لا يمكننا أن نتحدّث عن مجمل القيم الإنسانية في المجتمعات العربية المعاصرة بمنأى عن بنية هذه المجتمعات، و أنماط الثقافات السائدة في هذه المجتمعات، والتي تفعل فعلها اليومي في أنساق هذه المجتمعات، و أنظمتها المعرفية و السياسية.
ويبدو أن القيم الإنسانية في المجتمعات العربية المعاصرة بدأت تنكمش شيئا فشيئا، أو بتعبير آخر بدأت تتراجع و تضمحل، فقيم الحقّ والخير و الجمال و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و العدالة الاجتماعية و السياسية لم تعد بنية عليا من بنى الخطابات المعرفية السائدة في عالمنا العربي المعاصر، و لم تعد بنية يُعتدّ بها، ويُطالب بسيادتها في شرائح هذه المجتمعات، لأنّها لم تعد فاعلة في السلوك اليومي الذي يمارسه المواطن العربي، ولا في ثقافته، و طموحاته، و توجّهاته الجديدة.
إنّ الخيبة العامة التي أصابت الإنسان العربي في فرحه وطموحه، و تطلعاته، لهي خيبة كبيرة جدا، كان لها أثرها الواضح في انحراف مسار توجهاته الإنسانية المحكومة بمجمل القيم الإنسانية النبيلة التي كان يعتدّ بها المجتمع العربي قبل قرون سابقة والتي كانت تمجد الكرم والحق والخير، و التي كانت تبدو جلية في أدبياته وكلاسيكياته التاريخية و الحكائيّة.
فعلى مستوى الواقع السياسي المعاصر يضمحل فعل القيم الإنسانية، لأنها بدأت تتلاشى، وتحلّ محلّها قيم السلطة و خطاباتها المعرفية و الثقافية الخاصة ذات التوجّه الميكافيلي، و المحكومة بنمط معرفي أحادي الجانب، يرفض الآخر،و لا يقبل ثقافته أو رأيه، بل يعمل على تهميشه و تغريبه واستلابه، و محاصرته، و التضييق عليه، في شتى توجّهاته، و بطبيعة الحال فإن خطابات السلطة و توجّهاتها المعرفية، و رؤيتها أحادية الجانب، المحكومة بطابع استبدادي قمعي، لم تسهم يوما ما في تكريس الثقافة الإنسانية، و نشرها في أوساط المجتمعات، بل عمدت إلى تشويه كلّ ما هو إنساني و نبيل من خلال خطاب الديكتاتورية الفردية و القمع و الاستبداد الذي تكرّس بقوة السلاح، و النفوذ السياسي و المالي و الاقتصادي، ومن هنا فقد همّشت السلطات في معظم المجتمعات العربية جميع مناوئيها من ذوي الثقافات المغايرة لفكرها، وما هجرة المثقفين العرب و المبدعين منهم إلى خارج بلدانهم إلاّ دليل أكيد على فعل السلطة الطارد، و معاداتها للقيم الإنسانية الجمالية و النبيلة، فأي ثقافة إنسانية ديمقراطية في ظلّ الخطاب أحادي الرؤية و التوجّه، وأي ثقافة يمكن أن تظهر في مجتمعات يحصل فيها الحكام على نسبة 99,99 بالمائة في محافل الانتخابات المزوّرة و غير الشرعيّة، و يحصل فيها الحزب الحاكم على معظم الحقائب الوزارية، أو مقاعد البرلمان؟
لقد وعى خطاب السلطة السياسي و المعرفي أنّ القيم الإنسانية المحكومة بخطابات الحق و الخير و الصلاح و الفضيلة و العقل هي قيم معادية لبنيته المعرفية، و لذا فقد عمد إلى تشويه هذه الخطابات المناهضة و المعارضة، و استند في ذلك إلى مجموعة من القيم الاستبدادية التي يبثّها أعوان الأنظمة في جميع مفاصل الحياة، و يساعدهم في ذلك مجموعة من المثقفين الوسطاء الذين سخّروا وعيهم، و قراءاتهم، و رؤيتهم و كتاباتهم لخدمة خطابات هذه السلطة، و ما كان من هذه السلطة أو تلك إلاّ وأن أغدقت على هؤلاء بسخاء كبير.
