رفع رأسه فرأى امرأة تُغطي شعر رأسها بمنديل أبيض تطل من النافذة . خفض بصره بسرعة حتى لا تراه ، وتتهمه بالتلصص على بيوت الجيران.
قال لنفسه :
ـ ربما المرأة التي رآها قبل قليل تجمع البيت، تُطلّ على الزقاق لدفع الملل الناتج عن حياة الروتين اليومي داخل المنازل.
أكيد أنها رأته، وربما تساءلت ماذا يفعل هذا الرجل الغامض الذي تراه يركب دراجته العادية كل صباح، ويضع حقيبته إما على ظهره، أو أمامه في الشبكة البلاستيكية؟ ماذا يحمل فيها؟ حاسوبا صغيرا أو كتبا ودفاتر كما يفعل أبناء المدارس؟ وحدهما الله وزوجته يعلمان ما بداخل الحقيبة!
سمعت مرة زوجها ووالده يقولان بأنه أستاذ متقاعد. لا يذهب إلى المسجد، لكنه إذا وجد جارا واقفا بباب الزقاق وقت الآذان، ألقى عليه التحية، ودخل إلى بيته دون أن يتبادل معه مزيدا من الكلام.
يعيش منذ خمس سنوات حياة غامضة وراء تلك الجدران. في الصباح أو المساء يُخرج كيسا مليئا بالقمامة، ولا يعود إلى البيت إلا بعد ثلاث أو أربع ساعات. لا أحد يعلم أين يذهب؟
سمعت أن بعض المتقاعدين من رجال التعليم يشتغلون ساعات إضافية، وبمبالغ خيالية عندما تقترب الامتحانات.
سروال الجينز، والقميص الفضفاض، والقبعة، وشكل الحقيبة، والوقت الذي يخرج فيه ويعود، كل ذلك لا يوحي بأنه يذهب إلى العمل.
زوجته تلبس أحسن منه، لكن لا أحد يعلم هل هي موظفة متقاعدة أم لا. إنها تشبهه، لا تتجاوز تبادل التحية مع جاراتها. يقولون بأن الموظفين يتقاعدون في الستين، لكنها تظهر أصغر وأجمل من ذلك بكثير.
تقف بجانب بيتهما أحيانا سيارات فارهة. تبدو من أرقامها أنها لضيوف قادمين من الرباط أو الدار البيضاء، وسيارات أخرى متوسطة ربما لأسر من العائلة، تسكن بمراكش. لكن الرجل الغامض عكس زوجته، لا يركب في سيارة مع ضيوفه إلا نادرا، تراه دائما يركب أو يقود دراجته.
لا بد أن غرفة نومهما توجد فوق باب المنزل، مثل غرفة جاره الذي يسكن في الطابق الأول. يشتد الصهد في الصيف، ولا ينام الناس إلا في ساعات متأخرة من الليل. عندما تنهض، وتذهب إلى فراشها صحبة زوجها، ترى النور لا زال منبعثا من غرفة خلف الصالون، خمنت بأن الرجل الغامض يجلس بها إلى ساعة متأخرة من الليل. لا بد أنه يجلس وحده. لكنها لم ترس على بر، حول العمل الذي يقوم به. فزوجته تظهر من حين لآخر تتفرج على التلفزيون في الصالون. شاشة التلفزيون كبيرة، وتبدو بشكل واضح عندما تنظر إليها من الصالون الذي تجلس به رفقة حماتها وزوجها ووالده وإخوته وأخواته. في بعض الأحيان يتناوب الرجل الغامض وحماها على إغلاق النوافذ المطلة على الصالونين.
تعودت وهي تُطل من النافذة، أن ترى سيارة رمادية جديدة، تقف أمام الزقاق قريبا من البيت. تنزل زوجته رفقة امرأة تشبهها، لكنها أكبر منها، قد تكون أختها . تأخذ العديد من الأكياس، وتقرع الباب، وتُنادي على ابنها ليساعدها في إدخال المواد التي اشترتها إلى المنزل. يبدو أن الزوج لا يقتني غير الخضر. ترى في بعض الأحيان قُفّة كبيرة يحزمها خلف الدراجة، لا يمكن رؤية ما بداخلها.
