((والآن ومنذ أن تعرفت على صفحته في الفيس بوك أتفاءل كل صباح بصورة من ورود ينشرها وهو يقول صباح الخير..))
((أول دخولك ستمتد لمسافاتها اخضرارات الحدائق وسترى مساحات ورود مُهَندَسةً بتفنن لا يتقنها إلا محبو الألوان وعشاق العطور من أوداء الورد ومحبيه، وكان مدير هذا المركز في مقدمة أولئك المحبين العشّاق الأوداء للورد))
منذر الياس : إنسان من ورود
منطلقاً من جوار ساحة الحرية في البصرة وحدائقها وساحاتها الجميلة، على الطريق المتجه إلى بغداد السلام، منعطفاً يميناً تجاه حدائق الأندلس، إنما بعيد انعطافتك بقليل وعلى يمين طريقك أيضاً، ثمة مبنى جميل محاط بمساحات من الحدائق وسور واطئ ملون، مبنى المركز الثقافي النفطي في البصرة.
أول دخولك ستمتد لمسافاتها اخضرارات الحدائق وسترى مساحات ورود مُهَندَسةً بتفنن لا يتقنها إلا محبو الألوان وعشاق العطور من أوداء الورد ومحبيه، وكان مدير هذا المركز في مقدمة أولئك المحبين العشّاق الأوداء للورد، كما رأيت بعينيّ يوم تواجدت ساعات خلال سبعة أيام متتاليات من 1- نيسان -1999 وحتى 8-نيسان-1999.
ولا منظر يسعدني أكثر من مشاهد الورد والاخضرار والكتب وابتسامات الطيبين، وكلها التمت في ذاك المبنى بذلك الزمان وكلها امتزجت في شخصية مديره الأستاذ منذر الياس.
تأخرت كثيراً كما تلاحظون من التأريخ في الكتابة عن مشاعري أيامها، ولكن تلك المشاعر السعيدة إنما تزامنت مع مشاعر خوف ورعب وقلق وتحسب بل وتزامنت مع شعور بأني قد أغادر هذا العالم إما سجيناً أو ميتاً بأيدي سلطات ذاك العهد، مما تطلب صياغة صعبة للخروج بكتابة مزيج تجمع كل تلك المشاعر المتزاحمة المتناقضة.
عام 1997 بعد زمن من الحلم ببيت وذل الإيجار وقسوة الظروف اشتريت داراً أقرب إلى الخربة، حجرة واحدة بأرضية ترابية ومطبخ صغير صغير( بحجم نصف حجرة أو أقل)حولته لمكتبة ولوظيفة الاستقبال.
كنت أوفر أكبر قدر ممكن من راتبي لأسدد ديوني، فقد أرسلت أخي الأستاذ عبد الكريم ( رحمه الله ) إلى جارنا الحاج سلام عاشور بقصد الاقتراض فأخبره أنه قد أقسم أن لا يقرض أحداً بسبب مشاكل استرداد الديون، ولكن مع أبي عمار لابد أن أدفع كفارة القسم وأقرضه، والحمد لله تمكنت من إعادة الدين خلال أسبوع أو أسبوعين بعد أن أعطاني أخي الأستاذ الحقوقي سلام ثمن أثاث غرفة زواجه ( الأخشاب كنتور سرير إلخ) و أقول ( أعطاني لأننا كأخوة من آل خليفة يقف بعضنا مع بعض بشكل عفوي- وأسأل أن يستمر أبناؤنا على هذه السيرة الفضيلة – ولم نزل حتى الآن لا نتقارض المال بيننا إنما نتضامن ونتكافل ) وهكذا دفعت دين الحاج سلام عاشور، وأتذكر قوله حينها هذا أسرع دين يعود لي، أتذكر تلك الأيام وأقول شكراً لك أخي الحاج سلام عاشور وجازاك الله خيراً وأكثر لموقفك الطيب الكريم، أما الأشقاء فلا شكر بيننا والحمد لله إنما هو واجب.
ومن منذ اليوم الأول لشراء تلك الدار انشغلت بأقصى طاقتي وبمحبة في نبش أرضيتها وتنقيتها من الأغراض المدفونة والأحجار وبقايا الحاجيات وزودني صديقي الشاعر الشقيق كريم جخيور ببعض الأسمدة الزراعية التي كانت تتساقط من قطارات الأحمال ولا أطيل عليكم فقد غدا النصف الأمامي من الدار ومساحته حوالي خمسين متراً مربعاً غابة متكاثفة الأشجار والأغصان والخضرة، حتى أن زملاء عمل من سكنة أبي الخصيب زاروني يوماً وأردت أن أقطف لهم بطيخات من حديقتي فضحكوا وقالوا ستضحك الناس علينا أذا عرفوا أننا أخذنا بطيخاً من ( الحيانية السبخه ) إلى (أبو الخصيب).
