جلس في تثاقل خلف مقود سيارته، ومن ثم أخذ نفسا عميقا، وأدار مفتاح تشغيل المحرك ببطء، فسمع صوت احتكاك مزعج و غريب، بدأ عاليا تم تلاشى في تدرج متسارع..
ــ إنه محرك السيارة يا صديقي جون يرحب بك.
قالها في تمتمة بائنة ثم أطلق فجأة ضحكة مجلجلة أظهرت أسنانه الصفراء وهو ينظر الى جانبه حيث يجلس صديقه جون الذي أسند رأسه إلى وسادة المقعد.
ــ يا له من ترحيب عاصف يا صديقي سامي..!!
جاءه رد صديقه جون متدفقا عبر حركة يديه الباحثة في توهم وهي تمسح على رأسه و في فتح نوافذ متخيلة في فضاء السيارة، عن قبعته المفقودة.
و هو الآخر في حركة تفتيش مستمرة عن هاتفه المحمول، وعينيه تتحرك يمنة و يسرى وإلى داخل صندوق السيارة الداخلي مصطحبة معها تنهيدة مليئة بمشاعر متناقضة و تساؤل مترنح:
ــ هل رأيت هاتفي المحمول يا صديقي جون …؟ !!
جاءه رد صديقه جون سريعا:
ــ لا .. لم أره !! لعله سقط منك وأنت تهم بالصعود إلى داخل السيارة، أو نسيته داخل المنزل.
رد عليه وهو ما زال يفتش عنه:
ــ لا لا .. انا واثق و متأكد من أنه كان بحوزتي .. متأكد من ذلك…
قالها وهو يميل برأسه نحو مقدمة السيارة، يهزه تارة و يغمض ويفتح عينيه تارة أخرى و هي معلقة في ترنح شفرات ماسحات الزجاج الأمامي.. وأكمل كلامه إليه:
ــ لا أرى سوى خيط أبيض لامع متحرك على الأرض، و يبدو أنه بلا نهاية .. !!
عقب صديقه جون على كلامه في استهجان بائن:
ــ غريب هذا الأمر .. إذا لعله في درج باب السيارة إلى جوارك.. !!
قالها جون و هو يشير بيده نحو سقف السيارة.
نظر سامي الى السقف فوق رأسه بعينين راقصتين سقطتا فجأة في يديه التي حركتهما نحو مقبض باب السيارة الداخلي إلى جواره، وفجأة جذب عينه اليمنى لأعلى جفنها العلوي و اخترقت زجاج باب السيارة إلى الفضاء الخارجي.. وهمهم قائلاً:
ــ لا أرى سوى شريط متعدد الألوان يهتز باستمرار، و جدار اخضر اللون مضاء .. !!
ثم اردف قائلا:
ــ لعلي أجده على الأرض .. لعلي أجده..
قالها و يده تدير مقبض الباب، فاذا به يفتح على صوت هزيز رياح عاتية، و ذرات من الرمال المتطايرة التي تصاحبها، لطمته بعض منها على وجهه و وجدت طريقها الى داخل السيارة، فأعاد قفله في سرعة ثم قال:
ــ يبدو أنّ هنالك عاصفة قويّة تعمّ المكان.
رد عليه جون وهو يمد برأسه إلى الأمام:
ــ يبدو ذلك لأني أرى أمامي في السماء قطع متصلة من ورق أبيض متطايرة ..و واصل رده متسائلا:
ــ لعل جوالك في المقعد الخلفي … !!
قالها و بدأ جسده في الميلان تجره عينيه ناحية المقعد الخلفي للسيارة، فوجده خاليا الا من فستان لفتاة وضع بإهمال على الجزء الجانبي للمقعد، من ثم نظر إلى الأعلى فشاهد سيارة بعيدة تطلق أنوار كاشفة متقطعة باللونين الأحمر والأزرق و ابواقها تصم الآذان، عقد ما بين حاجبيه و زم شفتيه المرتجفة في غضب وهو يهم بالإنتقال إلى المقعد الخلفي قائلا:
ــ يبدو أن صبية الحي الملاعين تركوا ألعابهم و سياراتهم الصغيرة فوق الغطاء الخلفي لشنطة السيارة .. دعني استطلع الأمر، لعلي أجد هاتفك المحمول هناك أيضا… لكن…. !! لمن هذا الفستان الازرق..؟
جاءه رد صديقه سامي في صوت متحشرج:
ــ إنها سترتي .. سترتي.
وفي اغتياظ بائن رد عليه جون:
ــ سترتك .. .. !! و كيف ذلك..؟.. !! إنها تبدو في مقاس أصغر منك… !!
ــ لا عليك دعك من الأمر.. هاتفي المحمول يا صديقي أشبه ما يكون براقصة في ملهى ليلي مصيرها المحتوم دوماً توسد رغبة الافخاذ الشبقة .
قالها وهو يلتفت إلى جون، وينظر متفحصا المقعد الخلفي.
انتابه شعور غريب، رفع نظره مع سماعه لصوت في جسم السيارة، رأى عدد من السيارات المتراصة، وفجأة نجوم تغطي السماء المظلم أمام ناظريه، ثم أصوات لأبواق متنوعة ومتفرقة، بدأت قريبة ثم تباعدت قليلا ومن ثم اقتربت أكثر فأكثر..
ــ هؤلاء الصبية حقا ملاعين و..
