في كثير من الأحيان وعند بحث أو استشهاد نهتم كثيرا بأسماء الأعلام وتعاريفهم وما ذكر في شأن سيرهم وحياتهم، هذا ليس منكرا إذا ما تعلق الأمر بإحياء ذكر من قدموا للإنسانية من البذل في شتى المجالات ما يسّر التراكم والتقدم ومنح للتالين سبل التطوير واستكمال ما أسسوه واشتغلوا عليه، غير أن مثل هذا العمل يعتبر فاقدا للجدوى إذا ما تم الاقتصار على التمجيد والإعجاب وأحيانا اتخاذ الذرائع للتباكي والتحسر بدل العناية الحقة بما أنجزوه وتدارسه وإعادة قراءته وتمثله فكرا وتفكيرا من جهة عن طريق فهمه في سياقه ومن جهة عبر تحيينه من خلال استحضاره في زمنه بالموازاة مع لحظة الحاضر وإنشاء التقاطعات الضرورية التي تعبر عن وحدة وشمولية الفكر والفعل الإنسانيين في جوهرهما داخل التحولات والانتقالات في الزمن والمكان والبراديغمات .
مناسبة هذه الديباجة أني تابعت برنامجا وثائقيا كان قد أذيع منذ سنوات، عنوانه العلماء المسلمون وهو عبارة عن حلقات، في كل حلقة يتم تناول سيرة وحياة وأعمال علم من أعلام علماء المسلمين. في الحلقة التي صادفتها تعلق الأمر بياقوت الحموي العالم الجغرافي والأديب الموسوعي، كنت قد سمعت به وقرأت عنه بشكل شخصي غير متخصص متفرقات، والتصق بذهني ياقوت الحموي مشهورا بمعاجمه وعلى رأسها معجم البلدان، لكني لم أطلع على الحموي بالطريقة التي سلف ذكرها أعلاه حتى لا يظل مجرد اسم شهير بلا فائدة عندي أو عند غيري، مثلما نستحضر ديكارت مثلا من خلال العبارة المفرغة في الغالب من كل معنى أو سياق أو فهم: أنا أشك، أو أنا أفكر؛ أنا موجود! كليشيهات مكرورة فقدت رغبة وإلحاح الراهنية والجدوى وارتمت لاشعوريا في حضن الابتذال واللاقيمة..
لكي يوجد الحموي حقا بيننا شأنه شأن أعلام الإنسانية عامة في أيما ملة كانوا لا بد من تمثل ما قدموه استعادة وتحيينا وصناعة للحاجة إلى أعمالهم وما أتوا به لا مجرد استثمار نفعي مبني على قطيعة تاريخية. بعيدا عن كونه روميا أو يونانيا فيم يروى ويحكى اللهم إن كان لتلك السيرة من دلالة تتعلق بالعلم والفكر والعطاء العقلي والثقافي ذاتها وإلا فإنها تظل بعيدة عن الموضوعية قريبة من التأويلات المنحازة الإيديولوجية من قبيل ربط عرق وانتماء العالِم بقابلية النبوغ والعظمة.