بين عملي في شركة غاز الجنوب ومكتبتي وحجرة المنام توزعت حياتي.
ومن طرائف هذه الحجرة أن صديقي الشاعر قاسم محمد علي حين رددت دينه الكريم وقد أقرضني متفضلاً مبلغ خمس وسبعين ألف دينار، سألني ضمن تجاذبنا لأطراف الحديث: كم حجرة في الدار؟ فقلت واحدة. وعرف أننا ثمانية، ثلاث بنات وثلاثة بنين ونحن ! فرد بنبرة ونظرة وملامح اندهاش كامل: ثمانيتكم في هذه الحجرة ؟
أما حجرة المكتبة وهي أقل من نصف حجرة كما ذكرت ووضعت فيها نصف طاقم أرائك قديمة متهالكة وممزقة القماش اشتريتها من ابن عمي فلاح حسن رحمه الله بسعر زهيد، فمن طرائفها أنني ذات ظهيرة من عام 1997 دعوت صديقي الجميل الشاعر السيد ماجد الشرع وهو رجل محترم ويرتدي زي طلبة العلوم الدينية من عمامة سوداء وقفطان ولهذا الزي وكل الزي الديني احترام عال عند ابناء شعبنا، وكان الغداء سمك شانك( الزبيدي كان أعلى بكثير من قدرتنا الشرائية) ولكن بيتنا قطط صغار فقمنا بحبسهم داخل صندوق كارتوني تحسباً، أما الأم فيمكن طردها إذا اقتربت.
مددنا سفرة الغداء على أرضية المكتبة، رائحة السمك البحري الشهية، نزلنا من الأرائك وما أن قال السيد بسم الله الرحمن الرحيم وشرعنا بالأكل حتى فوجئنا بهجوم القطط الصغيرة، أهشّها فتختبئ تحت الأرائك ممزقة القماش نعود للأكل فتهجم وهات يا ضحك: حينها قال السيد ماجد وهو شاعر قصيدة نثر تسعيني معروف في الوسط الأدبي ومتميز: هذه وليمة فنطازية !
هذه المكتبة زارني وجالسني فيها العديد من أصدقائي الأدباء وآويت فيها ليلاً العديد من المطاردين وأجزت على منضدة الكتابة التي تطوى على الحائط عدة كتب كقصة ( زيد النار) التي نشرت ضمن العدد الأخير من إصدارات جماعة البصرة أواخر العشرين، وكتب عن جرأتها بعد 2003 الناقد الصديق مقداد مسعود مقالاً بعنوان ( جابر خليفة جابر: الشجاعة في حينها).
ومن طرائف مكتبتي أيضاً أن رفوفها انهارت بما تحمله من كتب بحضور صديقي العزيز الروائي صلاح عيال ومع مشهد الكتب المتكومة على بعضها ورفوف الخشب المعدة من صناديق عتاد المدفعية، كنا نخطط أنا وأخي صلاح، كيف نقوم بتهريب أخوتي المطلوبين من قبل أجهزة الأمن لمشاركتهم في انتفاضة 17-3-1999. ولهذه المهمة الخطرة والنبيلة سافر صلاح وشقيقته إلى أهوار ميسان لترتيب الأمر وشاء الله أن يقوم بهذه المهمة فيما بعد أخ عزيز آخر هو الأستاذ عدي نفاوة المالكي وسأتوسع ضمن كتاب قادم.
استطردت طبعا وسيظن القارئ أنني نسيت رجل الورود الأستاذ منذر الياس مدير المركز الثقافي النفطي عام 1999 ، لكن لا كان معي وأنا أتحدث عن بيتي وحديقتي ومكتبتي إنما أردت أن أؤثث للمشهد ويعرف القارئ الظروف التي أعيشها عند لقائي بإنسان الورود ولا أقول رجل الورود فإنسان لقب أسمى يليق به وأما الرجال فلن أراهم رجالاً إلا إذا أحبوا الورود وتعاملوا معهن برفق ورحمة وتحضر عال وأعني هنا ورود الجنس البشري النساء، بناتنا وزوجاتنا وأمهاتنا وأخواتنا وحبيباتنا وزميلاتنا، لن نكون رجالاً إن لم نكن متحضرين وإنسانيين في التعامل معهن.
