التلاقح بين الرواية والمسرحية ليست بالظاهرة الجديدة أو غير المألوفة محليا أو عالميا. فقط شهد المسرح في العالم الكثير من التراث الروائي، ومن الطبيعي أن يرتبط تقديم هذا التلاقح بموقف جديد او رؤية فنية جديدة للثيمات أو الازمات التي تناولتها الرواية.
وموضوع مقالنا يدور حول (مأساة عطيل) ومدى تأثيره في رواية( أمس كان غدا) التي تدور احداثها حول فتى بصري مراهق إسمه (عقيل) جيء به والده للعمل ببيت مستر (فيلمن) الذي كان ــحينذاك ـ يملك معملا كبيراً للنجارة في البصرة، فطلب أبو الانكليزي من أبي عقيل ان يجعل عقيل في خدمة زوجته أيام العطلة الربيعة، فذهب عقيل وبدأت المغامرات في تسخيره وتجنيده من قبل المخابرات الانكليزية كجاسوس لهم والسبب الذي جعل مستر فيلمن يختار عقيل لأنه وجد جذوة الذكاء والنشاط والفطنة، بالإضافة إلى العوز المادي الذي كثيراً ما يحاول أي محتل بالسيطرة على العقول عن طريقه، ومن هنا بدأت مغامرات السيدة الانكليزية المتمرسة في السيطرة على عقيل (جنسيا).
فغالبا ما يلجأ الاحتلال والمحتل إلى لعبة الجنس في السيطرة على عقول الشباب وتجنيد هذه الطاقات لمصالحهم وأول ما بدأت به سيدة فيلمن هو تجريد عقيل من كل ما يعتز به الا وهو شرقيته العربية وذلك برسمه وهو حالة (عري) تام واطلقت عليه (اوتلو) أو اوتلو اللوحة التي ستكون بمثابة المنبه في عودة عقيل إلى وعيه ورشده الشرقي، لاسيما أن هذه اللوحة ستعرض في الاحتفالية الكبرى التي تقام في (الار ـ اف) المعسكر الانكليزي الذي يقع على ضفة شط العرب هذه الضفة المضاءة بكل ألوان الترف، على العكس تماما من الضفة الأخرى المهملة ذات البيوت الطينية بيوت الكادحين البسطاء المحرومين.
هذه الوقفة على ضفتي شط العرب كانت إحدى أسباب عودة عقيل إلى جذوره الشرقية
يبرز يأس عقيل عبر الوصف ((أسير في ممر مسحوق، محاذ لخط المياه، وقطع من الحديد الثقيل، وبقايا مراكب أو دواب، الداكن الممتد إلى اللأنهاية ثمة نشارة خشب طافية.، وصخور، ورؤوس اسماك ميتة جافة ورطبة، مقذوفة، زهور ذابلة. وخردى، واجنحة طيور ميتة)). فوقفة عقيل(اوتلو) هي عكس وقفة (راسكو لينيكوف) في رواية( الأخوة كازا ماسوف) لدستويفيسكي على نهر النيفيا إذ بدت السماء صافية من الغيوم، وقبة الكنيسة تسطع، ويمكن النظر إلى زغاريفها واستنشاق الهواء النقي، فيجري هذا انقلاب في روح (راسكالينيكوف) بطل الرواية نحو الافضل. لعلنا اسهبنا في بيان تفاصيل الرواية كون كاتبها تأثر بمأساة عطيل من خلال التناص أو التلاقح الثقافي بين الادبين المسرحيّ والروائي مما خلق بالتالي ما يسمى (المسراوية)، وتوظيف الاحمدي كان موفقا اذ وضف غيرة (عطيل) توظيفا يليق بغيرة(اوتلوـ عقيل) فهو يتصرف بنوع من الغيرة المرضية، إذا يغار من دريفير السائق، أو من كوك الطباخ، أو من (اشا) الكلبة التي يقرن نفسه دائماً بها، بل وصلت غيرته إلى (انا) الإسم المخترع من لدن عقيل حتى من زوجها مستر فيلمن وهذا يذكرنا بغيرة (عطيل) على (دزدمونة)، وغالبا ما تكون غيرة عقيل، اوتلو على زوجة الجاسوس هي، غيرة جنسية،((الحق إني لا احتمل أن أراه يطوق جسدها بذراعيه، قبل أن يغسل يديه وفمه، حتى يزيل رائحة التبغ)) غيرة اوتلو الفتى المراهق الممارس لأول لعبة جنسية في حياته، هي غير غيرة عطيل الذي أسماه جبران خليل جبران بــ(اوثلو) فهي غيرة الزوج المحارب المتمرس في الحياة، غيرة الحب الحقيقي غيرة التملك، غيرة ارتكاب الجريمة إذا احس بمنافسة غيره على زوجته لذا تكون غيرته أقرب إلى الهذيان عندما يفاجأ بالدليل الكاذب الذي اصطنعه (ياغو) للإطاحة بحب عطيل ودزدمونة ، أما غيرة عقيل فهي للحفاظ على ارتوائه الجسدي لا أكثر.
