التشكيلي خالد خضير الصالحي
التشكيلي خالد خضير الصالحي
حاوره :وديع شامخ
حاوره :وديع شامخ
*- كتابات شاكر حسن آل سعيد،يمكن ان تعدّ منطلقا لتأسيس مرتكز للنقد العراقي الجديد .
*- أميل الى دراسة اللوحة باعتبارها واقعة نصية أي شيئية متيريالية ذات ملمسية (Texture).
*- ثيمة العنف موجودة في آلية إفتضاض السطح التصويري لتظهر منه اللوحة، وهنالك العديد من التجارب الفنية العراقية التي تشتغل الان على موضوعة العنف.
*- مطوية المعرض مدخلا قرائيا يقترحه الفنان ونتقبله بصفته قارئا للمنجز وليس بصفته منتجا له.
مهاد
يتوافر خالد خضير الصالحي على تنوع وثراء في استخدام موهبته، فهو رسام أبتعد عن شروط اللوحة المسندية ولعبة الالوان، وارتضى الخط عنصرا بنائيا للوحاته، فلم يستعر ادوات الخطاطين فقط، بل روح اولئك الخطاطين الذين تشبعوا بحبرية أولئك الشخوص الذين كان يرسمهم بمداد اسود فاحم على مساحة مجاورة لنصوص الادب ، وهو شطرنجي بارع، ومدرب للمنتخب العراقي الآن، وللأردني سابقا، وشاعر، وناقد في المجالين التشكيلي والشعري، وقد كتب عنه القاص محمد خضير قائلا : “وجد خالد خضير في فن الرسم ضالة يسكن بها نزعة من نوازع موهبته المتعددة الجوانب .. فهو لاعب شطرنج وشاعر وناقد .حين امسك برأس الخط ، انجذب إلى النقطة الشابحة على رقعة رؤيته. شخص وحيد ، قدم من الضفة البعيدة لبحيرة الحبر ، وحينما تكرر حضوره ، تشبع الفنان بحبرية هذا الشخص ، فلم يكن هذا الشخص سوى روح دمية مجنحة ، تبحث عن جسد واسم الأسرة . سلم خالد شخصه للطباعة فاحتل حيزا ضيقا إلى جوار النصوص الأدبية. واكتفى الشخص بهذا الحضور ، كما قنع الفنان بالتخطيط وسيلة وحيدة لاستحضار أشباح حبرية لفراغه التصويري. إذ ما يمتاز به التخطيط على اللون والظلال ، اتساع مساحة رقعة البصر ، وتقلص حجم الشكل إلى نقطة ضائعة في فراغ الرقعة الواسع. هذه مزية تناسب لاعب أدوار دهرية”..
س– نراك متأثرا كثيرا بالناقد شاكر حسن آل سعيد ،هل من إضاءة لدور آل سعيد الفني والنقدي في الحركة التشكيلية العراقية؟
…. قدّم شاكر حسن آل سعيد الكثير للتشكيل العراقي ، سواء من خلال دوره في تأسيسات التشكيل العراقي، أو في المنجز المتحقق ،و في جهده التنظيري. ففي الحقل الأول ساهم آل سعيد في تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث وفي كتابة بياناتها، وهي جماعة كانت تعنى بقضية التراث والمعاصرة ، وجاءت صدى لشتى تمظهرات خطاب عصر النهضة العربية في التعبير عن التراث بروح حداثية، وربما أيضا في التعبير عن الحداثة بروح التراث العربي وصولا إلى إمكانية التعبير عن الروح المحلية، كما ساهم بعد ذلك بعقدين في تأسيس تجمع البعد الواحد، وهو يعنى ظاهريا برعاية الفن الذي يتخذ الحرف العربي ميدان إشتغال له ولكنه يعنى بالظاهرة الخطية كبعد واحد، أي “كدايمنشن”، وهو مفهوم شكله آل سعيد للربط بين تعاريف النقطة في ثلاثة حقول في الثقافة العربية وكلها تعتبر النقطة أزلا للأبعاد الأخرى: أولا، الخط العربي الذي يعتبر النقطة مقياسا للحرف، ومن ثم للكلمة، وفي النهاية لكل كتابة، أي ازلا لكل تعبير يتجسد من خلال الحرف العربي، وان النقطة عند الصوفيين كانت كما يصفها الحلاج “أزلا لكل شيء”، وأخيرا فان النقطة عند أخوان الصفا ليست إلا أزل للخط الذي هو البعد الواحد الذي يشكل أزل السطح، البعدين، وهما بدورهما يكونان أزلا للحجم، أي الأبعاد الثلاثة، وقد أوضحنا ان محاولة آل سعيد هذه ليست إلا امتدادا لتوجهه الأول في التمسك بجذوره التراثية التي تضمن تقبل تنظيراته في سوق الفكر في خمسينات وستينات القرن الماضي، أيام هيمنة النقد الاجتماعي، وهيمنة الايديولوجيا التي صبغت بصبغتها كل مناحي الثقافة والفكر العربي، فكان جهازه المفاهيمي (التراث بقوانين اللوحة المسندية) قابلا ليتسع لكل تحولات تجربته في الرسم، وهو ماحصل في السبعينات مع تجربته التجريدية التي كانت لديه ليست الا امتدادا، وان بطريقة لا واعية، او ربما متسترة، لمتجهه الذي ابتدا به حياته واعتقد انه ختمها به، ثم ثانيا، أقام الدنيا واقعدها في تحولات منجزه المتحقق بالرسم، من الرسم بروح جماعة بغداد، حيث كان يرسم الفلاحين في مفردات حياتهم باعتبارها اجواء تمنحه الفرصة لاختبار رؤيته في (التعبير عن الروح المحلية) الى التجريد “تابيس” وبرؤية صوفية عربية، ثم الى فن الحقيقة المحيطية، اللوحة ذات البعد الواحد، ثم اللوحة المتآكلة فاللوحة ذات الوجهين، وثالثا في المجال التنظيري كان ال سعيد يمر بتحولات ضخمة يحاول ان يساوق فيها مفاهيمه لتبدو منسجمة ومتواشجة مع بعضها ومع مرتكزاته الاساسية التي بنى عليها جهازه المفاهيمي منذ بداياته الاولى وحتى اخر سطر دونه قبل وفاته، فقد كان مساهما فعالا ان لم يكن هو من دون البيانات الرئيسة لجماعة بغداد للفن الحديث، ثم بدا بالتحولات التنظيرية مبتدئا بكتابه الحرية في الفن والبيان التاملي، ثم تتالت كتاباته في فن الحقيقة المحيطية والى كتابه الاخير والمهم والنبوئي (البحث في جوهرة التفاني بين الانا والاخر) والذي اتم فيه تشييد جهازه النقدي على مرتكزات ثلاثة: الاسطورة، واللغة، والفن (شيئية اللوحة)، الا انه خلال هذه المرتكزات الثلاثة، وبها، كان يكتب عن مختلف الموضوعات بسهولة وقدرة على مواشجة المفاهيم واخضاعها لنسقه الفكري، فكتب عن الأوفاق والحرف والخط العربي والرقى والشطرنج وعشرات الموضوعات، وانا اعتقد بالحوار المدون، وان الامم التي تفتقر الى الى التدوين تفتقر بالضرورة الى التامل الفلسفي، لان التفلسف هو تراكم مدونات، واننا لكي نؤسس نقدا تشكيليا علينا ان نؤسس الية حوارية تنطلق من المونات الاساسية في التشكيل العراقي، والتي تشكل مدونات ال سعيد مرتكزها الاهم، ولا أريد ان أطيل عليك فلقد اعتبرت كتابات ال سعيد منطلقا يمكن منه وإضافة إليه ان نبدأ حوار تأسيس النقد العراقي، وهو رأي يجب ان يستدعي موقفا في أجواء الركود الفكري التي نمر بها، سواء كان موقف الآخرين القبول او الرفض.
