في الوقت الذي أنهكت فيه قوايّ وجدتُك تسنُدَني، كُنت حُطاماً مركوناً في إحدىٰ زوايا شارعٍ مهجور، حتى الإضاءة كانت فيه مُعطلّة، هواءٌ يحرك الأبواب الرذيلة، أوراق تتطاير كأنها رسائل حب من موتىٰ، لا أحد يفهم محتواها سوىٰ الأموات مثلهم، رذاذُ مطرٍ يتساقط في عيني كلما رفعتُ رأسي للسماء، شعرتُ ببردٍ شديد والخوف من ظلام صنع في مخيلتي رواية لا عنوان لها، مهما حاولت الصراخ لا أحد يسمعني، قررت السير كاتمة لصوتي وخوفي بخطوات ثقيلة تجرها جثة هامدة تتنفس بصوتٍ مسموع..
حتى الدموع تجمدت في عيني، لا أعلم إن كان بسبب البرد أو الخوف أم قساوة قلب طفلة؟
كان صوتاً ما بداخلي يدفعني للوصول، حتى سمعتُ هناك أمل..
سمعتها من شخص جالس على الرصيف يلمُ شتات نفسه، كان حاله ليسَ بأحسن مني، لكنه يبدوا قوياً يصارع سكرات الحياة، نسيت غصت ألمي وخوفي وبدأتُ أنظر إليه بغرابة :
– من أنت ؟! ولمَّ هنا ؟ ما بكَ هل أنت حزين ووحيد مثلي ؟! أم إنك ميتٌ وجئت تبحث عن روحك في قرية الأموات ؟!
تبًسمَ ضاحكاً وقال : لستُ بميتٍ، أنا حي لكني فقدتُ قلبي فما عاد ينبض
هُناك أمرٌ واحد سَيُعيدُ الحياةَ لي..
– ما هو هذا الأمر ؟
– قُبلة من شفاه دافئة لتُعيدني للحياة مرة أخرى.
– عجبٌ !! ولمّ تُقبّل شفاه أُنثىٰ من قبل ؟
– بلىٰ، لكن كل شفاه النساء ميته باردة لا تُشعرني بالدفئ
– وماذا إن لم تجد تلك القُبلة التي تبحثُ عنها ؟
– سأبقىٰ ابحثُ عنها، سأجدها ولو بعدَ حين..
في هذه الأثناء اعتلىٰ صوتُ الريح حتى أرتطمَ البابُ بالحائط، فأصدرَ صوتاً ملئ صداه تلك الشوارع المهجورة، للحظة وجدتُ نفسي بأحضان ذلك الغريب، ويدايَّ تشابكت حول عُنقه وبرجفة صوتٍ قُلت أنا خائفه، قُلتها مُغمضة العينيّن، فأجابَ بصوت شجيّ ونبره هادئة: لا تخافي مجردُ هواء، وبدأت يداهُ تُلامس ظهري نزولاً إلى خصري المُرتجف من الخوف والبرد ، حاولتُ فتح عيني لأرىٰ ما يجري من حولي،
لكن أنفاسي كانت شديدة الحرارة ودقات قلبٍ مهجور أكثر من تلك الشوارع، أقترب من شفتيّ وأحس بحرارتها رغم برودة الجو، ضمني إليه أكثر وهمس في أذني لا تفتحي عينيكِ ، سآخذُكِ من هنا
إلى حيث النجوم ثم قبلّني بقُبلةٍ كأن الأرض بدأت تهتز من تحت قدمي
لشدته ولشوقه كأنه يرتشف النور مني ليُضيَء عتمة روحه، بدأ يفتحُ بأزرار القميص ليصل النور إلى قلبه، كل شيء قد تغير، توقف الخوف وهدأت الريحُ وأشرقت الشمس تبدّل ليلُ الظلام بأشراقة الصباح وزقزقة الطيور في تلك الشوارع، كأني اصبحتُ حتماً في الجنه ، حينها أدركنا نحن الأثنين بأن أرواحنا عادت تزهوا من جديد ..
وإن كل حزن غادر قلوبنا، كان صادقاً حين قال لي :
– هُـــناك أَمـل..
تبدو لي القاصة فاطمة الدر في نصها القصي هذا تصاهر السرد المتنقل بسياقاته بدءا بالخوف، ومن ثم إلى الصورة المأخوذة من واقعية الطبيعة كما لو أني اقرأ النص المتناس مع النص الأوروبي، وهذا ليس بعيب فالقاصة أحسنت التوليف والمعايشة، خاصة في تنقلات الأحداث المكثرة، بوازع المفاجأة من منظور اللقاء الذي استسلمت لصاحبه، ربما هو الحلم الذي لا تنسجم أحداثه مع الواقع، ولو توسعت القاصة قليلا في الوضوح بلقطتها الأخيرة لاعتبرنا بأن هذا النص يخضع لسياق نظام الأيروبيكس الكلاسيكي، لكنها غمضت عينيها واختصرت الممارسة الجنسية بحبال اللغز أو الاستعارة البديلة للمجاز العقلي، أحب هذا الأسلوب لو توسعت القاصة قليلا بالتنوير، احترامي.