ولعل الاحمدي وفق كثيراً في توظيفه لشخصية المسرحية (عطيل) جزئيا ليس كليا، فاستعارته لأسم (اوتلو) كما في الاصل الانكليزي (اوتلو) موجود في اللغات الاسبانية والبرتغالية والايطالية ومعناه(الحذر) ولعل الكاتب نجح جزئيا في تمسرحه للرواية حيث الاختلاف اللفظي فقط في الحرف الثاني بين (عطيل) و(عقيل) فقد يكون التقارب اللفظي أحد الأسباب لاختياره مأساة عطيل الانموذج، فالتناص في رواية أمس كان غدا هو لزيادة التقارب والتداخل اللفظي. لقد أغدق الاحمدي في اضفاء صفات عطيل الأسود البشرة، صاحب الشعر المجعد الكثيف، هي نفسها صفات عقيل، اوتلو اللوحة، صاحب الصوفة كصوفة النعجة ـوفق وصف عقيل الراوي لنفسه ـوالتناص هنا (خطي) معلق مصرح به ومحصور بين ( “______”) قوسين وخطين
((اوتلو، ماي سرفنت ـ
والتفتت لي السيدة ـوقالت:
اوتلو أنت ولد جميل!
عندئذ قالت جميلة العينين
((“أوه، اوتلو شكسبير، اوتلو شكسيبر”))
ويبدو أن الكاتب الروائي معجب ايما إعجاب بمأساة عطيل، فيوظف أدق تفاصيل المسرحية وهي( الشمعة)،شمعة عطيل التي دخل بها دزدمونة ، وهي في فراشها ، حاملا شمعته ((عندما يقول عطيل أنه سيطفئ الشمعة يتذكر أن الحياة أيضا كالشمعة سيطفؤها ، الإشارة إلى حياة الإنسان كشمعة وجيزة)) يبرز من خلال مونولوج عطيل، كيف يجعل الشمعة الخادمة اللاهبة قرينا لزوجته التي يجب أن تموت ، أن تنطفىء ! ((إذا اطفأتك أيتها الخادمة اللاهبة،
بوسعي استعادة نورك من جديد
أن أنا ندمت. ولكن إذا اطفأت نورك أنت
يا ابرع نسق صنعته الطبيعة!))كذلك اوتلو كان يلح بطلب الشمعة ، من عقيل، لكن شمعة عقيل كانت بمثابة دليل اوتلو لرؤية ما في البيت،(رؤية معنوية)(( اوتلو: عندك شمعة صغيرة يا عقيل!.انك تدهشني. تدهشني حقا. ما حاجتي إلى شمعة أنها لا تضيء كثيراً! اوتلو لأنك تعرف أقل مما ينبغي،
أقل مما ينبغي يا عقيل،
اذ ربما تقودك الشمعة الصغيرة،
بضوئها القليل لرؤية هذا البيت،،رؤية ما فيه)) لكن نجد مفارقة جميلة جداً تدل على ارتباط الجنسين الرواية والمسرحية معا، إذا ما عرفنا أن وليم شكسبير استوحى مسرحيته من حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، إلا وهي حكاية (التفاحات الثلاث)للشاعر عبدالسلام بن غبان في العصر العباسي، يحكى أن تاجر كانت له زوجة بارعة الحسن والجمال يخاف عليها ويكثر من مراقبتها ويشك بها و يغلق عليها الأبواب ، فذات يوم شك في اخلاصها، فقتلها بسبب الغيرة، واكتشف بعد فوات الأوان أنها بريئة، فحزن حزنا شديدا وندم.
آذن التلاقح بين المسرحية والرواية أو الحكاية التي قد تكون متن من متون الرواية، فعطيل والتفاحات الثلاث، هي الشك والغيرة وقتل الزوجة والندم والحزن القاتل بعد قتل الزوجة.
من هذا نجد أن التناص سواء أكان معنويا أو خطيا ملفوظا حاضرا في كل(عطيل)و(عقيل) مع تغير بيئة سكنهم وعملهم فعطيل جيئ به من المغرب ليتولى أمر مهام الجيوش وعقيل أيضا جيئ به من معمل النجارة ليعمل(ماي سرفنت)في بيت الجاسوس فيلمن، ومدى تأثير هذه البيئة عليهما(عطيل.عقيل)فحدث صدام حضاري بين الفتى البصريّ الشرقي المراهق المتحفظ وبين بيئة الانكليز المنفتحة.
ونجح ـكاظم الاحمدي ـ في التوظيف الخطي اللفظي في التلاعب بالأحرف وقفزتها الجميلة من من حرف الطاء إلى العين.. فحول الحرف الثاني من عطيل إلى الحرف الثاني من عقيل.
ويبقى الجانب السياسيّ ماثلا في مأساة عطيل وامس كان غدا، وتأثر راويهما براوي الحكايات في الف ليلة وليلة، فما مقاومة شهرزاد راوية الليالي الألف لجبروت شهريار المتسلط إلا نوعا من التحدي السياسيّ، للحفاظ على بنات جنسها.
فالتلاقح بين القديم والحديث لا يفقد العمل الأدبي سمة العصرية الجديدة، بل يؤدي إلى توظيف التراث بصورة عصرية حديثة، مما يضفي جمالا خلاقا على أي عمل، سواء أكان مسرحيا أم روائيا فمن سمات الشعرية المعاصرية ، التشتت حتى يصل الأمر إلى تسأل القارئ ما علاقة هذا الأمر بموضوع الرواية الأصليّ لكن المتأمل يجد أن هذه البنية السطحية لا تلبث في نهاية القراءة الجادة أن تلتئم في البنية لتؤول إلى تلائم خفي.
فالمثاقفة المسروائية تؤدي إلى خلق تلاقح ثقافيّ مبدع. من خلال مزج التراث العربي القديم والرواية الغربية الحديثة، تخلق مشهدية شخصية ترتبط بالمتخيل الابداعي، فالتفاعل بين القديم والحديث يخلق اشكال فنية لن تتوقف عن الجريان وتقديم اشكال جديدة من الفن الأدبي.