س___ شهدت الستينات تمردا آخر قاده فنانون منهم (جماعة المجددين) مثل: علي طالب، صالح الجميعي، فايق حسين، محمد مهر الدين، للخروج بالفن التشكيلي من ربقة جماعة بغداد لكن نقاد ذلك الوقت لم يواكبوا ولم يفهموا هذا التطور الجديد. ما الذي تعتقده بشأن ذلك؟
….. لقد كان النقد التشكيلي ممثلا لفهم (رسمي) للفن ولدوره الإجتماعي و(النضالي!) في سبيل تقدم الأمة!! وذلك راجع برأيي إلى سيطرة القوى السياسية للأحزاب والحكومات على مجمل الفهم الرسمي للرسم ودور كل من الرسم والنقد، فقد كان النقاد ومازال عدد كبير منهم مدفوعين بمسبقات نقدية (يفصّـلون) عليها تجارب الفنانين. بل كان عدد منهم يحاول ( تأسيس مدرسة عربية للنقد التشكيلي)، هي في حقيقتها تكريس لمعطيات تمسكت بها القوى المتنفذة لتوفير أغطية فكرية لممارساتها المنحرفة ليس تجاه الفن فقط. لقد شكلت طروحات العديد منهم قوى كابحة لانطلاقة الفن العراقي.
وأنا أوافقك الرأي ان التحول الأهم في الفن العراقي قد حدثت بمجيء (جيل الستينات)، وهي تسمية أتحفظ عليها إذا استخدمت كما تستخدم لأهداف تأريخ الأدب والشعر في العراق، وقد كانت أجواء الخامس من حزيران تلقي بثقلها على الواقع العربي، فظهرت مجموعة من الرسامين الشباب وقتذاك، ومن أبرزهم جماعة المجددين، وهم تعبيريون أساسا، إلا أن أهم المرجعيات التي استندوا عليها: رفض الهيمنة التي أسميتها (آيديولوجمالية)، باعتبارها شرطا مسبقا من شروط الرسم!!، ثم اقترابهم من استساغة فكرة اعتبار اللوحة شيئا مستقلا، لا تقليدا لشيء آخر (أشكال الواقع)، والأمر الأكثر خطورة وثورية، اعتبار الرسم مغامرة تقنية في كيفية استخدام المادة على سطح اللوحة، بينما كان جيل جواد سليم تقليديا في استخدام المادة، وكما هو معروف ان أهم ثورات الفن هي في التنوع الهائل في استخدام المادة والجرأة في ذلك، و لن أخفيك ان ما هو مطروح من نقود صحفية مصابة بفقر الدم المعرفي والجمالي والذي يداري خيبة فشله في قراءة اللوحة بالتعكز على طروحات أيديولوجية يتم تفصيلها بمقاسات جاهزة تصلح لكل أنماط الإنتاج الفني والمنتجين.
س– ماهي المفاهيم النقدية او المدرسة التي تميل إليها في تحليل النصوص التشكيلية ؟؟
…. انها مفاهيم تعنى بدراسة الواقعة الشيئية او مادية اللوحة، واعتبار اللوحة مناسبة لوضع المادة على سطح ما، والمادة تشتمل اللون، وهي اقرب ما تكون الى المفاهيم النصية والسيميولوجية التي اعتقدها الاكثر كفاءة في الوقت الحاضر على دراسة العمل الفني بصفته المادية، أي دراسة اللوحة باعتبارها واقعة نصية بمعنى انطوائها على بنية مادية (texture).
س— أنت متابع دقيق للحركة التشكيلة العراقية في كل أطوار تشكلها منذ بداية القرن العشرين ولحد الآن؟؟ هل تعتقد ان الفنانين العراقيين شكّلوا مدارس فنية متميزة كما هي الحال في الغرب ، وهل أن المشهد التشكيلي العراقي كان عبارة عن حلقات جماعية متصلة أم هناك طفرات نوعية وإستثنائية كأفراد ؟
…. لقد وقع الكثيرون ضحية تلفيقية الخطاب المهيمن على الفن العراقي منذ بداية تشكله في النصف الثاني من القرن الماضي، واستمرار هيمنته على الفكر والثقافة العربية طوال القرن الماضي. وقد لعب هذا الخطاب دورا خطيرا في قولبة المفاهيم الفنية، وقولبة الأساليب الفنية والأشكال في قوالب (مقبولة) من المؤسسة الرسمية الحزبية التي لم تختلف آلياتها وفهمها للفن رغم تحولات سيطرتها على الواقع العربي وحتى الوقت الحاضر مما دفع دعوات الحداثة الى ان تشكل هامشا في الثقافة العربية وحتى الوقت الحاضر وربما حتى لعقود طويلة قادمة. ان الوضع الصحي للفن برايي حينما ينطوي على التنوع الذي يراه التقليديون بلبلة واختلافا ونراه رحمة وحيوية في المنجز، ان الفن لغة عالمية ولا علاقة له بالمحليات، يمكن ان يطرح سمات محلية ولكن ليس باشتراطات قبلية كما كانت جماعة بغداد والخطاب الذي انبثقت عنه يطرح الامر.
س– يذهب القاص العراقي الكبيرمحمد خضير إلى الشهادة على تنوع مواهبك بوصفك “رسام وخطاط وشاعر شطرنجي ” وأنا أضيف إليك صفة الناقد الحساس واللاقط الجريء، كيف تستطيع التجوال في رحاب هذه القنوات الإبداعية، وأيهما له الكفة الراجحة ؟
… إنه التنوع الذي إمتدحناه قبل قليل، أليس كذلك، لقد كتب القاص غالب هلسا في مقدمة ترجمته لكتاب “جماليات المكان لباشلار” ان اهمية أي كتاب هو حينما يدخل لحمة الثقافة المحلية، وهو ما كان يفعله بابداع نادر شاكر حسن آل سعيد حينما كان يصهر كل شيء ليخرج بخلطة ثقافته والتي كان لا يتحرج بوصفها بـ(ـالكولاجية)، أي التلصيقية او الترقيعية، إيمانا منه بوضوح تنوعها، إلا ان ابدع ما كان فيها انها انصهرت كلها في ثقافة وخطاب آل سعيد، وارجو ان اكون قد تمكنت من تحقيق درجة ما من ذلك، فقد استعرت مرة مفهوم الايقاع في كتابتي عن الرسامة عفيفة لعيبي وهو مفهوم شطرنجي يوضح سرعة تحولات الوضع على رقعة الشطرنج.
س… يقول الشاعر والباحث العراقي شاكر لعيبي “.كان العنف يجد على طول وعرض الفن الأوروبي والأميركي تعبيرات له. لقد استثمرتْ مفهومة (الطاقة) الفيزياوية بهذا الاتجاه: طاقة الضوء عند الانطباعيين كانت حالمة بالطبع، لكنها التقت، عبر طاقة الكهرباء المُسْتَحْدَثة منذ بعض الوقت، بحركة (المستقبلية) الإيطالية كتعبيرٍ جمالي عُنْفي عنها. كان المستقبليون يشدّدون على فكرة الحركة والسرعة والعنف، وكان بعضهم يؤيد فكرتي الحرب والفاشية.”
