1
مر حوالي نصف ساعة على طلوع الشمس. لَوّحَ عبّاس بيده لسيارة أُجرة، فوقفت بجانب الرّصيف أمام باب الإقامة. تقدّم نحوها خطوتين، وفتح الباب، ثم التفت خلفه، فخرجت فتاة في العشرينات من وراء الكشك الصغير الذي يجلس فيه. انحنت قليلا ، وفتّشت حقيبتها اليدوية، ثم وضعتها فوق المقعد. اعتقد أنها عادت لتقدّم له بعض البقشيش، كما يحدث في المسلسلات التلفزيونية، لكنّها وقفت بجانبه ، وقرّبت خدّها النّحيف من شفتيه، وأشارت عليه بأصبعها. تردّد قليلا! وقفت على أصابع رجليها، ومالت على شفتيه مرّة أخرى، وأصرّت عليه بأصبعها أن يطبع قُبلة على خدّها الأيمن. احمرّ وجهه. التفتَ يمينا ويسارا، لم يجرؤ على فِعلها أمام سائق الطاكسي! جَرَّته من رقبة قميصه، ومالت بخدّها حتّى لامس شفتيه، ثمّ ركبت، واختفت داخل سيارة الأجرة التي انطلقت نحو الوجهة المطلوبة.
2
وقف عبّاس مشدوها. لم تفعلها معه فتاة من قبل. أحسّ بنشوة تسري في عروقه ألذّ ممّا يفعله العشاق بعيون مُغمضة في أمكنة مُعتّمة. جعلته مثل طائر ، يُحلّق في خيال كالسّحر طيلة اليوم. في البداية اختار سيارة فاخرة من نوع (ميرسيديس) تليق بالمقام، فتساءل بسخرية:
ـ لا تبالغ! (المرسيديس) دفعة واحدة!؟ كيف ستقودها وأنت لا تتوفر على رخصة. بالكاد تقدر على قيادة درّاجة ناريّة من النوع البسيط. أكيد أنك إذا استطعت إدارة المحرك ستصدمها مع الحائط أو مع عربة أخرى؟
ليتخلص من هذا الإحراج، افترض أنه يتوفّر على رُخصة، ويقود سيارة أقل قيمة، والفتاة الجميلة تجلس بجانبه. بدت نحيفة أكثر مما يشتهي. تمنى لو كانت بدينة قليلا لبدت أجمل. أمه وعدته إذا دخل سوق رأسه، ووسعها الله عليهم، بأن تخطب له فتاة بدينة بعض الشيء، وبيضاء مثل الحليب. يفتح البوّابة كُلّما طُلِبَ منه ذلك، ثم يعود إلى حلمه اللّذيذ. يتخيّل نفسه يسكن في إحدى هذه الشقق الفاخرة التي يحرسها، ويدخل رفقة الفتاة التي أصبحت صديقته في الخيال أفخر المطاعم، ويتناولان وجبتهما بالفُرشاة والسكّين. تذكّر ما حدث له مرّة، حين طلبه أحدهم لاقتناء عُلبة سجائر في مُنتصف الليل، ولما عاد أخرج له بقايا وجبة طعام في (بلاتو)*. ضغط على حبّة الزّيتون بالفُرشاة فطارت من أمامه. ماذا لو طارت في المطعم، ولطّخت ثياب فتاة تجلس مع عشيقها قُبالته؟ نعم هو قويّ البنية، لكن الزّمن تطوّر، والناس الذين يرتادون الأمكنة الرّاقية، لا يتعاركون بالأيدي، بل يكسبون المعارك بالهاتف فقط. بابا وماما على الخطّ، والأمن في الخدمة. وفي رمشة عين يجد نفسه في قسم الشرطة، وفي الصباح يُقدّم للمحاكمة.
3
لا بد أن يدخل سوق رأسه، وينسى الأيام التي ساقته إلى أقسام الشرطة والمحاكم، ثم رأى أنه من العيب أن يعبث ببنات الناس، ويستغل فقرهن. أخته أيضا فتاة وسيمة، لكنه لا يرضى أن يضحك عليها أحد فقط لأنها فقيرة. قال في نفسه مستغربا:
ـ ولكنّ الله تعالى نفسه أباح لنا في الجنّة أن نسهر مع من شئنا من الغلمان والحور العين! ألم يعدنا كذلك بأنهار من خمر لذّة للشاربين؟ ولكن لماذا منع عنا ذلك هنا في الحياة الدنيا؟ ربما وراء ذلك حكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه والراسخون في العلم.