و من يمعن النظر جيدا في الواقع الثقافي العربي سيلاحظ جيدا إلى أي مدى استطاعت خطابات السلطة أن تطمس بقية الخطابات الأخرى، أو تشوّهها أو تلغيها بفعل هؤلاء الوسطاء المرتزقة الذين يدبّجون الخطب الطنانة للمسؤولين السياسيين، و الذين ينهالون عليهم مديحا تلفيقيا كاذبا، و الذين هم سادة الساحة الثقافية العربية، فالكاميرا و أضواء الشهرة البرّاقة مسلّطة عليهم، و الصحافة الرسمية تحتضن كتاباتهم باحترام و اهتمام، و المحطات الفضائية الرسمية تستضيفهم، و تغدق عليهم، و النظام السياسي بحاجتهم، وهم بحاجته في الوقت نفسه، لأن هذا النظام يحتاج إلى تلميع وجهه و سلوكه الاستبدادي أمام الرأي العام في الداخل و الخارج، و بخاصة في الخارج، حتى يلقى قبولا دوليا، وهؤلاء الوسطاء بحاجة لهذا النظام أيضا لأنه يمنحهم الشهرة الواسعة، و الثراء المالي، و أحيانا النفوذ السياسي، و المكانة الاجتماعية التي يحلمون بها، إنّه يمنحهم قوة البطش أيضا ضد معارضيهم من ذوي التيارات المعرفية الأخرى المغضوب عليها. ومن هنا بات طبيعيا أن تكون خطابات هؤلاء الوسطاء تفتقد إلى البعد الإنساني و المعرفي بتوجّهاته و قيمه الإنسانيّة.
إن خطاب السلطة الاستبدادي فرز مجموعة من الإمراض الاجتماعية و الفكرية، وقد بدأت هذه الأمراض تنخر بنية المجتمع العربي والإسلامي من الداخل، وأسهمت بدورها في انكماش القيم الإنسانية و تراجعها، فهناك التفاوت الطبقي الحاد الذي همّش الناس البسطاء، و زادهم فقرا و استلابا ويأسا من إمكانية أن تسود القيم الإنسانية أو أن تكون قادرة على تهديم قيم الاستبداد وخطاباته، و بالتالي الإسهام في الإصلاح الاجتماعي و السياسي الذي يفرد مساحات أوسع للفكر الإنساني الديمقراطي و الحضاري. يضاف إلى ذلك زيادة تهميش الناس يوميا وإبعادهم عن التفكير بالتغيير السياسي و إصلاح بنية الدولة، و التفكير في قوت يومهم فقط، انطلاقا من سياسة ((جوّع كلبك يتبعك))، و ذلك من خلال تمركز الثروة الاقتصادية بيد فئة قليلة من المجتمع لا تتجاوز ـ في أقصى حالاتها ـ عشرة بالمائة. و هذه الحال أسهمت بدورها في إفراغ خزائن الدول على نفقات باهظة لا تسهم أبدا في تخفيف الويلات و المصائب، و مآسي الجوع و الفقر التي أصابت معظم شرائح المجتمع و شلّتهم، إذ بدأت خزائن الدولة تُصرف لزيادة رفاهية المسؤولين السياسيين، و زيادة أملاكهم و قصورهم، حتى أننا إذا تأملنا البنية الداخلية لأحد قصور المسؤولين السياسيين المعاصرين، بزخرفتها و تنسيقها الجمالي المدهش لوجدنا أنّ ما أُنفق على هذه الزخرفة الشكليّة كان كافيا لإطعام مئات الأسر الجائعة، بل الآلاف منها، فقد غرق هؤلاء المسؤولون و زوجاتهم و بناتهم و خليلاتهم في رفاهية و ثراء فاحش يبدو أقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة، و بالتالي أسهم إهدار أموال خزائن الدول العربية على ملذّات المسؤولين الخاصّة و موائدهم، و حفلاتهم ومسرّاتهم الشخصيّة، و نفوذهم السياسي و الاجتماع ي، في تجويع الشعب وإفقاره، وانتشار مزيد من الأمراض الاجتماعية كالبطالة و التسوّل و السرقة، و الجرائم و الجنح، و الدعارة و الاتجار بالجنس و المخدرات، و إلى ما غير ذلك من الأمراض و الموبقات الأخرى. و لا نغالي إذا قلنا إن هذا التمركز كان في ما بعد سببا رئيسا من أسباب انهزام العرب في صراعهم التاريخي مع إسرائيل.