بعد مراحل الحروب والدمار التي عاشها المجتمع العراقي خصوصا … هل تلاحظ بروز اشخاص او تيارات فنية في المشهد التشكيلي العراقي بحثت موضوع العنف وإثاره، وجسدته في اعمال تشكيلية أو نحتية متنوعة ؟
…. ثيمة العنف موجودة في آلية إفتضاض السطح التصويري لتظهر منه اللوحة، وكذلك يمكن أن نجد صدى العنف في العديد من المدارس الفنية كالدادئية والسوريالية والمستقبلية، ونجده في موضوعات عصر النهضة التي تتضمن القتل الحرب عند” روبنز وجويا وديلاكروا”، وعشرات الرسامين الاخرين، وهنالك العديد من الاعمال الفنية العراقية التي بدات بالاشتغال على موضوعة العنف الذي بدا وكأنه صار قدر العراقيين في هذه المرحلة، ومن هؤلاء الفنانين: هناء مال الله ونزار يحيى وغسان غائب وقبلهم يوسف الناصر وهاشم حنون، وقد تناوله كل منهم باسلوب خاص به.
س… هل كانت لدى الفنان التشكيلي العربي والعراقي ، جرأة وحرية في معالجة موضوعات يومية هامشية او محرمة او على حد تعبير شاكر لعيبي “محاولات معالجة الفن لابتذالات اليومي مثلما حصل مع الإنطباعية في الرسم والنحت. وتيارات ومذاهب وحركات مثل (الواقعية الجديدة) و(فن البوب) و(التلطيخية) و(فن الأرض Land art) و(الفن الفقير( pauvre art ) والتي قدّمت كلها تصورات بلاستيكية عن أشياء لم تكن لتعتبر فيما مضى جزءاً من مفردات الفن: حذاء عسكري ضخم، شراشف وسخة، التعفّن على الحيطان، قطع الصابون، مشدّات الصدور، المزابل بل الغائط نفسه والقيء ،و مثلما أوصلتْ مدرسة (الفن الجسدي( art corporel ) العنف الرمزي إلى أقصاه مختارة الألم الفيزيقي للجسم البشري بل التعذيب كوسائل للتعبير الفني وهي تعلن أن الموت والمعاناة إنما هما طرفان رئيسان يشكلان العالم وعملية الخلق الفنيّ ” ؟
…. يفتقر المشهد التشكيلي العراقي والعربي الى الجرأة التي وصلها الفنان الاوربي، ويفتقر المتلقون الى القدرة على هضم قدر كبير مما وصل اليه الفن العالمي، ويفتقر النقاد كذلك الجرأة في التبشير بتحولات الفن مما يعني ضلوعهم في وأد التحولات الجديدة قبل نشوئها، كما أنهم يفتقرون الى الجرأة بالتبشير بأنماط من الفن الموجودة والتي لم تزل في منطقة هامش الفن، كالفن الفطري أو الفن الهامشي outsider art الذي يظهر في تجارب العديد من الفنانين الهامشيين العراقيين في مجال الرسم: “كهاشم تايه، أو رؤيا رءوف، أولهيب جادو”.
س— بدأت رساما- مخططا، وها أنت منصرف الآن كليا إلى النقد. ترى هل تقدم الناقد فيك على الرسام؟
– ليس كليا تماما، فأنا رسام الآن ، لكني لم أعد مصورا، والفرق في لغتنا العربية ملتبس، فالرسام هو المخطط، الكاليغرافي، بينما المصور هو الملون، وكما هي الحياة، تجد أن الحدود بين هذين العنصرين ليست حدودا واضحة، خطا مستقيما، ولكن يمكن على أساسه وضع الكرافيكيين والحروفيين (الذين يمارسون الحروفيات ككاليغراف في الرسم) والمخططين (الذين يستخدمون الأقلام بأنواعها، وحتى أية أداة تنتج أثرا على سطح) في فئة واحدة هي فئة الرسامين ، وبهذا لا أكون قد هجرت الرسم فأنا أنشر بصورة مستمرة في الصحافة العراقية ، وأن كانت الكتابة قد أخذت جزء كبيرا من جهدي . إن إدامة وجود علاقة متوازنة بين الرسم والإبداع بصفة عامة والنقد مسألة تتطلب جهدا وبنية عقلية قادرة على الاشتغال على نمطي الإبداع: السامي و النثري معا، وتلك قضية تستوجب نمطين من الأنشغالات العقلية، بينهما مسافة، وأنا أعتقد أن خير من جمع تلكما الصناعتين، في الفن التشكيلي العربي هو أستاذنا الفنان الناقد شاكر حسن آل سعيد.
س– أنت تكتب النقد الشعري أيضا.. فهل هناك إختلاف في جهازك المفهومي النقدي لدخول غابة النصوص الشعرية ، عن تلك العدّة النقدية التي تحملها وأنت تفكّ شفرات النص الصوري ” اللوحة” ؟
… طبعا هنالك إختلافات كبيرة بين النصين اللغوي والبصري، مثلما هنالك مشتركات، فعدد من هوامش العنوان في (كتب) الشعر ذات طبيعة بصرية او مادية، كلوحة العنوان والتخطيطات المرافقة وأشكال الحروف والتصميم وهندسة النص على سطح الصفحات وغيرها. ولأننا كنا قد بدأنا علاقتنا بالثقافة بداية لغوية، من خلال الأدب، والشعر خاصة، جَعلتنا نبحث ، معظم الوقت ، في تخوم العلاقة بين هذين النمطين الإبداعيين، رغم أنهما من طبيعتين مختلفتين: طبيعة لغوية، وأخرى بصرية، إلا أننا نشعر بوشائجهما قوية بشكل محسوس في ميدان الصورة الشعرية والبصرية معا، إلا أننا رغم وجهة النظر هذه التي نزعم أنها خبرت كلا الفنين بدرجة لا بأس بها، وهو ما يجعلنا نتعامل مع الجوانب البصرية للغة، أو ما تسميه هناء مال الله (العناصر التكوينية للوحة) بشكل يجعلها أمامنا وكأنها لوحة، باحثين فيها عن الجوانب البصرية، وعن ما يربطها بالرسم من الناحية البنائية، إلا أننا بقينا غير ميالين بدرجة كبيرة إلى الاعتماد على النص اللغوي الذي يكتبه المبدع او مرسل الخطاب اعتمادا في ذلك على ما نشعره من اختلاف في طبيعة الخطابين: البصري واللغوي، وبذلك فنحن كنا ُنقصر اهتمامنا وثقتنا بما يبثه النص البصري باعتباره الوثيقة الوحيدة المطروحة للقراءة ومن ثم التأويل هنا، أي كمون مركزية القراءة في النصوص البصرية، إلا أننا خرقنا هذه القاعدة حينما درسنا نص (عيد البوقات) للشاعر حسين عبد اللطيف الذي نشره في نص (كتاب) ديوان نار القطرب ، وقد قلنا “نص كتاب” للتدليل على الجانب (المادي) للكتاب، وهو ما قادنا إلى ان ذلك (الكتاب الذي بين الدفتين) لا يقتصر على (المدونة) اللغوية بل يتشكل ، برأينا من مجموعة من الإكسسوارات، او ما اقترح القاص محمود عبد الوهاب في محاورة شفوية لي معه تسميته (هوامش العنوان) على ما اذكر، وهي: صورة الغلاف ولونه، و العنوان ونوع خطه، وشكل الحرف، وعناوين القصائد ونصوصها، ثم التصديرات والإهداءات والهوامش والمقتبسات، ثم ما فعلته أنا بعدد من النسخ حينما قمت بالرسم في الفراغات التي بين نصوصها.