وسوس له الشيطان بأن يدخل سوق رأسه، وتمنّى عليه أن يترك الجنّة، فطريقها أصبح وعرا في هذا الزّمن الصّعب.
4
تخيّل صورة أخرى أبسط وأجمل، يتمناها كل شاب في سنه، ويرضى عنها الله والأهل في الحياة الدنيا. رأى الفتاة تجلس بجانبه مثل القمر في حفل زفاف، ترتدي ثوبا أبيض، والغالية أمه تقف بين النساء، تبتسم وتزغرد. أوقف الحلم لحظة، وتساءل باستغراب:
ـ وأين سنعيش؟ هل تقبل عروس بأن تتزوج من حارس يقتسم غرفة مع إخوته؟
تذكر ما تقول له الوالدة من حين لآخر، وهي تربت على كتفه، عندما يهم بالخروج من البيت:
ـ بمجرد ما يوسّعها الله علينا، أخطب لك فتاة أجمل من القمر.
يعلق على وعدها في صمت:
ـ منذ سنوات يا أمّي والأقمار تظهر وتغيب، والله لم يوسّعها علينا بعد!
تلمس الإحساس بالخيبة في نظراته بحدس الأم، تتألم في صمت، لكنها لم تفقد الأمل في أن تدعو الله في كل صلواتها أن يفرجها معهم، وتفرح بعروسه.
هذا الواقع الذي يزداد تعقيدا كل يوم، ينغّص عليه أحلامه، ويمنعه من الطّيران، ويشدّه إلى الأرض. حاول التهرّب منه، والعودة إلى تخيّلاته من جديد.
5
رأى نفسه يُلبسُ العروس الخاتم، ويطبع قبلة سريعة على خدّها الأيسر، أصابته رعشة خفيفة، فكاد يذوب من الخجل. نفس الخجل الذي اعتراه عندما وضعت خدّها على شفتيه في الصّباح. تبادلا شرب الحليب، وعضّت على نصف التّمرة، وقدّمت له النّصف الآخر. ارتفعت الأهازيج الشعبية:
ـ ( ادّاها ادّاها والله ما خلاّها )*
في اللحظة التي وقفا فيها معا، يهُمّان بالذّهاب إلى غرفتهما في البيت الجديد، قطع عليه مُنبّه السيارة حلمه الجميل. فتح البوّابة، وناداه وائل بإشارة من يده، وتبعه بسرعة. طلب منه حمل بعض الحاجيات من حقيبة السيارة إلى الشقة. نزلت فتاة في سن الزهور. وضعت يدها في يد زميلها. ترتدي سروال (دجينز) قصير، وقميص صيفي يفصل بين النصف الأعلى، والنصف الأسفل من الجسم، فبدا جسدها من الخلف ضامرا وجميلا، مثل عود الخيزران.
وهو يصعد السُلّم، لاحظ بأن العُلبة ثقيلة شيئا ما. خمّن بأنها مليئة بالطعام والمشروبات الروحية. رأى بأنهما يتمايلان بفعل السكر، ويتّكئان على بعضهما مثل عاشقين. رُبّما قَدِما من مرقص لقضاء بقيّة السهرة في البيت. كل ليلتي جمعة وسبت يخلق وائل جنّة صغيرة توافق مزاجه.
6
كاد يستيقظ بداخله حيوان قديم، سكن روحه في الماضي، لولا هذا العمل اللعين الذي لم يعثر عليه إلاّ بشقّ الأنفس، والقسَم الذي أدّاه لوالدته أمام المصحف الكريم، بأن يعمل كل ما في وسعه للتخلّص من هذا الجزء الأسود من ماضيه، حتى لا يجرجرها أمام الأقسام والمحاكم، وهي في أرذل العمر.
شتم حظّه العاثر، لم يستطع تخيّل بقية للعرس، فقد خرج الضيوف، وتشتّت ذهنه. شكا الفتاة التي قبّلته هذا الصباح إلى الله، وتمنى لو لم يقابلها.
عندما يدخل سوق رأسه، يطير عاليا بلا أجنحة، لكنه يسقط مثل طائر ميت على رأسه قبل أن يرتطم بالأرض.
المعجم :
ـ (بلاتو) : صينية
ـ (ادهاها اداها والله ما خلاها) : فاز بالعروس ولم يتركها لغيره
مراكش 01 / 12 / 2020