّر في التأريخ البطولي لنقرأ رماح بهذا الخصوص ونص( لوركا في أحضان النارنج) :
سأتناول هاتفي
سأتصل بلوركا
ثم أغلقه قبل إندلاع الرنين
هكذا ألعب مع عبّاد الشمس
أنكمش كازدحام النبض في مرحبا
جاءت بعد انتظار طويل
آسفة سوريا / أحاول أنْ/أعتق الملكوت
وأمشي الى الرذاذ/ ولكنك لاتنفكين قصيّة / وكل دنانكِ قصب
إبقَ حيث الغناء فالأشرار لايغنون ( مثل غجري)..
النص هنا صادم في جزءه الأول( سأتصل بلوركا) ثم تنثال رماح بشكل زهري وتعطينا درسها من أنّ لوركا والثورييون ليسوا عبيدا كما زهرة عباد الشمس وإنما يصنعون قراراتهم بمحض إرادتهم إذا ما أرادوا شمس الحرية .النص هنا بطولية خالصة فرديّة فأعطته رماح الطبيعة العابرة لسلوك الإنسان العادي،إذ أنّ القارئ يميلُ للتّعاطُف مع البطل وخُصوصا البطل الذي يحملُ عُنصر الخير لا الشرّ، والمتلقي يهمه الإستمتاع الأكثر تشويقا كما في الشعر المسرحي أو الفن السابع وكيف نرى البطل يقوم بدور تحقيق العدالة ولو على نطاق ضيّق لكنّها في المعنى العامّ تُفيد من أنّ البطل هذا هو المُخلّص أو هو المُنقذ للشّعوب من الظّلم والحيف الذي يحلّ بها. ومن خلال أولئك الأبطال تنطلق رماح إلى الشريحة الاجتماعية التي عاشت بها وترى ماهي ردة فعل الشعوب هذه أزاء أولئك الأبطال ولذلك إنداحت وقالت :(آسفة سوريا / أحاول أن/أعتق الملكوت /وأمشي الى الرذاذ..الخ) وكإنها هنا حين سمعت كلمة (مرحبا) من الطرف الآخر الذي هو ( سوريا) فأبدت بعذلها الجميل والرافض بنفس الوقت ( كل دنانك قصب) فلاثمر ولافاكهةٍ ولاشيء ينفع للآدميين . ومن بين كل هذا النص الممزوج بالفنتازيا والواقعية نجد أن هناك علاقة مفصلية بين الأبطال أمثال( لوركا) وردة فعل الشعوب الآخرى أي بمعنى أدق أصبح شعر رماح كوني أو أممي . وتستمر رماح بما يجول في سريرتها عن الأوطان في ( مخالب زنبقة) :
أيها الوطن
لماذا
كلما ركضنا نحوك
تمسكتْ بصندوق سيارة الخضار
وأخذتَ
ترمينا بالنباح
قال الروائي الشهير ساماراغو ( انهم يريدون عالماً للأثرياء فقط ، ونحن الفقراء نرد عليهم : ويحكم إبتعدوا عنا ثكلتكم ملياراتكم) . هنا الشاعرة كانت بمنتهى السطوع والسنا والتسربل والإيغال بالسياسة وحب الوطن الذي بات عصياً على الفهم وأصبحت المعايشة به لاتطاق لعدم
توفر العدالة المنشودة. وبالتالي لا يسعني سوى أن أتذكر من خلال هذه الميلودراما المفعمة بالحزن،الأغنية السورية الشهيرة للشاعر السوري (محمد سلمان) والتي كتبها أيام حرب الجولان 1973والتي تقول ( بكتب إسمك يبلادي /عل الشمس الما بتغيب / لامالي ولا ولادي على حبّك مافي حبيب) . لكن بلداننا يبدو عليها قد كتبت على أقراصٍ من الظلام بدلا من الشمس . وفي الشذرة الأخيرة ( ترمينا بالنباح) كانت الشاعرة في مستوى عالي من الإدراك والفهم العميق لما يخاف منه الفرد في ظل جمهوريات الرعب فليصمت كل من من يرفع راية الإحتجاج وهذه نقلها لنا الروائي العراقي (علي بدر) عن مستقبل العراقيين وكيف هم كمن يركض وراء الذئاب لمسكها وقتلها والإستفادة من جلودها لكنهم حين يصلوا اليها تلتفت اليهم وتمزقهم أربا .هذا يعني ليس لديهم مستقبلا وإنما هو السراب بعينه.هو الموت ولامناص منه لكن الثوري الحقيقي لايهابه.لنر الشاعرة بخصوص هذا الموت المارد في (نص ابتسامة مجففة):
الموت ليس موجعا أبدا
هو نهاية جميلة
إبتسامة مجففة
مايوجع
الاّ تحب إبنتي فساتينها الزرق
ولاتوسد ورد الله في كتابها
