
يُمكن أن تتخيل نفسك قد وُلدت في السويد، أو بريطانيا، أو أمريكا، أو فرنسا القرن التاسع عشر. لترتفع حظوظك اليوم، وأنت تشتغل بالمعرفة أو الكتابة، يجب أن تولد خارج المنطقة العربية، وإلا ستنتهي مشردا، تحرق كتبك، وتقتات من العشب، وتموت منسيا مثل أبي حيان التوحيدي*.
وإذا لم يحدث لا هذا ولا ذاك، تخيل سفينة تنزل من إحدى المجرات في مكان غير مرئي. تكون أنت الوحيد الذي يمنحك الله القدرة على رؤيتها، والتواصل مع طاقمها. عليك أن تتصور الطاقم مثل كائنات غير مرئية. ولا بد أن يكون شكلها مقبولا ومحببا وغير مُنفّر، وأجسامها صغيرة، لكنها تسبقنا بآلاف السنين الضوئية.
اللوحة الثانية
أول شيء يجب القيام به، هو أن تطلب من خبراء السفينة، وطاقمها العلمي، إجراء فحوص لجسمك، ومعالجة أي اختلال أصابك بعد كل هذه السنين التي تحملها على كاهلك، حتى تستعيد عافيتك، وقدرتك على الحركة من دون أن تتوقف، وتلتقط أنفاسك، أو تشعر بارتفاع دقات قلبك، وأنت تمارس رياضة المشي. وسيكون أجمل، لو عدت إلى قوتك، وأنت في نهاية العشرينات من عمرك، أو بداية الثلاثينات.
في الواقع لم تعد لديك القدرة على الإحاطة بملايين المعلومات والأفكار والمصطلحات والنظريات التي انتشرت بسرعة في العالم. تأخرت كثيرا عن ولوج عالم الكتابة. ليس أمامك وقت طويل لمحاربة طواحين الهواء. لا بد لفريق السفينة أن يُجري عملية لتطعيم خلايا ذاكرتك بكل هذه المعطيات، مثل ما يحدث مع الخزائن الالكترونية الصغيرة التي تستطيع حفظ ما لا تستطيع حفظه وتخزينه ذاكرة جيل بكامله.
بعد ذلك لا بد أن يتوفر عقلك على برنامج لتعلم اللغات الانجليزية والاسبانية والصينية والهندية بسرعة فائقة، والكتابة بها. يجب أن تكتب بكل هذه اللغات لتخاطب أكبر عدد من البشر. ولا بد أن تتفاوض مع أشهر المطابع للنشر، والمكتبات الإلكترونية.
سيتدفق المال بين يديك، مثلما تتدفق المياه من الشلال، وتُسافر إلى كل بقاع العالم. تُقيم في الفنادق، وترتاد أشهر المقاهي والمطاعم.
اللوحة الثالثة
طاقم السفينة سيقوم باستنساخ شخص يُشبهك. يُهيّئ كل الوثائق، والأوراق المطلوبة في زمن قياسي. لن تحتاج لوساطة، أو تقديم أي رشوة. الكائنات الخفية ستُسهّل كل العمليات بطريقة لا مرئية. ستُخدّر الموظفين ليقوموا بعملهم على أحسن وجه، فيُقدّمون لشبيهك كل الخدمات المطلوبة.
لن تُقدّم أي فرنك من دخلك المحدود، لن تبيع عجلا أو بقرة، أو قطعة أرض ورثتها عن أمك، وتقدم ثمنها للمطبعة، لتصدر قصة أو رواية. لن تُحابي النقاد، وتحمل حقائبهم إلى الفنادق، وتتودّد إليهم، ليقدّموا قراءة لإشهار أعمالك حتى يعلم بها القراء، ويُقبلون على اقتنائها. ثم يكتشف أغلبهم أنها مجرد كذبة، فيرمونها في حاوية القمامة مثل الآلاف من المطبوعات التي تصدر، وتعود بعد ذلك بنفس الحُلّة إلى بائعي (الزريعة)* والكاكاو.