وحينما درج نقاد الأدب يبتدئون بالعنوان، باعتباره بوابة النص، وهو هنا يتوفر على بنية صورية ورمزية دالة بعمق، فنحن نبتدئ مما يهمله أولئك النقاد، وهو الغلاف، باعتباره بوابة الديوان القرائية الأهم، ونحن نزعم إننا أكثر معرفة بأهمية هذا الغلاف باعتباره دالة قرائية مهمة وبؤرة لامة؛ بسبب كوننا من قام بتصميم ورسم الغلاف، وهو تخطيط بالحبر الصيني، مصورا بطريقة الصورة السلبية (النيجاتيف)، ويمثل واحدا من مجموعة من أقدم الدمى والتماثيل الحجرية المجسمة العراقية القديمة التي ارتفعت فوق مستوى الحرفة الصرف الى مرتبة الفن الحقيقي، مرجعيتنا البصرية والدلالية، عند إنجازنا الغلاف.
ونحن نعتقد ان الغلاف هو جزء من هوامش العنوان؛ فرغم ان الغلاف لم يرسمه الشاعر، إلا انه وافق عليه، وتبناه فكان بالنسبة إليه مادة نصية جاهزة، يماثل ما يعرف بالمواد الجاهزة (ready made) التي يستخدمها في بناء (كتابه).
س — وما رأيك بمطويات المعارض التي يسطر فيها الرسام رؤيته ويسارع النقاد إلى نسخها والبناء عليها؟
فيما يخص مطويات المعارض فقد كتبنا مرة موضحين ان” كاسيرر” قد عرّف الفن بأنه لغة رمزية، وهيمن ذلك التعريف على الدراسات الفنية في القرن العشرين، فكان أخطر نتائج تلك الدعوة، حسبما يؤكد جورج كوبلر، ان استأثرت دراسات المعنى بكل الاهتمام ، فكان “الحكم على العمل الفني في ضوء مضمونه, سبيل يؤدي الى تدخل كل أنواع الأهواء والتحيزات التي لا صلة لها بالأمر” كما يقرر (هربرت ريد)؛ فتراجع تعريف الفن بكونه نظاما من العلاقات الشكلية، وهو التعريف الأهم برأينا، رغم انه مازال بعيدا عما ألفه الناس، فقلما يعتقد سوى القلة من المختصين في الفن التشكيلي بآفاقه الحداثية ان اللوحة ليست في النهاية إلا سطحا مطليا بالمادة، أي الإقرار (بشيئية اللوحة) ومادية التعبير، وان جل ما يكتبه الرسامون في مطويات معارضهم في العراق ينصب في جانب المعنى بمختلف اتجاهاته، وهذه ، برأينا الخطورة الأولى في تلك الكتابات، كونها تكرس تناول المعنى على حساب متيريالية اللوحة.
وتتمثل الخطورة الثانية في اتجاه تحول كتابات التشكيليين في مطويات معارضهم إلى ما يؤدي إلى بث موجهات قرائية متعمدة ، وتتمثل الثالثة، بشيوع ما يسميه شاكر لعيبي قضية اختراع حوامل خادعة supports سرعان ما يقع فيها الرسام نفسه بطريقة الخداع الذاتي بعد ان يبدأ الكتاب بتناقلها العمياني، فيبدأ الرسام بتكرار ترديدها مما يعرض التجربة إلى خطر التناسخ الداخلي الذي يجعلها تدور في فلك حلقة مفرغة تؤدي إلى توقف إيقاع التحولات الأسلوبية فيها، ولكن لا يمكن نكران وجود رؤية فنية تنظيرية متكاملة لدى بعض الرسامين ممن يحاولون تطويرها من خلال معارضهم التي يقيمونها وينظرون لها في مطويات معارضهم، ونحن نتقبلها كمدخل قرائي يقترحه الفنان بصفته قارئا للمنجز وليس بصفته منتجا له، وهذا هو السبب الوحيد الذي لأجله كنت (أؤسس) بعض وجهات نظري على الرؤية التنظيرية في مدونة المطوية.
ـ ما هي برأيك أبرز المرجعيات التي شكلت أساس التحولات الأسلوبية الحديثة في الفن التشكيلي العراقي؟
– إن تحوّل الفن العراقي من الرسم الشعبي إلى تقاليد اللوحة المسندية (لوحة الألوان الزيتية) هو الخطوة الحاسمة في تدشين الحداثة في الفن العراقي، وهو يعود إلى سفر الموفدين الأوائل لدراسة الفن التشكيلي (اكرم شكري، فائق حسن، جواد سليم….) ومن ثم تأسيس معهد الفنون الجميلة، وكانت مرجعيات هؤلاء ملتبسة بشكل مربك، فلقد كانت سطوة الإشكالية الحضارية لعصر النهضة العربية و(الموازنة المقدسة بين التراث والمعاصرة) تثقل كاهل هؤلاء ، وكان تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث 1950-1951 مصطبغا بجوهر خطاب هذه الإشكالية، وقد مثل جواد سليم رأس الحربة في إيجاد (نموذج تشكيلي عربي!) تتحقق فيه هذه الثنائية ، التي هي ليست شرطا من شروط الرسم (والنحت) بأية حال، ولكن لا أحد كان يجرؤ على قول ذلك علنا !!، وكان اكتشاف الواسطي، من قبل جبرا إبراهيم جبرا وتنبيه جواد سليم عنه، كان كافيا كمفتاح لحل تطبيقي لهذه المشكلة من قبل أوساط الفن التشكيلي، فقد أتاحت الاحتفاظ بدرجة (مقبولة) لدى الفنانين، وهم تعبيريون بالأساس، ولدى المتلقين الذين يبحثون أولا عن تشابه مع أشكال الواقع، وأخيرا كانت تلك الأشكال تذكر بالتراث! وفيها (تكنولوجيا) الحداثة متمثلة بالألوان والأدوات الأوربية!
لكن حلول جواد سليم، ونحن نتحدث عن الرسم اكثر من النحت، لأن مشكلة النحت كانت أشد تعقيدا ونؤجل الخوض فيها الآن، كانت يجب أن تكون بمقام (المقترحات) ويجب أن تتواصل، بحيث يقدم كل رسام مقترحه الخاص، بينما الذي حدث أن أضحت حلول جواد (أنساقا) و(نصوصا أولى) يستمد منها الفنانون المحيطون به (أشكالهم)، مع بعض التحويرات الطفيفة، فأصيب الفن العراقي الحديث بحالة من العقم والتناسخ الداخلي.
س — إلى أي مدى تأثر المشهد التشكيلي العراقي بهجرة المبدعين ؟
….. إن هجرة المبدعين العراقيين تنطوي على مزية مهمة في توفير جانب إيجابي في اطلاع الفنانين على تجارب فنية في البلدان التي هاجروا إليها، كما وفرت لهم فرصة الاتصال بالفنانين العالميين وبشكل مباشر وزيارة كبريات المتاحف والمعارض الفنية في كل أنحاء العالم، كما أتاحت لهم الحرية الكاملة في إنجاز تجاربهم وكان منجزهم محظوظا بالمتابعة النقدية التي حققت لهم الانتشار والذيوع وهذا بدوره أدى إلى اقتناء أعمالهم في مختلف المتاحف والكاليريهات العالمية، أتاحت لهم الاشتغال بمواد لم تكن لتتوفر لهم في العراق وخاصة في فترة الحصار.