وهذه الأمراض بدورها فرزت قيماً جديدة معادية للقيم الإنسانية الأصيلة والحقيقية، فالبطالة على قدم وساق في عالمنا العربي المعاصر، إذ تدفع مزيدا من زهرة شبابنا الذين درسوا وتخرجّوا في الجامعات، حاملين أعلى الشهادات، إلى قمة الجنون واليأس، أو الجريمة أو الانحطاط في مهاوي الرذيلة، و بالتالي تدفعهم إلى أن يتخّلوا عن كل القيم العلمية و الإنسانية و المعرفية التي تربّوا عليها ـ خلال دراستهم الجامعية ـ .
و على الرغم من ثراء الدول العربية، و خيراتها الاقتصادية المذهلة، على مستوى الزراعة أو المعادن أو الثروات النفطيّة الهائلة، فإنها لتقف عاجزة عن أن تضع حدا لزحف هذه البطالة وارتفاع معدّلاتها السنوية المخيفة في معظم الدول العربية، لأن الحكومات العربية لا تجد نفسها معنية بأحوال الناس و مصالحهم، بل يهمها بالدرجة الأولى مصالحها الذاتية الخاصة، ومصالح الفئات التي تساندها، و تساعدها على تكريس خطابها السياسي و المعرفي.
و على الرغم من ثراء هذه الدول، و كثرة جامعاتها و كلياتها ومعاهدها العملية التابعة للدولة أو الخاصة، فإنّ الأميّة لا تزال ضاربة أطنابها في معظم المناطق العربية، سواء أكانت حضرية أم بدوية، زد على ذلك الأميّة الثقافيّة التي تصيب كثيرا من المتعلمين وخريجي الجامعات، و كلّها تسهم في إقصاء القيم الإنسانية: قيم الحق والعدل و الخير، و التطلع إلى العيش الكريم، و العدالة الاجتماعية و السياسية. يضاف إلى ذلك تكريس مفاهيم الثقافة الاستهلاكية، لا الفاعلة المبدعة، التي أصابت معظم شرائح المجتمع العربي، هذه الثقافة التي أسهمت، بشكل واضح، في تهميش كلّ ما هو إنساني وأخلاقي، وإحلال ما هو سلعي واستهلاكي بدلا منه، هذه الثقافة التي أسهمت في نشرها وسائل الإعلام المسموعة، والمرئية والمقروءة، أو كرّستها بشكل فاعل في كل أسرة و منزل عربي، و أحدثت فيه شروخا واسعة بين أفراد العائلة الواحدة، بحيث بات من ينظر إلى من يبثّ بين أفراد هذه العائلة قيماً أخلاقية و إنسانية نبيلة على أنّه غريب وشاذّ، و غير قادر على مواكبة قيم العصر.
و قد أسهمت معظم الفضائيات العربية في بثّ قيم السلعة و الاستهلاك الآنية الرخيصة، بحيث باتت أنساق الثقافة القائمة تتركّز في ثقافة العطور و الأزياء، و الإعلانات التجارية، و الرقص و الموسيقى الهابطة، و عروض الأزياء، و جسد الأنثى باعتباره هو الآخر سلعة استهلاكية. و إذا كانت كلّ هذه الفضائيات قد احتفت كلّ هذا الاحتفاء المهيب بثقافة السلعة و الاستهلاك، فإنّها غيّبت الثقافة الجادّة التي تخاطب العقل و الروح و الوجدان و القيم الإنسانية النبيلة، و إن حضرت هذه الثقافة الجادة فإنّ حضورها خجول و هزيل، و لا يتعدى أن يكون خبرا سريعا، و عرضيا غير مهم.
هذا و قد أسهمت الولايات المتحدة الأمريكية، بترسانتها العسكرية، و شركاتها المنتشرة في معظم بقاع الوطن العربي، و بثقافتها التي دخلت كلّ منزل في تكريس ثقافة العنف و القتل و السطو، و البطش و الاستبداد، و قتل الروح الجماعيّة الإنسانية عند الناس وإحلال النزعة الفردية الضيقة و الأنانيّة التي تمجّد الفرد، و تدفعه لأن يكون مارقاً و متمرداً على قيم الوعي الجمعي الإنساني، و إلى أن لا يرى في المرآة إلا انعكاسا لظلّه وذاته المتورمة. و قد بدأت هذه الثقافة في عالمنا العربي تستهوي كثيرا من جيل الشباب العابث و المتسكع الباطل عن العمل في آن، بحيث بات هذا الجيل يعتقد جازما أنّ أمريكا هي فضاء القيم الجميلة، و الأحلام و التحرر والثراء السريع، و الديمقراطية العادلة، في حين أنّ بلاده ليست إلا فضاء للفقر والذلّ و السجون السياسية، و الويلات. وقد صرح لي شاب عربي خريج إحدى الجامعات العربية، متزوج وله طفلان، و بشكل علني، ويائساً وكئبياً، أنًه سيكتب رسالة إلى رئيس أمريكا يتوسل إليه أن ينقذه من بلاده العربية، و أن يقبله لاجئا سياسيا هو و أطفاله وزوجته حتى يستطيع أن يعيش بقية عمره في كرامة وحرية، ويستطيع أن يعلم أولاده في جامعات أمريكا، و أن يكمل هو شهادة الدكتوراه بعد أن حرم منها في بلاده.