مايوجع
انْ يفقد الشعراء أسنانهم الأمامية
حينما مر كلكامش في طريقه الى دلمون على صاحبة الحانة (سيدوري) طالبا منها الحصول على عشبة الأبدية لأنه أصبح خائفا من الموت بعد فناء صديقه (أنكيدو) وظل يشرب الخمر حتى قالت له ياكلكامش ( لاخلود للجسد ، فعليك أن تكسو أطفالك وتشبع بطونهم وتدخل على زوجتك ضاحكا باسما) هذه هي الحياة لاغيرها إذا أردت أن تبني مجدك.وفعلا ظل كلكامش خالدا بإسمه بعد إن بنى لشعبه الكثير الكثير لكن الجسد توارى تحت التراب. أما الفيلسوف الألماني (هايدغر) وفي بداية القرن التاسع عشر فقال عن الموت( لاأخافه لآنه حينما يأتي أنا غير موجود وعنمدما لايأتي أنا موجود والمرء حين يموت لايحس بشيء) وهكذا بنى فلسفته على هذا القدر الذي يستحق الوقوف عنده.أما في آخر شذرة للنص والمتعلّقة بالعدميّة أيضا فكانت رماح متجاوزة في الإبداع عن أسنان الشاعر لأنها الواجهة الأمامية عند الصعود للمنصات ولكن هنا نقف ونقول : أغلب الشعراء في بلداننا لايستطيع أن يصلح ما أفسده الدهر لقلّة ذات اليد وأبسط الأمثلة الشاعر السوري محمد الماغوط بينما محمد مهدي الجواهري عاش في الغرب وكان يقول( أنا لمدة ثلاثين عاماً أعيش بأسنان أصطناعية دون أن يعرف أحد لأن من أصلحها لي هو الطبيب الخبير والخاص لرئيس الإتحاد السوفيتي أنذاك (ليونيد بريجنيف).ويبقى الشاعر قلقاً مضطرباً مع هاجسه وموقفه من العدمية التي أرّقت كبار الشعراء.لنحدّق في بوح الشاعرة رماح في ( لايعجبني هذا المُطهّر) :
سنشوى
وما إنْ يترمّم جلدٌ حتى
يفزّ من لدنهِ جلدٌ جديد
وثانية وثالثة سنشوى والى أبد الآبدين
لايعجبني هذا المطهر يادانتي
حتى تقول..
أحيينا ثانية أيتها
البلاد العنيدة
فكم من قبل أحييتنا
وكنا
رميما
في هذا النص نجد رماح تستخدم إسلوبين وهما الشك قبل الوصول الى اليقين والسخرية على غرارالشاعر الروسي (مايكوفسكي) والحداثة عندها لاتعرف التبعيض بحيث أننا نتخذ مايفيدنا منها ونترك التي لاتعجبنا .
أليغري دانتي وتلك السخرية التي يتحدث بها عن الجحيم وكيف يموت المرء ويذهب الى النار حسب زعم المثولوجيا الدينية وهذه مثلت في فيلم مرعب للغاية يصور لنا كيف تشوى البشرية العاصية ملايين المرات وفي كل مرة تحيى وتشوى من جديد ، ولماذا تحيى مرات ومرات ولماذا لاتشوى وهي ميتة ؟ لكي يصوروا لنا مدى العذابات التي تتلقاها هناك جراء أفعالك التي لاتؤمن بالرب الذي خلقك للعبادة فقط ( وماخلقنا الأنس والجن الا ليعبدون) وهذه موجودة في الإنجيل وفي كل الكتب السماوية .هل هو هذا الرب الرحيم أم أنه وحش جبار لايكل من تعذيب الآخرين. شعوبنا تعيش هذا الجحيم اليوم وكإننا في نار الرب المرعبة التي تجعلنا ننظر اليه وكإنه وحش كاسر أو أنه طاغية لايختلف عن بقية طغاة هذا العالم أمثال دراكولا و هتلر وصدام وغيرهم. فإذا لم تعبد هؤلاء القتلة المتجبرين كما الآلهة فعقابك الشواء والتعذيب والذوبان في حامض الكبريتيك. وحتى إذا أتيت بموعظة تدحض ميثولوجيا النار كفّروك مثلما حصل مع المطران الزنجي الأمريكي (كارلتون بيرسون) والذي مثلت قصته في فيلم بديع عام 2018بعنوان( تعال يوم الأحد) تمثيل إيجيفور وكوندولا راشود . قال المطران انّ جميع المؤمنين وغير المؤمنين سيتم تخليصهم يعني لايوجد عذاب أخروي مما أثار حفيظة المتشددين أنذاك في الخمسينيات من القرن المنصرم وأرادوا قتله لأنه تجاوز على ماجاء في الإنجيل .