عندما كنتَ طفلا، نهاك الكبار عن رمي الأوراق المطبوعة بالحروف العربية على الأرض. وكان أصحاب الدكاكين، ومحلات بيع (الزريعة) يتحاشون استعمال ورق الكتب أو الجرائد المدونة بهذه الحروف. وإذا وجدوا قطعة ورق مرمية على الأرض أخذوها وقبلوها، ووضعوها في مكان آمن، لا تطؤه أرجل المارة. نفس الشيء يفعلونه مع كسر الخبز اليابس.
الناس اليوم تدوس على كل شيء، تدوس على كسر الخبز اليابس، وعلى الأوراق المطبوعة باللغة المقدسة، وحتى على أقرب الناس إليهم إن اقتضى الحال.
أللوحة الرابعة
لا بد أن تنشر بالمجان ثلاث أو أربع قصص مترجمة إلى خمس لغات أو ستة. سيطلع عليها الناس هناك. سيكتشفون بأنك تكتب عن عالم غريب أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. البعض سيُصدقك، وسيُحب أن يسافر إلى هذا العالم الغرائبي، ليخرج من حالة الكآبة التي فرضتها عليه حضارته.
ألم تتذكرْ عندما راسلك كاتب كبير من سوريا في الخاص، يستغرب سرقة الخرفان من السوق، بعد الاعتداء على (الكسّابة)* و(الشنّاقة)*، ورميهم بالحجر، عشية عيد الأضحى ؟! ويطلب منك تعديل هذه الفقرة من القصة لأن العقل لا يصدقها، رغم أن الحادثة وقعت بالفعل، وموثقة بالصوت والصورة.
اللوحة الخامسة
احذر عدوى الكآبة القادمة من البلدان الأشد برودة. إذا أصابك هذا الفيروس، ستخسر كل شيء. الكآبة في عالمك الخاص، تختلف عن الكآبة في السويد. أنت لم يسبق أن أخذت حبلا، وعقدته في مكان عال. وكتبت رسالة لزوجتك أو أسرتك أو أصدقائك تفسر فيها لماذا ترغب في الرحيل بهذه الطريقة الكئيبة، ثم حاولت أن تضع عنقك في شرنقة الحبل، وتضرب المقعد برجلك. وتكون بذلك قد اقتنيت تذكرة سفر إلى العالم الآخر. تعرف جيدا بأن الله سيغضب منك، ويرسلك يوم الحساب إلى جهنم مغمض العينين.
أنت عندما تشعر بالكآبة، قد تذهب إلى المقهى أو الحانة، وتلتقي بأصدقائك، تسكر حتى الثمالة وتتبادل معهم النكت والحكايات، حتى تدمع العيون من الضحك. تعلن ثورة، وتقود انقلابا في بلاد (الواقواق)، فترجع سعيدا إلى البيت، وكأنك عدت من الحمّام نقيا طاهرا، بعد أن غسلت روحك من كل الأوساخ.
اللوحة السادسة
عالم السفينة الفضائية أيضا عالم مخيف. هذه الكائنات مثل الآلة، حركاتها مُبرمجة، ومُتحكّم فيها. احذر أن تتدخل جهة من خارج السفينة، وتضغط على أحد الأزرار، وتجد نفسك قد تحولت إلى مغنية أو راقصة شعبية (شيخة) بأرداف قوية مثل أرداف (الطراكس)*، وأشباه الرجال يلهثون خلفها من المحيط إلى الخليج، يسيل لعابهم مثل الكلاب الضالة، لكن بسراويل مفتوحة السلاسل من أمام!
المعجم :
ـ أبو حيان التوحيدي : كاتب عربي من القرن الرابع الهجري أحرق جميع كتبه ، وقيل بأنه حبس نفسه حتى مات من الجوع .
ـ (الكسابة) : فلاحون يهتمون بتربية الماشية .
ـ (الشناقة) : السماسرة الذين يشترون الأغنام ويعيدون بيعها .
ـ (الزريعة) : بذور عباد الشمس أو اليقطين مقلية ومملحة .
ـ (الطراكس) : آلة تستعمل لتعبيد الطريق عن طريق الضغط على الحصى الصغير حتى يتجمع بفعل الزفت ويستوي . واللفظ مجاز استخدمه بعض عشاق الفن الشعبي في المغرب وأطلقوه كوصف على إحدى الراقصات التي نالت شهرة كبيرة بسبب جمالها وتوظيف غلظ أردافها في الرقص .
مراكش 01 فبراير 2021