ليس المقام هنا في هذه المقالة المقتضبة كافيا للخوض في أعمال الحموي والإشارة إلى أهميتها وفوائدها وامتداداتها ولكن شدني أمر يتعلق برؤية خاصة للحموي لواقع عصره وحقيقة زمنه عبّر عنها شعريا فيما ينسب إليه، وتشابُه تلك الرؤية مع حاجة من شاء في زمننا أن يعبر عن نفس النظرة أو اتخاذ نفس الموقف تجاه مثل ما عاشه الحموي بشكل يشتغل على مسافة يتوازى فيها التقدير والتكييف والتجاوز غير المؤسس على الهدم وإنما على النقد بضوابط لائقة لا تدعي شيئا. فقد جاء في الفيلم الوثائقي على لسان الدكتور حسن طلب أن ياقوت الحموي قد نسب إلى نفسه من الشعر ما يلي:
إذا ما الدهر صبّحني بجيـش *** طليعته اغتراب واغتمــام
طلعت لـــــه بجيـــــــــــــش *** أميراه الذبـــالة والكتـــاب
وفي بحث أنجزته لمزيد التحري عن حقيقة هذا القول الشعري وجدت أن القاضي شمس الدين ابن خلكان قد أورده في كتابه: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ، الذي يعد من أشهر التراجم العربية. ذكره بالصيغة التالية:
إذا مـا الدهر بيتنــــي بجيشٍ *** طـليعته اغتمام واغترابُ
شننت عليه من جهتي كميناً *** أميراه الذبـــالة والكتـــــاب
وبت أنص من شيـم الليالي *** عجائب من حقائقها ارتيـاب
بها أجلو همومي مستريحا *** كـما جلى همومَهمُ الشـرابُ
لقد عاصر ياقوت الحموي من الأزمات ما يكفي لينظم مثل ما أتى به والشاعر مؤرخ خاص لقضايا زمنه مهما تعددت المدارس وتجددت الرؤى والأشكال الشعرية، خاصة إذا كان الشاعر موسوعيا وعالما يحمل إلى جانب القريحة معرفة وحكمة وفلسفة، ويعتبر الشاعر مؤرخا فريدا في تعاطيه مع أحداث زمنه لأنه لا يرصد الأحداث فيحللها ويؤولها ويشيد تصورا تاريخيا حولها، بل يتجاوز ذلك إلى اتخاذ موقف وتجسيد مقاومة وبناء رؤية شمولية تتجاوز الخصوصية إلى الكونية والتصور الإنساني الساعي إلى الانتصار للحقيقة والقيم وجودة المستقبل.
عاش ياقوت انهيار العالم العربي الإسلامي تباعا على يد المغول وتحديدا جاءت أبياته التي أوردها ابن خلكان في كتابه ضمن رسالته في وصف سقوط خراسان سنة 617 هـ/1220 م. فكيف يواجه عالم شاعر هذه النكسة؟ في وضع عام تعيش فيه الخلافة الإسلامية انقسامات وانحطاطات على عدة واجهات ويعني ذلك طبعا فترة ركود وصعوبات تواجه الإنتاج العلمي والثقافي والأدبي وازدهاره كما في الفترات التي عاشها من قبل علماء عاصروا أوج الاهتمام بالعلم والعلماء في عهد الدولتين الأموية والعباسية.
رأى ألا قبيل له باغتراب المرء في أرضه التي تعاني الويلات والغمة التي سببها ذلك إلا بالقراءة ومتابعة الكتاب، وهذا لا يعني أنهما مقصوران على وضع كهذا بل يوردهما الحموي هنا كحالة مقاومة ودفاع ملحة لمواجهة الهموم والمآسي المحيطة. فهل معنى ذلك أن المثقف هنا يعيش وضع هروب؟
إن الهروب صوب ذبالة تنير العتمة لتفتح أمام الرجل دفتي أسرار الأسفار هو حضور متزن وضروري أمام الالتباس والأزمة وتسارع أحداث الانهيار. فهل معنى ذلك البحث عن الفهم وترسيخ إرادة الفهم؟ الحموي عالم جليل ولا بد أنه يستوعب تماما ما كان يحدث آنئذ. لهذا فالغرض يتعلق بكون الاستيعاب يحتاج إلى صفاء الذهن وهو ما يتعذر أمام الهول والغزو، ولذلك لا سبيل إلى استجماع القوة وإعادة النظر والتفكير المتأني إلا بالعلاج، يقترحه هنا كدواء فعلي نفسي عملي يتمثل في جيش النور والقراءة والكتاب، إن الإنسان بالقراءة قادر على تجاوز ضيق لحظته بالانفتاح على عوالم تفوق بكثير تلك اللحظة وتجعلها بعدة معان، هينة وصغيرة أمام ممكنات الكتاب الشاسعة واللانهائية معان وتأويلات وحقائق وامتدادات…
لا يمكن للمثقف أن ينجز عمله المتعدد والمتمفصل بين الفهم والمشاركة في المواجهة المباشرة أو النضال إلا بتشخيص حالته النفسية وتحديد نوع العلاج الكفيل بإجلاء الهموم وتحصيل الراحة من أجل إنجاز مهماته والتي قد تختلف من زمن إلى آخر ومن تصور إلى آخر. وفي زمن تتسارع فيه التقنية لتقوض الفعل الإنساني وتعوض الفاعلية والنشاط البشريين، يبدو من أولى الأولويات التي يجب أن تشغل العالم أو المفكر أن يواجه، وهذا الخيار الذي يطرحه الحموي ليس خيارا خاصا بقدر ما هو رؤية كونية تتيح مقاومة التفاهة والسذاجة والتهافت وظهورها الملفت بفعل وسائل الاتصال والتواصل والإعلام، وتمكن من الوقوف في وجه ابتذال الخطابات والتباسها المقصود بالعلم والفكر والفلسفة ما يؤدي أو أدى بالفعل إلى تمييع الحقائق وتنسيبها التعسفي. جيش النور والقراءة والكتاب يشتغل على عدة واجهات؛ فهو علاج نفسي يعمل على منح الراحة العقلية والفكرية للعالم أو القارئ عموما، وهو سلاح يجلي الحقائق ويعرضها ويناقشها ومن خلال ذلك ينير عتمة السائد ليتكشّف الزيف والوهم ويسهل في ضوء ذلك التفكير في البدائل وطرح الرؤى المغايرة والثبات على المواقف، ويكاد يكون هذا قمة تحقيق التفكير عامة والتفكير الفلسفي خاصة لإرادته في الفهم ضدا على صناعة اليقينيات والديماغوجيات وبلادة تقبل الآراء التي تمت صناعتها وترويجها والإقناع بها نظرا لغياب كل شك أو نقد.