*- أميل الى دراسة اللوحة باعتبارها واقعة نصية أي شيئية متيريالية ذات ملمسية (Texture).
*- ثيمة العنف موجودة في آلية إفتضاض السطح التصويري لتظهر منه اللوحة، وهنالك العديد من التجارب الفنية العراقية التي تشتغل الان على موضوعة العنف.
*- مطوية المعرض مدخلا قرائيا يقترحه الفنان ونتقبله بصفته قارئا للمنجز وليس بصفته منتجا له.
مهاد
يتوافر خالد خضير الصالحي على تنوع وثراء في استخدام موهبته، فهو رسام أبتعد عن شروط اللوحة المسندية ولعبة الالوان، وارتضى الخط عنصرا بنائيا للوحاته، فلم يستعر ادوات الخطاطين فقط، بل روح اولئك الخطاطين الذين تشبعوا بحبرية أولئك الشخوص الذين كان يرسمهم بمداد اسود فاحم على مساحة مجاورة لنصوص الادب ، وهو شطرنجي بارع، ومدرب للمنتخب العراقي الآن، وللأردني سابقا، وشاعر، وناقد في المجالين التشكيلي والشعري، وقد كتب عنه القاص محمد خضير قائلا : “وجد خالد خضير في فن الرسم ضالة يسكن بها نزعة من نوازع موهبته المتعددة الجوانب .. فهو لاعب شطرنج وشاعر وناقد .حين امسك برأس الخط ، انجذب إلى النقطة الشابحة على رقعة رؤيته. شخص وحيد ، قدم من الضفة البعيدة لبحيرة الحبر ، وحينما تكرر حضوره ، تشبع الفنان بحبرية هذا الشخص ، فلم يكن هذا الشخص سوى روح دمية مجنحة ، تبحث عن جسد واسم الأسرة . سلم خالد شخصه للطباعة فاحتل حيزا ضيقا إلى جوار النصوص الأدبية. واكتفى الشخص بهذا الحضور ، كما قنع الفنان بالتخطيط وسيلة وحيدة لاستحضار أشباح حبرية لفراغه التصويري. إذ ما يمتاز به التخطيط على اللون والظلال ، اتساع مساحة رقعة البصر ، وتقلص حجم الشكل إلى نقطة ضائعة في فراغ الرقعة الواسع. هذه مزية تناسب لاعب أدوار دهرية”..
س– نراك متأثرا كثيرا بالناقد شاكر حسن آل سعيد ،هل من إضاءة لدور آل سعيد الفني والنقدي في الحركة التشكيلية العراقية؟
…. قدّم شاكر حسن آل سعيد الكثير للتشكيل العراقي ، سواء من خلال دوره في تأسيسات التشكيل العراقي، أو في المنجز المتحقق ،و في جهده التنظيري. ففي الحقل الأول ساهم آل سعيد في تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث وفي كتابة بياناتها، وهي جماعة كانت تعنى بقضية التراث والمعاصرة ، وجاءت صدى لشتى تمظهرات خطاب عصر النهضة العربية في التعبير عن التراث بروح حداثية، وربما أيضا في التعبير عن الحداثة بروح التراث العربي وصولا إلى إمكانية التعبير عن الروح المحلية، كما ساهم بعد ذلك بعقدين في تأسيس تجمع البعد الواحد، وهو يعنى ظاهريا برعاية الفن الذي يتخذ الحرف العربي ميدان إشتغال له ولكنه يعنى بالظاهرة الخطية كبعد واحد، أي “كدايمنشن”، وهو مفهوم شكله آل سعيد للربط بين تعاريف النقطة في ثلاثة حقول في الثقافة العربية وكلها تعتبر النقطة أزلا للأبعاد الأخرى: أولا، الخط العربي الذي يعتبر النقطة مقياسا للحرف، ومن ثم للكلمة، وفي النهاية لكل كتابة، أي ازلا لكل تعبير يتجسد من خلال الحرف العربي، وان النقطة عند الصوفيين كانت كما يصفها الحلاج “أزلا لكل شيء”، وأخيرا فان النقطة عند أخوان الصفا ليست إلا أزل للخط الذي هو البعد الواحد الذي يشكل أزل السطح، البعدين، وهما بدورهما يكونان أزلا للحجم، أي الأبعاد الثلاثة، وقد أوضحنا ان محاولة آل سعيد هذه ليست إلا امتدادا لتوجهه الأول في التمسك بجذوره التراثية التي تضمن تقبل تنظيراته في سوق الفكر في خمسينات وستينات القرن الماضي، أيام هيمنة النقد الاجتماعي، وهيمنة الايديولوجيا التي صبغت بصبغتها كل مناحي الثقافة والفكر العربي، فكان جهازه المفاهيمي (التراث بقوانين اللوحة المسندية) قابلا ليتسع لكل تحولات تجربته في الرسم، وهو ماحصل في السبعينات مع تجربته التجريدية التي كانت لديه ليست الا امتدادا، وان بطريقة لا واعية، او ربما متسترة، لمتجهه الذي ابتدا به حياته واعتقد انه ختمها به، ثم ثانيا، أقام الدنيا واقعدها في تحولات منجزه المتحقق بالرسم، من الرسم بروح جماعة بغداد، حيث كان يرسم الفلاحين في مفردات حياتهم باعتبارها اجواء تمنحه الفرصة لاختبار رؤيته في (التعبير عن الروح المحلية) الى التجريد “تابيس” وبرؤية صوفية عربية، ثم الى فن الحقيقة المحيطية، اللوحة ذات البعد الواحد، ثم اللوحة المتآكلة فاللوحة ذات الوجهين، وثالثا في المجال التنظيري كان ال سعيد يمر بتحولات ضخمة يحاول ان يساوق فيها مفاهيمه لتبدو منسجمة ومتواشجة مع بعضها ومع مرتكزاته الاساسية التي بنى عليها جهازه المفاهيمي منذ بداياته الاولى وحتى اخر سطر دونه قبل وفاته، فقد كان مساهما فعالا ان لم يكن هو من دون البيانات الرئيسة لجماعة بغداد للفن الحديث، ثم بدا بالتحولات التنظيرية مبتدئا بكتابه الحرية في الفن والبيان التاملي، ثم تتالت كتاباته في فن الحقيقة المحيطية والى كتابه الاخير والمهم والنبوئي (البحث في جوهرة التفاني بين الانا والاخر) والذي اتم فيه تشييد جهازه النقدي على مرتكزات ثلاثة: الاسطورة، واللغة، والفن (شيئية اللوحة)، الا انه خلال هذه المرتكزات الثلاثة، وبها، كان يكتب عن مختلف الموضوعات بسهولة وقدرة على مواشجة المفاهيم واخضاعها لنسقه الفكري، فكتب عن الأوفاق والحرف والخط العربي والرقى والشطرنج وعشرات الموضوعات، وانا اعتقد بالحوار المدون، وان الامم التي تفتقر الى الى التدوين تفتقر بالضرورة الى التامل الفلسفي، لان التفلسف هو تراكم مدونات، واننا لكي نؤسس نقدا تشكيليا علينا ان نؤسس الية حوارية تنطلق من المونات الاساسية في التشكيل العراقي، والتي تشكل مدونات ال سعيد مرتكزها الاهم، ولا أريد ان أطيل عليك فلقد اعتبرت كتابات ال سعيد منطلقا يمكن منه وإضافة إليه ان نبدأ حوار تأسيس النقد العراقي، وهو رأي يجب ان يستدعي موقفا في أجواء الركود الفكري التي نمر بها، سواء كان موقف الآخرين القبول او الرفض.