تمنّت لو كانت لها أخت تملك سيارة جميلة، وتأخذها إلى أحد المتاجر العصرية الكبرى، كما تفعل أخت زوجة الرجل الغامض الذي يسكن بالجوار. لو كان زوجها موظفا، أو يملك الكثير من المال، لفرضت عليه أن تخرج إلى أحد هذه المتاجر، وتشتري كل ما تحتاج إليه في البيت. تنهدت وتذكرت أنها لا تستطيع حتى أن تتحدث عن ذلك بصوت مرتفع، فحماتها تكاد تخنق أنفاسها . ستتهمها بأنها شبعت خبزا، وتفتحت عيناها، وأنها إذا بقيت تنظر إلى الأعلى ستقع في إحدى الحفر لا محالة. دائما تقرع أذنيها بأنه في هذه الأيام إذا وجدت المرأة الزوج والطعام واللباس والغطاء والفراش، عليها أن تحمد الله وتشكره.
عمل الرجل الغامض كل هذه السنوات موظفا، لا بد أن يكون قد جمع مالا كثيرا. ما دام يركب دراجة عادية لا يتجاوز ثمنها ألفي درهم، فهو بخيل، أو أضاع نقوده في القمار أو شرب الخمر والسهر مع (الشيخات)*، خاصة وأن أغلب ضيوفه يملكون سيارات أنيقة، وتبدو علامات النعمة واضحة على وجوههم. وأين يمكن أن يُضيّع الناس أموالهم؟
عندما يعود في منصف النها، يحمل بطيخة كبيرة خلفه على الدراجة. إنه غامض مثل البطيخ الأحمر. لا يمكن أن تعرف إن كانت البطيخة الحمراء حلوة أم لا حتى تفتحها وتتذوقها.
ضحكت مع نفسها، وقالت بأن الطريقة التي يحمل بها البطيخ الأحمر، تذكرها بخالها عبد السلام.
تمنت لو سقطت البطيخة الحمراء وتفرقعت!
لا تعلم المسكينة أنه اشترى حبلا خاصا، يشد به البطيخة بشكل جيد، ولا يترك لها فرصة لكي تسقط من خلفه. شيء واحد يؤرقه، وهو أن ترصده عين شريرة، فيسقطا معا. لكنه حتى في هذه الحالة، سيقول بأنه قضاء وقدر، لا أحد يستطيع رده، ولن يلوم نفسه، مادام يعتقد بأنه قد قام بما يجب القيام به.
أطلت المرأة من النافذة وسألت :
ـ قبل أن تذهب إلى المقهى أو إلى فراشك هل تسمح لي بملاحظة أيها السارد ؟
ارتبك السارد. لم تفعلها معه شخصية من قبل، ولا يستطيع أن يرفض طلبا من هذا النوع، وإلا سيتناقض ذلك مع ادعاءه حق الناس في الدفاع عن أنفسهم.
طلب منها أن تتفضل ، وتقول ما لديها بكل حرية. قالت وهي تبحث عن شيء ما بعينيها الكحليتين :
ـ أين اختفى الكاتب؟ إنه يشبه بواب العمارة، لا يرى غير ما يحدث خارج الشقق.
من قال له بأني اهتم بما يجري خلف جدران البيت المقابل؟ لماذا مر بسرعة عن رفع الرجل الغامض رأسه إلى النافذة؟ أغلب الرجال عندما ينظرون إلى امرأة، يعتقدون أنها جميلة، يذهب بهم الخيال إلى ما تحت الحزام؟ فلماذا تقدمون بعض الحيوانات في صورة أولياء الله الصالحين؟
المعجم :
ـ (الشيخات) : نساء يرقصن ويغنين في الأعراس .
مراكش 27 يونيو 2021