حياة متشنجة هو عنوان المجموعة القصصية للقاصين مصطفى السعيدي وزكرياء الأزعر ، وهي عبارة عن قصص قصيرة تعتمد في بنائها على التكثيف والاختزال اللذين ينقلان إلى القارئ فائضا من المعاني والدلالات العديدة في متون نصية موجزة بطريقة شيقة وسلسة .والعمل القصصي الذي نحن بصدده من منشورات القلم مطبعة ووراقة بلال فاس، يضم في ثناياه اثنتين وعشرين قصة قصيرة في متن لغوي دون في111 صفحة .
كتبت قصص هذه المجموعة بأسلوب سلس ولغة سردية وصفية ، عبرت بكثير من المرارة والصدق عن قضايا اجتماعية ، ما يجعلنا نتعاطف مع أبطالها وشخوصها من المقهورين والمهمشين والمعذبين والمطحونين في هذه الأرض ، كما وضعت يدهاعلى العديد من المشاكل والعيوب ، التي تعتور واقعنا على مختلف المستويات ، إلا أنها لا تقدم حلولا أو مسوغات أو علاجا لها .
ويتوسل القاصين في بنائهما لقصص هذه المجموعة التقنيات المعاصرة في الفن القصصي التي لا تعتمد على التبرير. بل تطرح القضايا العامة التي يتخبط فيها المجتمع في أبعاده الإنسانية العميقة، محاولين أيفتحا العيون على المشاكل ،لا أن يحلا المشاكل.
بذلك تحدث المشاركة الوجدانية التي تجعل القارئ نفسه بطلا يتأمل وييأس ويتحسر ويخوض مع شخصيات القصة معركة الحياة .1
فليس في هذا العالم القصصي إلا مايؤرق ،ويبعث على السخط والحزن والألم واليأس ،والإحساس بالضياع وقسوة الحياة.
وتجدر الإشارة إلى أن معظم قصص المجموعة تمتلك سردا منغلقا يكتسي طابع الاختزال، يرويه راو محايد غير مشارك في الأحداث لا يظهر موقفه الحقيقي ، ولو بابتسامة ساخرة ، لا يعظ ولا يقول حرفا عن نوازع الشر الخفية في الإنسان المتوارية خلف قناع التحضر الاجتماعي الزائف.
واعتمدت قصص المجموعة تقنية الصورة القصصية . ويعرفها الدكتور عز الدين إسماعيل على أنها تدور حول مشهد صغير أو لقطة عجلى ، أو لمسة فنية ،أو لوحة يودعها الكاتب شحنة عاطفية أو انطباعا وقتيا إزاء موقف أو إحدى مفارقات الحياة .2
فهل يمكن القول بأن المجموعة القصصية حياة متشنجة تمثل توصيفا للصورة القصصية لا سيما أن معظم قصص المجموعة مالكة لزمام القصة القصيرة؟ : اللغة المثفة المختزلة التي لا تعرف الاستطراد أو الترترة ،الموقف العابر الهامشي الذي لا يكاد يلتفت إلية أحد ،ولم تلتقطه سوى عين القاص الخبيرة التي حققت هنا حلم تولستوي بقوله: الكاتب الجيد هو الذي يستطيع أن يكتب قصة كاملة من شجار عابر في الطريق .3
في قصة أحلام اليقظة يقول السارد :
“” كانت تحلم مثل باقي الفتيات بفارس يأخذ بيدها ، ويرعاها ويخاف عليها. كانت تحلم بزوج يعيد السعادة إلى ذلك القلب العامر بالأحزان، زوج يصونها ويحميها ، يساندها ويعطف عليها، زوج ينسيها سنين الألم والخوف، ويزيل ظلام القهر والذل الذي زفه القدر إليها، كل ذلك ما عاد غير رسومات لونت جزءا من حياتها وبثت فيه شروقا وأملا بعيش كريم.
وها هي الآن فاطنة تحصل على ورقة الطلاق بعد تردد مجحف ومتعب على بيت القاضي ، ومعها ورقة إفراغ بيت الزوجية .أمسكت الورقة ويداها ترتعدان، وبيدها الأخرى تلتصق يد وليدتها الصغيرة أما ظهرها فقد كان سريرا لابنها الآخر الذي لم يتمم بعد السنة.
كان يكتنفها ألم عظيم ، ولم تك تدري إلى أين المفر. حتى زوجها تبرأ منها بدريعة أن السجن أحب إليه مما تدعوه .وقعت ورقة طلاقها ، ورجلاها تذوذان، أما ذهنها ظل الطريق ، وتاه في متاهات الأفكار التي راودته وهي غادية تقودها قدماها إلى المجهول. ذرفت دمعة، فدمعتان ، لتستحيل الدمعتان سيلا من الدموع .