س___ شهدت الستينات تمردا آخر قاده فنانون منهم (جماعة المجددين) مثل: علي طالب، صالح الجميعي، فايق حسين، محمد مهر الدين، للخروج بالفن التشكيلي من ربقة جماعة بغداد لكن نقاد ذلك الوقت لم يواكبوا ولم يفهموا هذا التطور الجديد. ما الذي تعتقده بشأن ذلك؟
….. لقد كان النقد التشكيلي ممثلا لفهم (رسمي) للفن ولدوره الإجتماعي و(النضالي!) في سبيل تقدم الأمة!! وذلك راجع برأيي إلى سيطرة القوى السياسية للأحزاب والحكومات على مجمل الفهم الرسمي للرسم ودور كل من الرسم والنقد، فقد كان النقاد ومازال عدد كبير منهم مدفوعين بمسبقات نقدية (يفصّـلون) عليها تجارب الفنانين. بل كان عدد منهم يحاول ( تأسيس مدرسة عربية للنقد التشكيلي)، هي في حقيقتها تكريس لمعطيات تمسكت بها القوى المتنفذة لتوفير أغطية فكرية لممارساتها المنحرفة ليس تجاه الفن فقط. لقد شكلت طروحات العديد منهم قوى كابحة لانطلاقة الفن العراقي.
وأنا أوافقك الرأي ان التحول الأهم في الفن العراقي قد حدثت بمجيء (جيل الستينات)، وهي تسمية أتحفظ عليها إذا استخدمت كما تستخدم لأهداف تأريخ الأدب والشعر في العراق، وقد كانت أجواء الخامس من حزيران تلقي بثقلها على الواقع العربي، فظهرت مجموعة من الرسامين الشباب وقتذاك، ومن أبرزهم جماعة المجددين، وهم تعبيريون أساسا، إلا أن أهم المرجعيات التي استندوا عليها: رفض الهيمنة التي أسميتها (آيديولوجمالية)، باعتبارها شرطا مسبقا من شروط الرسم!!، ثم اقترابهم من استساغة فكرة اعتبار اللوحة شيئا مستقلا، لا تقليدا لشيء آخر (أشكال الواقع)، والأمر الأكثر خطورة وثورية، اعتبار الرسم مغامرة تقنية في كيفية استخدام المادة على سطح اللوحة، بينما كان جيل جواد سليم تقليديا في استخدام المادة، وكما هو معروف ان أهم ثورات الفن هي في التنوع الهائل في استخدام المادة والجرأة في ذلك، و لن أخفيك ان ما هو مطروح من نقود صحفية مصابة بفقر الدم المعرفي والجمالي والذي يداري خيبة فشله في قراءة اللوحة بالتعكز على طروحات أيديولوجية يتم تفصيلها بمقاسات جاهزة تصلح لكل أنماط الإنتاج الفني والمنتجين.
س– ماهي المفاهيم النقدية او المدرسة التي تميل إليها في تحليل النصوص التشكيلية ؟؟
…. انها مفاهيم تعنى بدراسة الواقعة الشيئية او مادية اللوحة، واعتبار اللوحة مناسبة لوضع المادة على سطح ما، والمادة تشتمل اللون، وهي اقرب ما تكون الى المفاهيم النصية والسيميولوجية التي اعتقدها الاكثر كفاءة في الوقت الحاضر على دراسة العمل الفني بصفته المادية، أي دراسة اللوحة باعتبارها واقعة نصية بمعنى انطوائها على بنية مادية (texture).
س— أنت متابع دقيق للحركة التشكيلة العراقية في كل أطوار تشكلها منذ بداية القرن العشرين ولحد الآن؟؟ هل تعتقد ان الفنانين العراقيين شكّلوا مدارس فنية متميزة كما هي الحال في الغرب ، وهل أن المشهد التشكيلي العراقي كان عبارة عن حلقات جماعية متصلة أم هناك طفرات نوعية وإستثنائية كأفراد ؟
…. لقد وقع الكثيرون ضحية تلفيقية الخطاب المهيمن على الفن العراقي منذ بداية تشكله في النصف الثاني من القرن الماضي، واستمرار هيمنته على الفكر والثقافة العربية طوال القرن الماضي. وقد لعب هذا الخطاب دورا خطيرا في قولبة المفاهيم الفنية، وقولبة الأساليب الفنية والأشكال في قوالب (مقبولة) من المؤسسة الرسمية الحزبية التي لم تختلف آلياتها وفهمها للفن رغم تحولات سيطرتها على الواقع العربي وحتى الوقت الحاضر مما دفع دعوات الحداثة الى ان تشكل هامشا في الثقافة العربية وحتى الوقت الحاضر وربما حتى لعقود طويلة قادمة. ان الوضع الصحي للفن برايي حينما ينطوي على التنوع الذي يراه التقليديون بلبلة واختلافا ونراه رحمة وحيوية في المنجز، ان الفن لغة عالمية ولا علاقة له بالمحليات، يمكن ان يطرح سمات محلية ولكن ليس باشتراطات قبلية كما كانت جماعة بغداد والخطاب الذي انبثقت عنه يطرح الامر.
س– يذهب القاص العراقي الكبيرمحمد خضير إلى الشهادة على تنوع مواهبك بوصفك “رسام وخطاط وشاعر شطرنجي ” وأنا أضيف إليك صفة الناقد الحساس واللاقط الجريء، كيف تستطيع التجوال في رحاب هذه القنوات الإبداعية، وأيهما له الكفة الراجحة ؟
… إنه التنوع الذي إمتدحناه قبل قليل، أليس كذلك، لقد كتب القاص غالب هلسا في مقدمة ترجمته لكتاب “جماليات المكان لباشلار” ان اهمية أي كتاب هو حينما يدخل لحمة الثقافة المحلية، وهو ما كان يفعله بابداع نادر شاكر حسن آل سعيد حينما كان يصهر كل شيء ليخرج بخلطة ثقافته والتي كان لا يتحرج بوصفها بـ(ـالكولاجية)، أي التلصيقية او الترقيعية، إيمانا منه بوضوح تنوعها، إلا ان ابدع ما كان فيها انها انصهرت كلها في ثقافة وخطاب آل سعيد، وارجو ان اكون قد تمكنت من تحقيق درجة ما من ذلك، فقد استعرت مرة مفهوم الايقاع في كتابتي عن الرسامة عفيفة لعيبي وهو مفهوم شطرنجي يوضح سرعة تحولات الوضع على رقعة الشطرنج.
س… يقول الشاعر والباحث العراقي شاكر لعيبي “.كان العنف يجد على طول وعرض الفن الأوروبي والأميركي تعبيرات له. لقد استثمرتْ مفهومة (الطاقة) الفيزياوية بهذا الاتجاه: طاقة الضوء عند الانطباعيين كانت حالمة بالطبع، لكنها التقت، عبر طاقة الكهرباء المُسْتَحْدَثة منذ بعض الوقت، بحركة (المستقبلية) الإيطالية كتعبيرٍ جمالي عُنْفي عنها. كان المستقبليون يشدّدون على فكرة الحركة والسرعة والعنف، وكان بعضهم يؤيد فكرتي الحرب والفاشية.”