بعد كل هذا الإستعراض أنا أرى نتيجة تجوالي و ترحالي لمختلف الشّعوب وأجناسها توصلتْ إلى نتيجة مفادها أنّ أسوأ إنسان في مختلف الميادين هو الإنسان المتأسلم لأن الإسلام يختلف عن كلمة مسلم.كما وأن بقيّة الشّعوب إستطاعت بالقدر الكبير أن تصل الى السوبرمان ( الإنسان الأعلى ) الذي كان ينادي به الكاتب الشهير ( نيتشه) في كتابه هكذا تكلم زرادشت فارتقتْ إلى المستويات العليا في الحضارة والديمقراطية . بينما المتأسلم أصبح أكثرُ افتراسا وحقدا و فتكا لبني جلدته وبدون أدنى رحمة لآنه قد إتخذ الخرافات أعرافاً ودساتيرا ومثل ما قال الفرنسي الشهير فولتير ( من يجعلك تؤمن بالخرافات والسخافات يستطيع أن يجعلك ترتكب الفظائع) . وهكذا بقي المتأسلم ليس سوى أن يدّعي بحضارته العريقة وحريته الزائفة بينما الحريّة نالها الفرد قبل الحضارة (ليستْ حُريّة الفرد من الحضارة فهذه الحريّة كانتْ في أقصى درجاتها قبل نشوء الحضارة…. سيجموند فرويد) . وتبقى شعوبنا بمناضليها اللذين يتصدون لكل طاغٍ وفي كل زمان ومكان في سبيل نيل المطالب بالتمني لأن أسوار الطغاة محصنة ومنيعة وليس من السهولة كسرها والغلبة عليها .لنقرأ رماح بخصوص تضحية الثوار ونص ( عائد عن الصليب) :
ظل مصلوبا حتى
بنت الأقمار في عينيه عشا
أزاح نظرته عن جلاده
كي لايحرجه بإحتمال الحياء
لكن كل من يقترب منه
يلمح على كتفيه
ثقوبا كالمسامير تشد للريح قامته
وعلى شفتيه يلمح
بريق أغنية كانت
ولما تزل
الأخُ التّوأمُ حين يقتلُ أخاه يتألم وبعدها يندم ( ولات ساعة مندمِ)، هذا هو طبعُ البشر الذي يميلُ إلى الصّراع الدّائم والدامي على مرّ العصور.فهنا نجدُ من أنّ الشاعرة تناولت مسألة الصّراع الذي أورثه البشر منذُ الأزل سواء إنْ كان صراعا طبقيّا أو فكريّا أو صراع المنازعات الكبرى، وصراع الأديان كما ورد أعلاه في نص الشاعرة ، بحيث أنّ الإنسان لو نظر لنفسه في المرايا لخجل من نفسه أو تحوّل إلى إنسان متمادي في حُبّ ذاته ونرجسيته .يتجلّى هنا ما ماقرأناه عن الملك الفرنسي لويس السادس عشر المجرم المتعطش للدماء والذي لم يسلم من بطشه حتى أخوه الطيب الورع فقال له قبل أن يقتله كلماتاً قلّما مرّت في تأريج الإجرام: ( أخي الطيّب والمُحبّ والسّاذج أنت لا تصلحُ للأرض بل للجنّة والعالم السّفلي أو بالقرب من ربّك الرّحيم ..أمّا أنا فقد قطعتُ شوطا كبيرا مع الدّم ولا مجال هنا للنّكوص والعودة من جديد إلى الأخلاق والأخذ بنصائحك والكفّ عن الدّم.. ولذلك سأرسلُك سريعا إلى جنان الخلد فأنت تصلحُ هناك وليْس هنا ..فقتله دون أدنى رحمة أو أسف). وهكذا إتخذت رماح من صلب المسيح نموذجا لبقية الثوار الذين ظلوا يحملون صليبهم فوق ظهورهم يتحدون الطغاة وليأتي الموت إذا كان في سبيل قضية أو مبدأ لصالح الشعوب المقهورة مثلما أعدمت الثائرة الفرنسية( مدام رولان) بالمقصلة بعدما كانت هي المدافعة الأولى عن الحرية وياما وياما نالت المقاصل والسجون من الثوريين وظلّت أرواحهم تصدح في سماء الخلود.لنتمعن رماح فيما كتبته عن السجون في (صفحات) :
يتبـع في الجزء الثانـي
هاتف بشبوش/شاعر وناقد عراقي