و قد أسهمت الأنظمة العربية ـ أيضا و إلى حد بعيد ـ في تكريس هذا الاعتقاد، لأنّ هذه الأنظمة لم تستطع أن تدرس حاجات هؤلاء الشباب و طموحاتهم، و آمالهم في الحق و الخير و العيش الكريم، و الحصول على وظيفة كريمة تدفع عنهم غوائل الفقر، بل أهملتهم و رمتهم في الشوارع، ليخرج قسم كبير منهم مجرما وشاذا، و مارقا و متمردا على كل القيم الإنسانية النبيلة، و الأخلاق الكريمة في بعدها الإنساني و المعرفي.
إنّ القيم الإنسانية في مجتمعاتنا العربية المعاصرة لا يمكن أن تنمو، أو أن تشقّ لها طريقا في ظلّ ثقافة التسلط و الاستبداد، و قمع الحريات الفكرية و السياسية، و انتشار السجون السياسية، إنها بحاجة إلى مناخ ديمقراطي، يستطيع الأفراد فيه أن يفكّروا و من دون خوف أو أي نوع من أنواع الإرهاب، و أن يحلموا من دون رقيب متسلط، و أن يكونوا مسهمين فاعلين متشبعين بروح المجتمع المديني، الذي تنتفي منه ثقافة التسلط و الاستبداد، و الدكتاتورية الفردية التي لم تجد منذ بدايات تشكلاتها في العالم العربي من يكون قادرا على أن يقول لها: كفاك استبداد و بطشا و احتقارا لأبناء وطنك، و استزلاما و استرقاقا لهم، ونستثني من هذا بعض الأصوات المعرفية الحرّة النظيفة التي قضت أوقاتا طويلة في السجون السياسية و التي لا يزال بعضها حتى الآن في هذه السجون.
وإزاء ثقافة التسلط و الاستبداد المؤسساتي الرسميّة، و القنوات الفضائية و الإعلامية التي تساندها لا بدّ من أن تتضافر جهود الشرفاء و المخلصين لأمّتهم وثقافتها و تاريخها، مجتمعة، و تنشئ مؤسسة ثقافية خاصّة كبيرة لتسهم في تكريس ثقافة إنسانية مدينية، وفكر معاد لفكر الاستبداد المؤسساتي الرسمي.
إن إنشاء هذه المؤسسة الخاصة ـ إذا توافرت لها الأيدي النظيفة، والقلوب المؤمنة إيمانا عميقا بدورها المعرفي والتنويري ـ ستسهم إسهاما فاعلا في أن تكون منبرا حرا نظيفا، في حركة الثقافة العربية المعاصرة، وفي توجهاتها وقيمها، و أفقها الإنساني الرحب، و ستسهم في إخراج الحال الثقافية السائدة في العالم العربي من الانحطاط والركود، بعد أن أسهمت المؤسسات الإعلامية الحكومية في تقديم ثقافة سطحية موالية انتهازية، و في تقديم خبر تلفيقي، قد يكون في معظم الأحيان تضليليا لهذه الجماهير العربية المطحونة في قوت يومها، وتوجهها الإنساني والمعرفي.