بعد مراحل الحروب والدمار التي عاشها المجتمع العراقي خصوصا … هل تلاحظ بروز اشخاص او تيارات فنية في المشهد التشكيلي العراقي بحثت موضوع العنف وإثاره، وجسدته في اعمال تشكيلية أو نحتية متنوعة ؟
…. ثيمة العنف موجودة في آلية إفتضاض السطح التصويري لتظهر منه اللوحة، وكذلك يمكن أن نجد صدى العنف في العديد من المدارس الفنية كالدادئية والسوريالية والمستقبلية، ونجده في موضوعات عصر النهضة التي تتضمن القتل الحرب عند” روبنز وجويا وديلاكروا”، وعشرات الرسامين الاخرين، وهنالك العديد من الاعمال الفنية العراقية التي بدات بالاشتغال على موضوعة العنف الذي بدا وكأنه صار قدر العراقيين في هذه المرحلة، ومن هؤلاء الفنانين: هناء مال الله ونزار يحيى وغسان غائب وقبلهم يوسف الناصر وهاشم حنون، وقد تناوله كل منهم باسلوب خاص به.
س… هل كانت لدى الفنان التشكيلي العربي والعراقي ، جرأة وحرية في معالجة موضوعات يومية هامشية او محرمة او على حد تعبير شاكر لعيبي “محاولات معالجة الفن لابتذالات اليومي مثلما حصل مع الإنطباعية في الرسم والنحت. وتيارات ومذاهب وحركات مثل (الواقعية الجديدة) و(فن البوب) و(التلطيخية) و(فن الأرض Land art) و(الفن الفقير( pauvre art ) والتي قدّمت كلها تصورات بلاستيكية عن أشياء لم تكن لتعتبر فيما مضى جزءاً من مفردات الفن: حذاء عسكري ضخم، شراشف وسخة، التعفّن على الحيطان، قطع الصابون، مشدّات الصدور، المزابل بل الغائط نفسه والقيء ،و مثلما أوصلتْ مدرسة (الفن الجسدي( art corporel ) العنف الرمزي إلى أقصاه مختارة الألم الفيزيقي للجسم البشري بل التعذيب كوسائل للتعبير الفني وهي تعلن أن الموت والمعاناة إنما هما طرفان رئيسان يشكلان العالم وعملية الخلق الفنيّ ” ؟
…. يفتقر المشهد التشكيلي العراقي والعربي الى الجرأة التي وصلها الفنان الاوربي، ويفتقر المتلقون الى القدرة على هضم قدر كبير مما وصل اليه الفن العالمي، ويفتقر النقاد كذلك الجرأة في التبشير بتحولات الفن مما يعني ضلوعهم في وأد التحولات الجديدة قبل نشوئها، كما أنهم يفتقرون الى الجرأة بالتبشير بأنماط من الفن الموجودة والتي لم تزل في منطقة هامش الفن، كالفن الفطري أو الفن الهامشي outsider art الذي يظهر في تجارب العديد من الفنانين الهامشيين العراقيين في مجال الرسم: “كهاشم تايه، أو رؤيا رءوف، أولهيب جادو”.
س— بدأت رساما- مخططا، وها أنت منصرف الآن كليا إلى النقد. ترى هل تقدم الناقد فيك على الرسام؟
– ليس كليا تماما، فأنا رسام الآن ، لكني لم أعد مصورا، والفرق في لغتنا العربية ملتبس، فالرسام هو المخطط، الكاليغرافي، بينما المصور هو الملون، وكما هي الحياة، تجد أن الحدود بين هذين العنصرين ليست حدودا واضحة، خطا مستقيما، ولكن يمكن على أساسه وضع الكرافيكيين والحروفيين (الذين يمارسون الحروفيات ككاليغراف في الرسم) والمخططين (الذين يستخدمون الأقلام بأنواعها، وحتى أية أداة تنتج أثرا على سطح) في فئة واحدة هي فئة الرسامين ، وبهذا لا أكون قد هجرت الرسم فأنا أنشر بصورة مستمرة في الصحافة العراقية ، وأن كانت الكتابة قد أخذت جزء كبيرا من جهدي . إن إدامة وجود علاقة متوازنة بين الرسم والإبداع بصفة عامة والنقد مسألة تتطلب جهدا وبنية عقلية قادرة على الاشتغال على نمطي الإبداع: السامي و النثري معا، وتلك قضية تستوجب نمطين من الأنشغالات العقلية، بينهما مسافة، وأنا أعتقد أن خير من جمع تلكما الصناعتين، في الفن التشكيلي العربي هو أستاذنا الفنان الناقد شاكر حسن آل سعيد.
س– أنت تكتب النقد الشعري أيضا.. فهل هناك إختلاف في جهازك المفهومي النقدي لدخول غابة النصوص الشعرية ، عن تلك العدّة النقدية التي تحملها وأنت تفكّ شفرات النص الصوري ” اللوحة” ؟
… طبعا هنالك إختلافات كبيرة بين النصين اللغوي والبصري، مثلما هنالك مشتركات، فعدد من هوامش العنوان في (كتب) الشعر ذات طبيعة بصرية او مادية، كلوحة العنوان والتخطيطات المرافقة وأشكال الحروف والتصميم وهندسة النص على سطح الصفحات وغيرها. ولأننا كنا قد بدأنا علاقتنا بالثقافة بداية لغوية، من خلال الأدب، والشعر خاصة، جَعلتنا نبحث ، معظم الوقت ، في تخوم العلاقة بين هذين النمطين الإبداعيين، رغم أنهما من طبيعتين مختلفتين: طبيعة لغوية، وأخرى بصرية، إلا أننا نشعر بوشائجهما قوية بشكل محسوس في ميدان الصورة الشعرية والبصرية معا، إلا أننا رغم وجهة النظر هذه التي نزعم أنها خبرت كلا الفنين بدرجة لا بأس بها، وهو ما يجعلنا نتعامل مع الجوانب البصرية للغة، أو ما تسميه هناء مال الله (العناصر التكوينية للوحة) بشكل يجعلها أمامنا وكأنها لوحة، باحثين فيها عن الجوانب البصرية، وعن ما يربطها بالرسم من الناحية البنائية، إلا أننا بقينا غير ميالين بدرجة كبيرة إلى الاعتماد على النص اللغوي الذي يكتبه المبدع او مرسل الخطاب اعتمادا في ذلك على ما نشعره من اختلاف في طبيعة الخطابين: البصري واللغوي، وبذلك فنحن كنا ُنقصر اهتمامنا وثقتنا بما يبثه النص البصري باعتباره الوثيقة الوحيدة المطروحة للقراءة ومن ثم التأويل هنا، أي كمون مركزية القراءة في النصوص البصرية، إلا أننا خرقنا هذه القاعدة حينما درسنا نص (عيد البوقات) للشاعر حسين عبد اللطيف الذي نشره في نص (كتاب) ديوان نار القطرب ، وقد قلنا “نص كتاب” للتدليل على الجانب (المادي) للكتاب، وهو ما قادنا إلى ان ذلك (الكتاب الذي بين الدفتين) لا يقتصر على (المدونة) اللغوية بل يتشكل ، برأينا من مجموعة من الإكسسوارات، او ما اقترح القاص محمود عبد الوهاب في محاورة شفوية لي معه تسميته (هوامش العنوان) على ما اذكر، وهي: صورة الغلاف ولونه، و العنوان ونوع خطه، وشكل الحرف، وعناوين القصائد ونصوصها، ثم التصديرات والإهداءات والهوامش والمقتبسات، ثم ما فعلته أنا بعدد من النسخ حينما قمت بالرسم في الفراغات التي بين نصوصها.
