1
لا بد أن يحمد الله ويشكره ، لأنه ليس شخصية مهمة أو إرهابية أو مزعجة لأحد ، حتى تخصص له العين التي لا تنام ميزانية ضخمة لمراقبته . ثم إنه لا يفعل شيئا خارجا عن القانون ، باستثناء بعض الانزلاقات الصغيرة ، كأن يشتم وزيرا ، أو برلمانيا في المقهى ، أو يحتج على قرار لا يعجبه ، أو يتهم رئيس مجلس بلدية يسرق المال العام ، وهو لا يملك أي دليل غير انتقاله من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش في زمن قياسي .
قد يمارس إلى جانب ذلك قليلا من النميمة السياسية ، فينتقد بشكل دبلوماسي بعض السياسيين ، أو سلوك بعض القياديين في النقابة .
أحيانا يخبر هاتفه العزيز ، بأنه لم يبق في العمر إلا القليل ، لم يعد يكفي للبحث عن المال والشهرة ، أو عن المشاكل . لذلك فهو لا يخطط لثورة ، أو سرقة وكالة بنكية ، أو يبتز جهة ما بأسرار تشكل خطورة على مستقبلها .
2
تعرف عليه في نهاية التسعينيات من القرن الماضي . كان يمر من أزمة اقتصادية خانقة . الأجر لا يسد الحد المتوسط من مصاريف الكراء والماء والكهرباء والغذاء والتطبيب والتنقل والأبناء . ورغم ذلك ، ضحى بجزء من الميزانية ، واشترى هاتفا نقالا جعله مشتركا مع زوجته . كم فرح ذلك اليوم . لو كان ميسورا لذبح كبشا ، وأقام حفلا بالرقص والغناء ؟!
أصبح بإمكانه الحديث مع أهله وأصدقائه البعيدين بمئات الكيلومترات ، وفي أي وقت شاء . كان يشعر بفرحة غامرة ، وهو يسمع صوت قريب ، أو صديق له وحشة ، وشوق . تمنى لو كان يملك المال لشراء وقت أكثر من المكالمات . ثمانية دراهم للدقيقة . خمس دقائق أو ست بخمسين درهما ، من شدة الشوق ، تذوب بنت الكلب في رمشة عين .
3
بعد ذلك أصبح هاتفك الخاص ، يرافقك في الطريق إلى العمل . يدخل معك إلى القسم. تطفئه وتضعه بجانب الحقيبة . يحرس ، ويصحح معك الامتحانات .
يخرج بصحبتك ، ويجلس بجانبك في المقهى ، وتضع يدك في يده مثل عشيقين لن يفرق بينهما سوى الموت . يأخذ صورا لك وحدك ، أو مع أصدقائك ، وتنشرها في الفايس بوك .
وعندما أُحِلت على التقاعد ، أصبح الصديق الوحيد الذي يُؤنس وحشتك ، ويٌلبي الدعوة كلما طلبت منه ذلك ، ويُجالسك لساعات طوال ، دون أن يشعر بالتعب ، أو الملل ، أو يتضايق منك .
تعودان متعبين إلى البيت . أينما جلست يجلس بجانبك . فتحت له حتى غرفة النوم . مكان واحد لا تدخلان إليه معا هو الحمام ، ربما خوفا عليه من البلل ، والاحتراق بفعل الماء ، أو البخار .
4
هل رأى أنك عندما تذهب عند الخضار ، لا تساومه كثيرا حول ثمن البطاطس والطماطم ؟ هل سمعك تحتج على (أبو) لحية ، مصلح الدراجات الذي يلبس الزي الأفغاني ، عندما طلب منك مبلغا خياليا مقابل إصلاح عجلة الدراجة ، فقط لأنه رآك مرارا تنفح بوجمعة الذي يعمل معه ، من باب التضامن ، ببعض الدراهم الزائدة عن الثمن المحدد سلفا ؟!
وهل يسترق السمع أيضا عندما ترفع صوتك على احماد صاحب متجر المواد الغذائية القريب من المنزل ، لأنه تأخر في إرسال البوطاغاز إلى البيت .
لا بد أنه رآك ، وأنت تتابع النظر خلسة ، مثل بقية المارة ، لتلك المرأة التي تحرك ردفيها بغنج أنثوي ، وتتراقص في الرصيف الأيمن كأنها تمر أمام خيمة امرئ القيس ، وتريد منه ، أن ينشد قصيدة ، ويتغزل بجمالها الفتان ، ويذيع صيتها بين القبائل في كل أطراف هذه الصحراء .
5
وبعد كل هذا ، يقولون بأن هاتفك يا سيدي يستقبل خلسة كائنات غريبة وخفية ، يدعها تسرق أسرارك الصغيرة ، وتقدمها للأغراب . يتجسس عليك ، وقد ينقل كلمات الود التي تغازل بها زوجتك ، أو الشتائم التي تتبادلانها حين تختصمان لأتفه الأسباب ، صوتا وصورة إلى من يهمهم الأمر .
يا للخيبة ! حتى أعز الأقارب والأصدقاء من لحمك ودمك ، لم تفتح لهم قلبك وبيتك بالكامل كما فعلت معه ، ورغم ذلك طعنك في الظهر . لم تكن تقدر بأنه مجرد آلة صماء ، قادمة من كوكب آخر ، لا تحب ولا تكره . لا تحس بفرحك ، ولا تشعر بألمك .
أسرارك الصغرى مثل الصدفة في أعماق البحر ، تخفي تلك اللؤلؤة التي تسميها كرامة أو عزة نفس .
ولد الكلب ! كأنه يجردك من ملابسك ، ويرغمك على الخروج عاريا إلى الشارع ؟
6
والآن بعد أن زال الغطاء ، وانكشف المستور . ماذا ستفعل ؟ هل تضرب به الأرض ، وتعود إلى بداوتك ؟
أنت لست قيس بن الملوح* ، وهو ليس ليلى العامرية* . انتهى كل شيء بينكما . لم تعودا أصدقاء كما كنتما من قبل . لن يدخل غرفة النوم بعد اليوم . ستضع شريطا أسود من (اللصقة) على عينيه كما يفعل القراصنة ، وستغلق فمه إن شئت .
الآن كل شيء تغير . وما دام شرا لابد منه ، ستحتاط ، وتحذر منه ، وتمارس معه ما تبقى من اللعبة مثل الإخوة الأعداء .
الهامش :
ـ قيس بن الملوح : من الشعراء العشاق عاش في العصر الأموي (القرن الأول من الهجرة ) ، وخص كل شعره للتغزل بابنة عمه ليلى العامرية التي رفض أهلها أن يتزوجها ما دام قد تشبب بها في شعره ، وقد استمر في هيامه حتى سموه بمجنون ليلى .
مراكش 23 يوليوز 2021