ويمكن لهذه المؤسسة الخاصة أن تكون في ما بعد مركزا استراتيجيا مهما للمعرفة الإنسانية، يفيد الأمة العربية كلها، ويفيد الجامعات العربية، ومراكز البحث العربية، ويفيد صانعي القرار السياسي، والحكومات العربية نفسها. فإذا كان ،وراء الحكومات العربية، يقف مستشارون منافقون يزيّنون لها أوجه الفساد و الاستبداد، و يكذبون عليها ، و يشعرونها بأن أوضاع العالم العربي كلها بخير، وأنّه لا يشوش على المواطن العربي أي عائق في عيشه، و في فرحه، ، و في خبزه اليومي، وفي تعليم أطفاله، و بناء مستقبلهم، فإن مؤسسة نظيفة مثل هذه المؤسسة يمكنها أن تكون ـ بالإضافة إلى دورها المعرفي ـ مؤسسة إنسانية نبيلة الطرح، إنسانية التوجه و الرؤى، و ذلك من خلال جمع أخبار العالم العربي، وأخبار أوضاعه الاقتصادية و الثقافية والإنسانية و الاجتماعية، و تحليل هذه الأوضاع بدقّة علمية، يغلب عليها روح البحث العلمي والأكاديمي، ومن ثمّ تقديم بديل حضاري عادل لهذه الأوضاع المزريّة والمخجلة التي يعيشها عالمنا العربي، و هنا يمكن لهذه المؤسسة أن تستعين بخبراء عقلاء من أقطار الوطن العربي ينقلون لها ما يجري على الساحة العربية، ويحللونه بدقّة، أي يتمّ نقل الخبر، ثمّ يحلل تحليلا معرفيا، من قبل عدد من الباحثين والخبراء، ثمّ يقدم بأمانة وصدق إلى المتلقي العربي الذي هو بحاجة ماسة إلى مثل هذا الخبر الموضوعي الصحيح. كأن تعين هذه المؤسسة مندوبا أو مندوبين في كل دولة عربية، ويقوم هؤلاء المندوبون بتغطية أخبار العالم العربي، و لا بدّ أن تؤمّن هذه المؤسسة لهؤلاء المندوبين نوعا من الحصانة الصحافية، لأن مؤسسات الرقابة العربية الرسمية لا يُؤمن جانبها في هذا المنحى، لأنّ لها يدها الطويلة الباطشة، التي تستمدّ فعلها و تأثيرها من سلطة الدولة البوليسية؛ ثمّ يقوم هؤلاء المندوبون بتقديم هذه الأخبار مع تحليلهم الخاص لها، ورؤيتهم الخاصة، و رؤية الفرد و المواطن تجاه هذه الأخبار من جهة، و رؤية الدولة من جهة أخرى إلى مدير مركزي يكون مقرّه في الدولة التي ستقوم هذه المؤسسة على أراضيها، ثم يقوم هذا المدير المركزي بالتعاون مع بعض الخبراء الآخرين بإعادة تحليل هذه الأخبار، وتحليلها بحثيا وأكاديميا معرفيا، لأنّ التحليل الأكاديمي لها يبدو مهما جدا، لأنه الوحيد القادر على إضفاء مسحة العقل و العلم والمعرفة والبحث عن الحقيقة الموضوعية بصدق وأمانة و إخلاص.
وقد تكون النتائج المستخلصة من هذه الأخبار والظروف التي نشأت فيها، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية، مهمة جدا بالنسبة لصانعي القرار، و من هنا فإن هذه المؤسسة تقدّم خدمات كبيرة لصانعي القرار السياسي و هي ترشدهم إلى طريقة تعاملهم مع ما يجري في بلدانهم، و في مجتمعاتهم. و لا بدّ لهذه المؤسسة من أن تكون إنسانية الطرح، في توجهاتها الأخلاقية و المعرفية، وإلاّ فإنّ المواطنين البسطاء المقهورين سينفرون منها، و يعتبرونها ـ مثلها مثل أي مؤسسة أخرى تغذيها السلطة وتوجهها كيفما شاءت بعيدا عن الحقائق العلمية و الموضوعية ـ .
و تستطيع هذه المؤسسة من خلال خبراتها التركيز على معوقات النمو الحضاري و المعرفي الذي هو الآن في أشدّ حالات انحطاطه في عالمنا العربي المعاصر، و تشير بأصابع النقد العلمي الموضوعي إلى جميع حالات التراجع و الخيبة التي تعيشها المجتمعات العربية المعاصرة، و ذلك تمهيدا لتأسيس بديلا منها، غير أنّه ليس من مهمة هذه المؤسسة ـ في الوقت نفسه ـ أن تشرّع باب النزاع و الخصومات مع السلطات السياسية العربية بشكل علني وواضح، بل أن تقوم بدور الكاشف و المعري، ودور الناصح و الدليل لهذه السلطات دون أن تدخل في معارك تؤذيها في نهاية المطاف أي أن تتحلّى هذه المؤسسة بالحكمة أولا وبالشجاعة ثانيا، و بمعرفة مكامن الخطر التي قد تصيبها من السياسات العربية الهوجاء و المستبدة التي ترفض الحوار مع شعوبها و مواطنيها، لأن هذه الحكومات تعتمد البطش سلاحا فتّاكا بديلا من الحوار الحضاري، و من هنا فإنّ هذه المؤسسة قد تسهم في تأسيس فعل حواري حضاري لبنى حياتنا العربية المعاصرة، و بالتالي تسهم في تقليص فعل السلطة الاستبدادي من جهة، و في زرع فكر تنويري لدى المواطنين من جهة أخرى تدفعه لأن يكون مسهما في الحوار وفي صنع القرار، و إبداء الرأي بكل ما يجري حوله، إي أن هذه المؤسسة تحسن إحسانا كبيرا وإنسانيا لكل من السلطة و المواطن معا.