وحينما درج نقاد الأدب يبتدئون بالعنوان، باعتباره بوابة النص، وهو هنا يتوفر على بنية صورية ورمزية دالة بعمق، فنحن نبتدئ مما يهمله أولئك النقاد، وهو الغلاف، باعتباره بوابة الديوان القرائية الأهم، ونحن نزعم إننا أكثر معرفة بأهمية هذا الغلاف باعتباره دالة قرائية مهمة وبؤرة لامة؛ بسبب كوننا من قام بتصميم ورسم الغلاف، وهو تخطيط بالحبر الصيني، مصورا بطريقة الصورة السلبية (النيجاتيف)، ويمثل واحدا من مجموعة من أقدم الدمى والتماثيل الحجرية المجسمة العراقية القديمة التي ارتفعت فوق مستوى الحرفة الصرف الى مرتبة الفن الحقيقي، مرجعيتنا البصرية والدلالية، عند إنجازنا الغلاف.
ونحن نعتقد ان الغلاف هو جزء من هوامش العنوان؛ فرغم ان الغلاف لم يرسمه الشاعر، إلا انه وافق عليه، وتبناه فكان بالنسبة إليه مادة نصية جاهزة، يماثل ما يعرف بالمواد الجاهزة (ready made) التي يستخدمها في بناء (كتابه).
س — وما رأيك بمطويات المعارض التي يسطر فيها الرسام رؤيته ويسارع النقاد إلى نسخها والبناء عليها؟
فيما يخص مطويات المعارض فقد كتبنا مرة موضحين ان” كاسيرر” قد عرّف الفن بأنه لغة رمزية، وهيمن ذلك التعريف على الدراسات الفنية في القرن العشرين، فكان أخطر نتائج تلك الدعوة، حسبما يؤكد جورج كوبلر، ان استأثرت دراسات المعنى بكل الاهتمام ، فكان “الحكم على العمل الفني في ضوء مضمونه, سبيل يؤدي الى تدخل كل أنواع الأهواء والتحيزات التي لا صلة لها بالأمر” كما يقرر (هربرت ريد)؛ فتراجع تعريف الفن بكونه نظاما من العلاقات الشكلية، وهو التعريف الأهم برأينا، رغم انه مازال بعيدا عما ألفه الناس، فقلما يعتقد سوى القلة من المختصين في الفن التشكيلي بآفاقه الحداثية ان اللوحة ليست في النهاية إلا سطحا مطليا بالمادة، أي الإقرار (بشيئية اللوحة) ومادية التعبير، وان جل ما يكتبه الرسامون في مطويات معارضهم في العراق ينصب في جانب المعنى بمختلف اتجاهاته، وهذه ، برأينا الخطورة الأولى في تلك الكتابات، كونها تكرس تناول المعنى على حساب متيريالية اللوحة.
وتتمثل الخطورة الثانية في اتجاه تحول كتابات التشكيليين في مطويات معارضهم إلى ما يؤدي إلى بث موجهات قرائية متعمدة ، وتتمثل الثالثة، بشيوع ما يسميه شاكر لعيبي قضية اختراع حوامل خادعة supports سرعان ما يقع فيها الرسام نفسه بطريقة الخداع الذاتي بعد ان يبدأ الكتاب بتناقلها العمياني، فيبدأ الرسام بتكرار ترديدها مما يعرض التجربة إلى خطر التناسخ الداخلي الذي يجعلها تدور في فلك حلقة مفرغة تؤدي إلى توقف إيقاع التحولات الأسلوبية فيها، ولكن لا يمكن نكران وجود رؤية فنية تنظيرية متكاملة لدى بعض الرسامين ممن يحاولون تطويرها من خلال معارضهم التي يقيمونها وينظرون لها في مطويات معارضهم، ونحن نتقبلها كمدخل قرائي يقترحه الفنان بصفته قارئا للمنجز وليس بصفته منتجا له، وهذا هو السبب الوحيد الذي لأجله كنت (أؤسس) بعض وجهات نظري على الرؤية التنظيرية في مدونة المطوية.
ـ ما هي برأيك أبرز المرجعيات التي شكلت أساس التحولات الأسلوبية الحديثة في الفن التشكيلي العراقي؟
– إن تحوّل الفن العراقي من الرسم الشعبي إلى تقاليد اللوحة المسندية (لوحة الألوان الزيتية) هو الخطوة الحاسمة في تدشين الحداثة في الفن العراقي، وهو يعود إلى سفر الموفدين الأوائل لدراسة الفن التشكيلي (اكرم شكري، فائق حسن، جواد سليم….) ومن ثم تأسيس معهد الفنون الجميلة، وكانت مرجعيات هؤلاء ملتبسة بشكل مربك، فلقد كانت سطوة الإشكالية الحضارية لعصر النهضة العربية و(الموازنة المقدسة بين التراث والمعاصرة) تثقل كاهل هؤلاء ، وكان تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث 1950-1951 مصطبغا بجوهر خطاب هذه الإشكالية، وقد مثل جواد سليم رأس الحربة في إيجاد (نموذج تشكيلي عربي!) تتحقق فيه هذه الثنائية ، التي هي ليست شرطا من شروط الرسم (والنحت) بأية حال، ولكن لا أحد كان يجرؤ على قول ذلك علنا !!، وكان اكتشاف الواسطي، من قبل جبرا إبراهيم جبرا وتنبيه جواد سليم عنه، كان كافيا كمفتاح لحل تطبيقي لهذه المشكلة من قبل أوساط الفن التشكيلي، فقد أتاحت الاحتفاظ بدرجة (مقبولة) لدى الفنانين، وهم تعبيريون بالأساس، ولدى المتلقين الذين يبحثون أولا عن تشابه مع أشكال الواقع، وأخيرا كانت تلك الأشكال تذكر بالتراث! وفيها (تكنولوجيا) الحداثة متمثلة بالألوان والأدوات الأوربية!
لكن حلول جواد سليم، ونحن نتحدث عن الرسم اكثر من النحت، لأن مشكلة النحت كانت أشد تعقيدا ونؤجل الخوض فيها الآن، كانت يجب أن تكون بمقام (المقترحات) ويجب أن تتواصل، بحيث يقدم كل رسام مقترحه الخاص، بينما الذي حدث أن أضحت حلول جواد (أنساقا) و(نصوصا أولى) يستمد منها الفنانون المحيطون به (أشكالهم)، مع بعض التحويرات الطفيفة، فأصيب الفن العراقي الحديث بحالة من العقم والتناسخ الداخلي.
س — إلى أي مدى تأثر المشهد التشكيلي العراقي بهجرة المبدعين ؟
….. إن هجرة المبدعين العراقيين تنطوي على مزية مهمة في توفير جانب إيجابي في اطلاع الفنانين على تجارب فنية في البلدان التي هاجروا إليها، كما وفرت لهم فرصة الاتصال بالفنانين العالميين وبشكل مباشر وزيارة كبريات المتاحف والمعارض الفنية في كل أنحاء العالم، كما أتاحت لهم الحرية الكاملة في إنجاز تجاربهم وكان منجزهم محظوظا بالمتابعة النقدية التي حققت لهم الانتشار والذيوع وهذا بدوره أدى إلى اقتناء أعمالهم في مختلف المتاحف والكاليريهات العالمية، أتاحت لهم الاشتغال بمواد لم تكن لتتوفر لهم في العراق وخاصة في فترة الحصار.