وبعد فترة من المسير اتخذت مجلسا بجوار محل يتوسط شارعا عريضا. أجلست ابنتها ، وضمت إليها وليدها بيمناها، وتضرعت باليسرى المارة وقلبها مذبوح.
كان المارة يقذفون دراهمهم والمسكينة تلتقطها وعيناها على ابنتها الصغيرة التي غمرها صمت رهيب، ترمي أمها بنظرات تنم عن الشفقة وترفع عيناها إلى المارة بنظرات حادة في أنفة واعتزاز.
عادت الأم تلتقط الدراهم ، وكبرياؤها على استحياء ، ضمت إليها وليديها وأخفتهما في صدرها منتفضة بالبكاء. بلغ الاضطراب بها مداه، لتستسلم فاطنة لتوجساتها سابحة في يم الأضغات التي أسرت بها إلى الأحلام الأولى حينما كانت تحلم بزوج يصونها ويحفظ كرامتها…..””
الراوي حكى بحياد كأن المشهد هنا منقول عبر كاميرا مثبتة فوق ركبته .
والشخصية التي يقدمها لنا القاص مصطفى السعيدي في قصته هي شخصية ممثلة لعينة من المجتمع، إنها شخصية موصوفة من الخارج من وجهة نظر القاص ,الذي يشفق عليها صبية لها أحلام ، تدب العواطف في جسدها دبيب الدم في العروق، تحلم بزوج يحميها ويصون كرامتها ويراعها ، وهكذا هو الحب في البدايات ، لكن سرعان ما تذر الرياح تلك الأيام الخوالي، ليصير الحب عبئا ينبغي التخلص منه ، نظرا للمتطلبات الحياة التي لا تطاق. لتقودها قدماها إلى بيت القاضي موقعة على ورقة الطلاق حاملة على ظهرها وليدها ، ضامة بأناملها يد ابنتها الصغيرة متجهة إلى مصيرها المجهول.
امرأة وجدت نفسها أمام مفترق طريق، ولجت فيه قدماها مستنقع وحل لا مفر منه ، تستجدي المارة أن يغدقوا عليها بعض الدراهم ، وهي المغلوبة على أمرها ، المدفوعة قسرا لتكسب قوت يومها وقوت أبنائها . لتستسلم بذلك لتوجساتها وأضغاتها التي أسرت بها إلى عالمها الأول حينما كانت تحلم بزوج يصون كرامتها ويحميها .4
فالقاص اشتغل على النمط في الصورة القصصية لا على الفرد ، فنزع لاختيار فرد يمثل نمطا اجتماعيا معينا المتسولة ، ليفضح من خلاله وبسرعة الخلل الاجتماعي الكامن في وضعه الحالي غير مطالب بتصحيحه ، فعو لا يستقصي حال الفقير مثلا باعتباره ذاتا إنسانية مختلفة عن غيرها ، ولا يستبطن الذات ليبرز اختلافها عن غيرها وإنما ليبرز تماثلها مع عينات كثيرة من النماذج المشابهة لها في المجتمع.
ويمكن القول أن قصص المجموعة القصصية تتميز بموضوعيتها الدقيقة، التي لا أثر للذاتية فيها، حيث يصور الكاتب العالم الخارجي بعينه المجردة، فيشعر القارئ بأنه ينقل أشياء خارجة عن ذاته. فمناظره وشخوصه، والعالم الذي يصوره يعرضه في أرض محايدة تماما، لذا فإنه يحرص على تصوير ما هو موجود فعلا، بكل حذافيره، ولو كان الأمر غير ذلك، نطأن يصور ما يحبه ويرضاه، لعبر عن نظرته وتفسيره وتحليله للواقع الخارجي من خلال إحساسه به.. و لا يمكن القول بالضرورة أن الصورة ذاتية وأن الكاتب يصور تجربته الشخصية، بل إنه يحاول بطريقة سافرة تفسير وضع من الأوضاع أو التعليق على سلوك معين.
الهوامش:
1تطور القصة القصيرة في المغرب ، مرحلة التأسيس أحمد اليبوري.
2 علي عبد الخالق الفن القصصي.
3 محمد المخزنجي، تجربتي في كتابة القصة القصيرة جدا ، مجلة الفيصل العدد 21 مايو.
4حياة متشنجة : أحلام اليقظة .