أن نبحث عن مصباح وكتاب يشكل يقظة للشك، فهموم العالم ليست مجرد حالة نفسية، بل هي حالة وجودية كذلك أمام وضع الانحطاط والانحدار لا يمكن الخروج منها إلا بالقراءة العارفة قدر القراءة، وإلا كنا أمام ترف أو أنانية تروم تهدئة وجعها وشفاء مرضها منفصلة عن العالم. لهذا ترك لأهل الشراب متعتهم التي تنسيهم كل غم نظرا لبحثهم الساذج عن الراحة بمفهوم الهروب الشهواني السلبي، بينما بحث عن الاشتغال بالكتاب وهو عمل مسؤول لا يمكن أن تنتج عنه إلا راحة الفهم وطلب المعرفة وتعرية الأوهام بكشف الحقائق.
إن ما يزيد هذه الحقيقة وضوحا هو أن الكتاب الذي ألفى فيه الحموي ضالته كمقاومة شكل عبر التاريخ انعتاقا وإنقاذا، والأمثلة كثيرة ومثيرة منها ما غير وجه التاريخ. فأي مثقف اليوم ينشد الحقيقة بعيدا عن ضجيج الكتاب الذي ينتظر اجتثاث المعنى وتحقيق الفهم وخلق الإنتاج الفكري والعلمي والفلسفي السليم بدل تمجيد ظاهر الأفكار وتعظيم الأشخاص عوضا عن استيعاب ما قدموه وتمثله وتحيينه من صلب ابتكار الحاجة إليه للإجابة عن أسئلة الحاضر عن طريق الاستنطاق والمحاورة لا الاجترار والتقديس وتكريس السذاجة من الحس المشترك إلى الادعاء الفكري والعلمي.
ومما تجدر الإشارة إليه في ختام محاورة الحموي وأبياته الشعرية أنه عرف بعدم تذللـه أو تزلفه للملوك والسلاطين والحكام وفي ذلك انسجام قد نفهمه بين الهروب إلى الكتاب والبحث عن العلاج الفكري مقاومة ومواجهة وثبات المثقف على مواقفه ونشدانه للحقيقة. لم يكن يدعي امتلاك الحقيقة ولا أدل على ذلك من أنه كان يدعو القارئ إذا شك فيما لديه أن يبحث عند غيره وكذلك كان يفعل، فرغم أخذه عن الثقات من العلماء كان يتحرى ما ورد عنهم بنفسه خاصة فيما احتاج إلى معاينة وفحص مباشر. هذا الشك المعرفي هو ما أدى به إلى القول ذات تأليف:
إن الحياة ليست مقصورة على كوكب الأرض..
لا يعنينا هنا المراد العلمي من العبارة، بقدر ما يهمنا في هذا المقام انفتاحها على الممكن الذي ليس سوى ترجمة فعلية لروح البحث عن الحقيقة والبعد عن كل انغلاق فكري أو وثوقية جامدة وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بجيش من النور والكتاب لغزو الآفاق والفتك بالظلمة بشكل متواصل لا يهادن أو يتراجع.