
خلال عطلتي هذا الصيف والتي قادتني إلى أوروبا مجددا، تعمقت في وجداني قناعة هي أن النوع البشرى ينجح إلى الحرية بالفطرة، لكننا نخافها في بلدان العالم التابث لأنها ترادف التنصل من كل قيد وفي أحسن الأحوال تفيد الإكتفاء بما ورد فيه المنع والأمر في النصوص الدينية، مع أفول الوازع الديني بين الشباب بشكل مخيف ومهدد للسلم الأخلاقي.
تعد الحرية حاجة إنسانية تقيدها الضرورات الإنسانية المشتركة كالإحترام المتبادل والتسامح وتقديم المصلحة العامة وإعمار الأرض محبة وإبداعا وإنتاجية. كما تتعدد مستويات حاجتنا إلى الحرية، فمثلا حرية التفكير تعوزنا حتى ننفلت من هذه النمطية المفزعة والعجز الفادح في الإتيان بجديد نافع، وحرية الإختيار بشجاعة في ما يخص كل شيء يمسنا : من يحكمنا من يمثلنا، من يشرف على تعليمنا وصحتنا اقتصادنا وأدبنا وعلومنا وبنياتنا التحتية وأطفالنا وبيئتنا وحيواناتنا وحيواتنا..
وفي اختيار ما نريد أن نعتقده دون الإحساس بوخز ضمير، أو حقد دفين تجاه من لا يشاطرنا الرأي.. فالعداء لكل شيء مخالف نابع من الخوف على ما نملك من معتقدات ومسلمات، وعيا بأن كل شيء تجري عليه رحى النقاش التي لا تسالم.
نحتاج للحرية أيضا في اختيار من نريد مصادقته وحبه، وتقاسم حياتنا الناضبة معه، وكذا في اختيار ما نريد أن نعمل به ونبدع فيه، وأين نحب أن نعيش وكيف ومع من وإلى متى.. دون أن تختار لنا التقاليد أو الإلتزامات العائلية والإجتماعية غصبا ما تشاء، فنكسر أغلالها بغلو وجموح وعنف السجين الفار من السجن بغتة …
إن قوانين الفيزياء والرياضيات التي تعتبر أكثر ما في الكون إحكاما وميكانيكية علمتنا أنها أيضا تخضع للنسبية والتخمين والإحتمال في أحيان كثيرة، وبما أن الحقائق العلمية غير تامة ومطلقة وطور البحث مع اعتمادها أقصى مناهج المنطق، فإن بقية الحقائق التاريخية والإيديولوجية والسياسية غير أكيدة بالمرة كذلك، لذا فإن ما نعتقده ونختاره كأسلوب لباس وحياة واختيار جنسي وجسدي وفكري وما يتبع ذلك من سلوكيات يومية، لا يمكن اعتباره بحال الحق الوحيد الممكن، بل إنه كذلك بالنسبة لنا فقط. وبالتالي يجب أن نحترم – بنفس المنطق- ما يعتقده غيرنا حقا مهما بدا لنا شاذا وغريبا..
يجب أن نجرب أيها الأحباب أن نحترم حريات الآخرين وتفضيلاتهم ونبتعد عن خصوصياتهم، للحد الذي يجعل جليسين في المقهى لا يلتفتان أبدا للداخلين مستطلعين ملابسهم وسياراتهم ومؤخرات زوجاتهم، والذي يجعل امرأتين لا تتأففان من اختيار غريبة في محل ما لثوب رخيص سوقي في نظرهما الساذج، وللحد الذي لا نسأل معه متزوجا لم استعجل، ومتطلقا لم فعل، ومستقيلا كيف تجرأ، ولخاطب أن يحذر أن يخدع، ولأعزب لم عزف، ولعاطل كيف قعد، ولمخمور لم شرب، ولممتنع لم امتنع، ولعاشق لم أحب…
إن كل إنسان – أيها السادة – حباه الله بقدرة جبارة على النظر السليم تجاه العناصر الوجودية الحساسة وببوصلة لن تخطئ مهما ضلت ما دامت تواصل البحث، وبإحساس بليغ بالحقائق حتى وإن عجزنا عن ترجمتها إلى معان لغوية.. لذا لا يجوز لأي كان أن يمارس الوصاية في الإختيار على أي كان، ولا أن يغتصب حريته وخصوصيته كما تفعل بلداننا…
إن العالم بأسره مستعبد في عالم يحكمه الساسة بطرق غاية في الشناعة، وأوروبا إنما تعيش درجة أحسن من العبودية، لكنني أجزم أن الحرية كما أراها في الأسطر أعلاه متوفرة لديهم بأقساط وفيرة وهذا ما يجعلهم أمامنا بخطوات في كل المجالات.