![](https://i0.wp.com/basrayatha.com/wp-content/uploads/2022/11/saaeda-raqwe.jpg?fit=450%2C317&ssl=1)
كنا نجلس تحت شجرة ٱلزيتون ٱلْمعمرة ..نتجادب أطراف ٱلْحديث ..لم أكن أعرف أن هذا ٱلْجبل سيهتز يوما ويصير حطاما ..كانت ذاكرتي ٱلصّغيرة لا تستوعب فكرة ٱلْموت بعدُ ..جدي ذاك ٱلرجل ٱلبشوش، ٱلّذي عرف بٱبتسامته وبصفاء سريرته بين كل أهل ٱلقبيلة وٱلْقبائل ٱلْمجاورة ..لا تخلو مجالسي معه من حكم وضحك ..يأخذني من يدي ويطلب مني مرافقته لدوار ” الخراب “، يقول : ” بنيتي ياجميلة جدها ..يا طبيبة ٱلْمستقبل ..لا تجزعي سآخذك ولو في هذا ٱلْوقت ٱلْمبكر لتتعرفي على شيخنا ” أحمد” ..أريدك أن تكون مثل شجرة ٱلزّيتون ٱلمثمرة ..مثل هذي ٱلْأرض ٱلرّؤوم ..أريدك أن تكوني سليلة صنهاجة ٱلشّمس ..أتطلع إليه وتحدجه عينياي بأسئلة فيها من ٱلْحيرة ٱلشَّيء ٱلْكثير ..لم أفهم وقتئذ كلامه ..طأطأت رأسي تعبيرا عن رضوخي لطلبه ..نعم ..نعم جدي سأرافقك حيث تشَـاء …
يستوي واقفا، ويأخذ بيدي ..هه..هه..أعرف أنك ماتزالين صغيرة على ٱلْفهم بنيتي ..لكنك دونما شك تشبهين جدك ..يا غزالتي ..هل صعدت أمس إلى ٱلْعرصة وتذوقت ٱلتّفاح وٱلكمثرى ..؟!.
أجيبه بإيماءة : ” فعلت..فعلت، وعرجت على حقل ٱلذرة وٱنحدرت نحو ٱلساقية ٱلتي تتشكل من كرم ٱلشلال ٱلْعظيم ٱلذي يحرس أرضنا ..ونزعت حبات من جوز مايزال لم ينضج بعد ..اُنظر جدي ليدي لقد تلونت بٱللون ٱلْأخضر ..كنت أعشق مضغ ٱلْجوز وهو لم يستو بعد ..ومن كرمة لكرمة أتنقل ..أبحث فقط عن تين يسمى ” ٱلْفاسي” ..وأنصت لخرير ٱلْمياه في تلك ٱلْأعالي ..فتطرب نفسي ويأسرها سِحر ٱلنغم ..لم يكن صوتا عاديا ..كان نشيدا متفردا يعزف ..وألتف حول ٱلدار ٱلْكبيرة أدخل من باب يقع في أرضية ٱلبناء ٱلذي شيد من حجارة صلبة وطين معشوشب وحشائش وتفننت في عجنه أصابع أهل ٱلدوار ..لم تكن حضارة ٱلْاسمنت قد زخفت بعد ..ٱللهم بعد منازل شيدت من ٱلطوب ٱلْأحمر ٱلْمائل ٱلى اللون ٱلْبني ٱلْأجوري.. أنصت لصوت ٱلْعجول وللماعز وٱلتيوس وهي تتناطح ..أحاول تتبعها بحذر وسرعان ما أغادر زريبتها بٱتجاه شجرة ٱلبلوط وأشجار ٱلْأوكالبتوس وٱلتوت ٱلْأسود ٱلبري ٱلذي يشكل سياجا يلف ويحيط مساحة ٱلمنزل لأراقب عن بعد خلية ٱلنحل ..وأصعد فوق سطح ٱلدار ٱلذي شكل من حجارة ملساء وبعض لوحات ٱلْقرميد ٱلْأخضر ومن هناك أطل على ٱلْحوش ٱلكبير وٱلْغرف ٱلتي تمتلئ بسلال الثمار وحبوب مشكلة متنوعة : لوز وقمح وعنب مجفف وعدس وفول وحمص وكل أنواع ٱلْحبوب وٱلْقطاني وحبوب ٱلذرة ٱلتي تحفظ هناك أو في فتحات تحت ٱلْممرات ٱلْأرضية تدعى ” ٱلْمطمورة”…
لا ينال مني ٱلْعياء أتنقل بين زوايا ٱلْمكان وأحاول تسلق شجرة لأطارد ديكا مرعوبا ..لا أتبين غير عرفه الأحمر ..وأنحدر نحو ٱلْعرصات ٱلتي تحت ٱلمنزل أجلس أرقب ” ٱلْخنافيس ٱلسوداء” وأتتبع خيوط دودة غادرت ورقة ٱلْعنب ..وتمتد يدي لأشجار ٱلرمان ..يمتلئ أنفي برائحة الورد ٱلبلدي وبروث ٱلْأبقار ٱلذي جعلته جدتي “زهرة” ذبالا وغذت به حقول ٱلْبطاطس وٱلْفلفل ٱلْأخضر وٱلْأحمر ..
وما أزال على تلك ٱلْحال حتى يقتلعني نباح كلب مار بٱلْجوار فأركض بكل سرعتي ويتعالى صراخي فيصل صداه الجدة ..ويصلني صوتها مطمئنا إياي ..لا تخافي إنه يعرف أهل ٱلدّار ..لحظتئذ فقط أتوقف لألتقط أنفاسي وألقي بحجارة ٱلتقطتها وأنا في حالة هلع وذعر وأخاطب نفسي ” هاذ ٱلمرة سلكت ٱلْجرة ..”.