و يمكن لهذه المؤسسة أن تؤسس إذاعة مسموعة، و قناة تلفزيونية خاصة بها، وسيكون لهذه الإذاعة والقناة دور مهم جدا، و ذلك نظرا لتأثير الإعلام على رأي الناس و ثقافتهم و أطروحاتهم الفكرية و المعرفية.
قد يقول قائل:لماذا تنشئ هذه المؤسسة قناة إذاعية و تلفزيونية خاصتين بها، و ما جدوى ذلك في ظلّ مئات المحطّات العربية الحالية التي ملأت البيوت العربية؟ يبدو هذا القول وجيها بالنسبة للمتلقي العادي الذي اعتاد على نمط معين من المحطات التلفزيونية التي لا تقدّم له إلاّ الخبر السريع السطحي أو التلفيقي الكاذب أو المؤدلج أدلجة خاصّة بتوجه السلطة وفكرها من جهة، و بفكر القائمين على هذه المحطات من جهة ثانية، هذه المحطات التي أسهمت في تخريب تلقيه الجمالي والمعرفي، من خلال الثقافة الاستهلاكية و السلعية الرخيصة.
فلقد اعتاد المواطن العربي من خلال هذه المحطات و بفعل تأثيرها على النفور من الثقافة الجادة الأصيلة الإنسانية العميقة، لأنّه لم يشاهد أمامه إلاّ كل ما هو سلعي آني سريع مثير لغرائزه الوحشية و البهيمية الجنسية، و الطائفية و القبلية من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال نلاحظ أن أثرياء العالم العربي يتسارعون لإنشاء محطات تلفزيونية عديدة، ليبثّوا من خلالها الأفلام، و الموسيقى الهابطة، و الثقافة التي تسهم في تخلف وعي المواطن، و تراجع وعيه وقيمه الإنسانية و الجمالية، و هذه المحطات تسهم إسهاما كبيرا في التخريب المعرفي السائد في العالم العربي، و تزيد من تهميش عقل المواطن الباحث المفكر . و قد يقول قائل: هناك بعض المحطّات تولي الجانب المعرفي جزءا من برامجها، و هذا صحيح، لكنها على استحياء وخجل شديدين تولي هذا الجانب جزءا بسيطا جدا، لا يرقى إلى أن يكون جوهريا و إنسانيا معرفيا، بل هو عرضي لا جوهري، لأن فترة بثّه قصيرة جدا، و لأن الجانب الآخر غير المعرفي الذي تقدمه هذه المحطات يسهم بدوره في تقليص هذا الجزء الضئيل، وبالتالي في تقليل فاعليته وتأثيره، غير أنّه يمكن القول: إن إنشاء هذه المؤسسة لقناة معرفية جادة من شأنه أن يستقطب كثيرا من المثقفين والأكاديميين و العلماء و السياسيين وصانعي القرار، و المواطنين العاديين جدا، لأن هذه القناة ستعيد لهؤلاء المواطنين ثقتهم بكل ما هو جميل و نظيف و إنساني. و(( فاقد الشيء لا يعطيه)) كما يقول المثل، ولأنّ القنوات التلفزيونية الهابطة لا تملك شيئا مهما و حضاريا فإنّها في وضعيتها الحالية غير قادرة على إعطاء هؤلاء المواطنين إلاّ الخواء الثقافي والمعرفي و الرخيص والهابط، و من هنا يأتي دور هذه القناة التنويريّة المهمّة التي تلامس أعماق النفس الإنسانية، و تلامس هموم الجماهير العريضة، و تطرح ثقافة جادة بدلا من الثقافة الاستهلاكية و الآنية و الرخيصة التي تطرحها معظم القنوات الحالية، و من هنا ستكون هذه المحطة قادرة على انتشال المواطن العادي و المثقّف في آن من براثن محطّات الدردشة العربية و الثقافة الجنسية الغرائزية الهابطة، و ثقافة السلطة أحادية التوجّه و الرؤية.