وقبل أن يكمل سامي حديثه سمع صوت ارتطام قوي ورأى حذاء صديقه جون طائر في فضاء السيارة ويتجه نحوه، احس بلطمة قوية على خده و رأى صديقه يخطو في فضاء السيارة ويخرج من خلال زجاجها الأمامي الذي بدأ له كأنه موجة متمردة في بحر هائج.
ــ يا صديقي لا تخرج من السيارة قبل أن تنتعل الحذاء .. وأرجو أن تغلق الباب من وراءك جيداً، الرياح المحملة بالأتربة مرعبة هنا.. مرعبة كأنها مسامير لإسكافي خرج مغاضبا من بيته تطارده اللعنات المتلاحقة من زوجته.
تحسس جبينه بيده المرتعشة و صاح بصوت واهن:
ــ ما هذا السائل الدافئ ما هذا السائل… اد ..اد..اافئ …
سكون تام.
طاولة خشبية بيضاوية الشكل مليئة ببقايا أصناف متعددة من الأطعمة وحولها أرائك فخمة مبعثرة، و وضعت إلى مقربة منها طاولة أخرى أصغر منها قليلا، عليها قناني مبعثرة ملونة تفوح منها رائحة الخمر، وأخرى ملقاة في إهمال بائن على الأرض في شكل أجساد عارية وإلى جوارها طبق به بقايا من أكياس بودرة بيضاء وأعقاب لفافات تبغ أخضر داكن اللون صار أسودا بفعل الحوار الصاهل بين الشفاه والادمغة الغائبة خلف سحابة البودرة و شهقة السوائل الهاربة من تجاويف كؤوس النبيذ ذات النظرات المسكرة.
وهناك على الأرض إلى جانب المدفأة فتاة ملقاة عارية الجسم تعتمر قبعة زرقاء تتدلى منها ريشة بيضاء متداخلة مع شعرها المبعثر على وجهها و تنتعل حذاء أزرق اللون مطرز بشكل رائع وجذاب، تتوسد فخذ رجل يرتدي بنطال بالمقلوب منزلق سحابه الى الأسفل ، و فتيات أخريات كل واحدة ممسكة بوسادة الأخرى وأرجلهن معلقة ببقايا اهتزاز اعمدة الدخان الابيض، و على مقربة منهن، رجلين يقفان في ترنح، أحدهما ينظر حوله و الآخر يقلب في مساند الأرائك المبعثرة و يهمهم:
ــ أين السترة الزرقاء خاصتي..؟
أجابه صديقه جون و هو ينحني ليرفع فستان فتاة من على الأرض:
ــ هذه هي سترتك خذها..
تناول سامي الفستان بيده ووضعه على ذراعه وهو ينظر الى طاولة القناني قائلاً:
ــ نبيذ التمر و بودرة الكوكايين و لفائف من الحشيش .. يا لها من ليلة .. يمكننا أن نسمي علاقة هذه الأشياء الجميلة مع بعضها بالـ.. أو أن نصيغها في جملة واحدة .. دخان التمر الابيض.. أجل .. دخان التمر الابيض… !!
رد عليه جون وهو ينظر إليه مبتسماً في ملامح تبدو أقرب إلى الذي يريد البكاء:
ــ نعم يا صديقي جملة أتممنا توقيعها الليلة على هذه اللوحات ..انظر حولك إلى هذا المشهد.. يبدو أن الفنانين ديلاكروا و ليوناردو دا فينشي كانا حاضرين هذه الليلة معنا.
ضحكا سويا، ومن ثم قال سامي موجها حديثه إلى جون:
-دعني أضع هاتفي المحمول في جيبي قبل أن نغادر هذا المكان، مد يده الى جيب سترة جون و وضعه بداخله ثم قال:
ــ فلنذهب الآن يا صديقي.
رد جون وهو يضع قبعته على رأس سامي:
ــ حسنا هيا بنا
و خرجا
جمهرة من الناس اجتمعت حول سيارة محطمة ملقاة بجانب الطريق إطاراتها إلى الأعلى، وزجاجها متناثر في كل المكان، و بداخلها جثة لرجل في العقد الثالث من العمر، وإلى مقربة منها جثة أخرى مسجاة على الأرض و مغطاة بكيس بلاستيكي أزرق اللون، و إحدى سيارات الشرطة تقف على مسافة غير بعيدة منها و أنوارها الزرقاء مضاءة في تقطع مرئي، و همهمات وسط الناس و ملامح الدهشة والاستغراب الاستقرائي و حوارات جانبية بدأت في الوضوح..
ــ ماذا حدث يا سيدي ..؟
أحد المارة مستفسرا من آخر يقف الى جانبه.
ــ انه منظر مفزع جدا، لقد رأيت سيارة تطير في السماء، و من بداخلها يخرج طائرا في السماء ايضا انه أمر مفزع حقا.. !!
ــ هل هنالك موتى..؟
ــ نعم .. نعم ..كانا شخصين .. توفاهم الله.
ــ إنها السرعة.. !!
ــ نعم انها السرعة .. السرعة والخمر و الحشيش ايضا لقد شممت الرائحة تفوح من داخل حطام السيارة..
ــ إنها المصير المحتوم والنهاية لكل متعاطي، وتتعدد أشكال ذلك المصير، مالم يتم الإنتباه في اللحظة المناسبة في الطريق المؤدي لهذه النهاية.
ــ نعم لقد صدقت.
تلاشى صوت الحوار بوصول سيارة الإسعاف و تفريق جمهرة الناس.