كانت تلحظ والدتها وهي تبهرج تقاسيم وجهها بأشكال المساحيق المتنوعة، وتلحقها بعينيها وهي تتمايل في سيرها.
صبية صغيرة لا تعلم شيئا. كانت تقضي معظم وقتها مع جدتها المغلوبة على أمرها ، تغرف لها من حدائقها ما طاب من الحدوثات والحكايات الشعبية .
“كان ياما كان في قدِيم الزمان، كان الخير في كل مكان، كانت الريشة تقهر الميزان، وكان الأعمى يتخطّى الْحيطان وكان الشيخ يقطع الويدان، والعرصة كانت تغدي القبيلة وتزيد الجيران، كان وكان حتّى كان….
لتسري بها حكاية جدتها إلى عالم تشفى فيه الآلام وتتحقق فيه الأحلام ويعاد فيه الأمل المفقود .
سرعان ما تلبث فيه ساعات ، فما أن ينبلج الصبح حتى تعود إلى عالمها الذي هجرته الأحلام، وتتتاءب عيناها لترى منظر أمها وهي تتمايل وتترنح قبل أن تردى نائمة.هي أيضا لها أحلامها، بيد أن أحلامها رتيبة وليلية تنحصر في الملاهي فقط.
هاهي ذي تلحظ ابنتها عابرة رصيف الشارع ، تمشي منتعلة كعبا عاليا ، معتدلة القوام لا نقص فيها ولا زيادة، شعرها مثل سلوك الذهب ينسدل فوق كتفيها، لها عينان لو أنها نظرت بهما راهبا وحد الله وابتهل.
ماتزال تربت على الأرض بكعبها العالي، والمارون يتوقفون لحظة لينتشوا بلحظها الفتان.وقفت وأشارت إلى سيارة تاكسي ، لتتجه بها إلى الجنة ، حيث ينتظرها كثير ممن صبروا على ابتلاءات يومهم الشاق.
تشتغل في ملهى ليلي ، فتبعث الحياة في جثت ميتة. ترقص وتتمايل فتدب النشوة في أعماق محبيها كضياء الفجر، تقضي لياليها الحمراء في المدينة الحمراء ،تنتقل من ملهى إلى ملهى ومن غرفة إلى غرفة لتهب جسدها وديعة لدى من لا وديعة له .
على وقع هذه الأضغات هبت الأم مذعورة وهي ترتعد من الخوف، وتضطرب من الفزع والرعب.
ضربت كفا في كف ، واستسلمت للأحزان، أحست بالحسرة والندم وانهمرت الدموع من عينيها مدرارا ، فروت وجهها وبللت جسمها .
نظرت إلى المرآة ونظفت وجهها من القذارة، وأخذت ابنتها في حضنها قائلة :
عادت أمك صفحة بيضاء يا ابنتي ….. عادت أمك صفحة بيضاء…
—–
المجموعة القصصية حياة متشنجة مصطفى السعيدي وزكرياء الأزعر ص ( 77,78) .