و يمكن لهذه المؤسسة أن تؤسس ـ ووفقا لقدراتها المالية ـ جريدة شهرية، و مجلة فصلية أو نصف سنوية ـ تبرز من خلالها الوجه الحضاري و المشرق والنبيل في تاريخنا و في ثقافتنا العربية المعاصرة، بدلا من العنتريات العربية التاريخية و الحروب الطاحنة بين القبائل و الطوائف العربية عبر تاريخها الطويل، و تكون هاتان الجريدة و المجلة مفتوحتين على الأقلام الفكرية و الإبداعية و النظيفة في العالم العربي كافة، و ذلك بعد أن أسهمت المؤسسات الثقافية العربية الرسمية في تردي الثقافة و المعرفة و انحطاطهما، فقد تحولت المؤسسات الثقافية العربية المعاصرة إلى منابر شلليّة مؤدلجة و استبداديّة، و قرّبت إليها كلّ من اعتاد المديح و التملق الكاذب، المديح لها و للسلطان و لفكر المؤسسة و لفكر السلطان وإنجازاته، حتى لو كان هذا الفكر استبداديا ودمويا، بحيث بدت هذه المؤسسات مؤسسات عائلية و طائفية وشللية وانتهازية، قرّبت كل من يقترب من هذه العائلة أو تلك الطائفة، و أبعدت كل من ابتعد عنهما إنسانيا وفكريا وسلوكا وقيما، أي أن هذه المؤسسات أسهمت في تكريس ثقافة بدويّة قبليّة عائلية طائفية لا إنسانية أممية حضارية، ولا مدنية معرفية منفتحة على الآخر ببعده الفكري وفكره المغاير المخالف لفكر المؤسسة الرسمي، و لذلك نلاحظ على سبيل المثال لا الحصر أنّ كثيرا من المجلات الثقافية العربية الرسمية لا تنشر الأبحاث و الدراسات و النصوص الإبداعية و الفكرية إلا للذين يقتربون من رئيس التحرير، أو من سياسة المجلة، و يكيلون بمكيالها، و ينضحون بمياهها الفكرية المبرمجة، أو للذين تفرضهم جهات خارجيّة سلطوية على رئيس تحرير هذه المجلة أو تلك. ومن هنا يأتي دور هذه المجلة التي تنشرها مثل هذه المؤسسة ـ المرجو وجودها ـ و ذلك لتأسيس ثقافة التباين و التغاير و الحوار و الرؤى المتعددة، بدلا من ثقافة مجلات السلطة ذات النسق الرؤيوي المستبد، و ذات الاتجاه و الأفق الواحد الضيّق، الذي يعمل لا ليؤسس بنية معرفية حضارية، رفيعة في قيمها، متنامية متشعّبة، بل ليؤسس ثقافة الموت و الاستبداد من جهة، و القطيع و القبيلة و العشيرة من جهة ثانية، ثقافة الجهل و التغييب من جهة، و ثقافة التسييس الإيديولوجي العنصري من جهة أخرى. وهنا ينبغي على هذه المؤسسة أن تعيّن رؤساء تحرير، ومدراء تحرير لهذه القنوات الإذاعية و التلفزيونية والمجلة و الجريدة من الذين عرفوا بنظافة أيديهم خلال تاريخهم الثقافي و المعرفي و العلمي، أي أن يكونوا نظيفي اليد و القلب و اللسان، غير فاسدين و غير مرتشين، و لا تستطيع سلطات العالم العربي أن تشتري ذممهم و ضمائرهم، و بالتالي لا تستطيع أن تطوّعهم لرغباتها و إرادتها، و تجبرهم على بثّ قيمها الاستبدادية ورؤاها أحادية الجانب و الطرح.و إذا استطاعت السلطة أن تشتري مثل هؤلاء المدراء والرؤساء فتلك كارثة كبرى، لأنّها ستحوّلهم من أصحاب مشروع حضاري تنويري، و معرفي إنساني إلى تابعين لها منقادين، أذلاّء خانعين، غير أنّه ينبغي ألا ننسى وجود جسور بين هذه المؤسسة و بين قنوات السلطة لا لخدمة السلطة و قراراتها الاستبدادية، بل لتهذيب فعلها الاستبدادي، ونقله من المرحلة القطيعية و القبلية و البدوية إلى مرحلة مدينية حضارية، و جعله قادرا على أن يقبل الحوار و الطرف الآخر و منظومته الفكرية و المعرفية المغايرة لرؤى السلطة و منظومة تفكيرها الابستيمولوجية.
و على مستوى النشر فإننا نلاحظ أنّ الناشرين في العالم العربي ـ نستثني منهم القليل جدا ـ قد توجّهوا في الآونة الأخيرة إلى نشر كتب تقدم قدرا ضئيلا و خجولا و هزيلا من المعرفة، ككتب الأبراج الصينيّة و العربية، و قراءة الحظّ، و الطبخ، و قصص الحب والغرام و الجنس، وتلك التي تثير الغريزة الجنسية و تتفنن في طرقها و وسائلها، و الروايات البوليسية، و كتب السير الذاتية الفضائحية، و الكتب الصفراء التراثية التي توغل بعيدا في الضبابية و الجهل و التجهيل، بدلا من تلك الكتب الجادة التي تخاطب العقل، و تفتح آفاقه صوب الحضارات و المعارف الأخرى، و تنمي قدراته التحليلية و التركيبية و الاستنتاجية العقلية، و تدفعه لأن ينمو باستمرار، و لأن يكون قادرا على تكريس المعرفة الخلاّقة المبدعة بشتى صورها و أشكالها.
و من هنا فإن هذه المؤسسة الخاصّة يمكن أن تسهم في نشر الجانب العقلي المضيء من ثقافتنا و رؤانا، و حوارنا الحضاري و العقلي، أي أن تؤسس لفعل الحيوية و الحركة، و التطور و النماء، لا لفعل الموت و الجمود، وثقافة الاستبداد. و يمكن لهذه المؤسسة أن تنفتح على التوجهات المعرفية المعاصرة بشتى أشكالها المعرفية و العلمية، و ذلك بعد أن أغلقت دور النشر العربية المعاصرة أبواب النشر أمام كثير من الكتاب المجيدين. ففي عالمنا العربي عشرات المخطوطات المتميّزة، بل المئات منها، التي لم تر النور حتّى الآن، و ذلك نظرا لفقر كتّابها، و عدم قدرتهم على الدخول ضمن الشلل التي تتحكم في النشر وسياسته، أو لعدم قدرتهم على الاقتراب من هذا الناشر أو ذاك. و يمكن أن تكون هذه المؤسسة بديلا من دور النشر الرسميّة التابعة للمؤسسات الثقافيّة العربية التي لا تنشر إلاّ ما يخدم ثقافتها، و مصالحها وتوجّهاتها الرسميّة.و يمكن لهذه المؤسسة أن تقدّم مكافآت مالية لأصحاب الكتب المنشورة، و ذلك من ريع كتبهم المطبوعة، أي أن عملية النشر هنا تكون محكومة بضوابط العدل والخير و الحقّ لكل من الطرفين: الكاتب و الناشر، وذلك بعد أن استمرأ الناشرون المعاصرون سلب الكتّاب المعاصرين حقوقهم جميعها.
إن إنشاء مثل هذه المؤسسة سيسهم في تحضّر الأمّة و المجتمع و ازدهارهما، و تطويرهما إلى ما فيه الخير و النمو و الازدهار و التحضّر، و تكريس المعرفة من أبوابها الواسعة، و الثقافة العقلية المتجددة.
وسيحظى أصحاب هذه المؤسسة بمزيد من الاحترام و التقدير، وسيكونون من أفضل المحسنين إلى وطنهم و أمتهم، و تاريخ هذه الأمّة و ثقافتها، و فكرها، و سيذكرهم التاريخ بقدر كبير من الاحترام و الإجلال، لأن الطغاة و المستبدين يزولون ولا تبقى لهم إلاّ اللعنة، أمّا الخيّرين و الشرفاء والكرام و المحسنين إلى أوطانهم فتظلّ ذكراهم عطرة، لأنهم هم الأصل، وهم روح الأمة ومستقبلها و حاضرها.
——–
أستاذ سابق في جامعة جين جي الوطنية ـ تايوان ، تايبيه، نائب رئيس جامعة ابن رشد في هولندا للشؤون العلمية ، التعليم عن بعد ، مدير تحرير مجلة جامعة ابن رشد الأكاديمية المحكمة.