يوم 17-3-1999 ووافق هذا اليوم ليلة الأول من ذي الحجة 1418، ولعل الموعد اختير لتزامنه مع ذكرى زفاف علي وفاطمة الزهراء عليهما السلام، لكن الاسم الأشهر لها هو انتفاضة ( 17-3 ) وبني متحف يحفظ تراثها يقع الآن في ساحة الطيران في البصرة قرب فندقي مناوي باشا والميلينوم، ولكن كعادة التخلف والمتخلفين لا حكومة البصرة تهتم به ولا مديرية التربية تزوره بسفرات التلاميذ ولا جامعة البصرة تعلم به، نعم وهذا هو عين التخلف ! وأكثر من هذا ثمة باعة ليليون يتخذون منه مستودعا بعرباتهم اليدوية.
هكذا يجازى شهداء تلك الانتفاضة بينما شاهدت في لندن ( مدينة اللصوص كما وصفها الشاعر العراقي كاظم جواد ) شاهدتً نصباً معتنى بها حكومياً وشعبياً منها نصب للحيوانات التي استخدمت في الحرب دفاعاً عن بريطانيا !
وأعود لتلك الأيام، وأوجز تقويمها : 17-3-1999 اندلعت الانتفاضة ( كنت وقتها في العمل الليلي ولم أكن أعلم حتى باندلاعها) ويمكن القول أن البصرة تحررت لاثنتي عشرة ساعة أو أكثر.
يوم 18-3-1999 تم القضاء على الانتفاضة وبدأت الاعتقالات، وكنت لم أزل في عملي بسبب انقطاع الطرق.
يوم 19-3-1999 وصلت البيت وعرفت بكل شيء وتهيأت نفسياً للاحتمالات الأسوأ بسبب مشاركة بعض أشقائي بشكل مباشر وغير مباشر في الانتفاضة وجميعهم غادر البصرة، وقررت البقاء في بيتي، وكيف لي أن أعوض هذه الدار الخربة وحديقتها لو هربت !
يوم 21-3-1999 تم إحراق بيت الأهل ويبعد عنداري 500 متر تقريباً ومعه أحرقت مكتبتي. وكنت أرى الدخان المتصاعد من البيوت التي أحرقت، حينها كان بيتنا وصاحبه مدرس لغة انكليزية ( عبد الكريم خليفة) وجواره بيت يضم عدة ثوار منهم مقدم في الجيش العراقي ( المقدم أسعد الشاوي) وثالثها بيت الثائر فيه مهندس مدني ( المهندس رياض شحيت) .
يوم 23-3-1999 تم هدم الدور ومنها دار الأهل بالبلدوزرات تماماً كما يحدث عند هدم دور المقاومين في فلسطين إنما من دون سابق إنذار ولا إخلاء لأغراض كما يعرف كل عراقي.
بعد أسابيع وكان عندي صندوق بريد وردتني رسالة من صديقي الروائي نزار عبد الستار، وخشية عليه لم اصطحبها معي للبيت إنما أجبت فوراً عليها بعد أن أتلفتها، وأرسلت الرد وفيه قلت بتورية: في 21 آذار نورزَ بيتنا . إشارة لقول الحلاج الشهيد متى ننورز ؟ وكتبت أيضاً وفي 23 منه أي 23 آذار غدا بيتنا خارج الباب. وهي إشارة إلى مسرحية بعنوان ( بيتنا خارج الباب) للكاتب الالماني بورشرت كتبها عن بيتهم الذي حين عاد من الحرب وجده مهدماً. علمت بعد سنوات أن رسالتي لم تصل ل نزار عبد الستار، والحمد لله أنهم لم يفهموا منها شيئاً سوى كلمات التحية والآداب.
وأعود للتقويم: من 23- 31آذار وحتى 31 آذار كنت استدعى كل يوم تقريباً للفرقة الحزبية وأذهب إلى العمل كنت وأشعر بالآخرين من حولي فالكل ينظر لي بنظرات الشفقة أو الخشية من الاختلاط بي أو أو وللقارئ أن يتخيل حال إنسان أهله هاربون وبيت أهله مهدم وهو يعيش في ظل ذاك النظام، وفي هذه الأجواء الكابوسية ولغرض مهني لا علاقة له بما حدث صدر أمر إداري بمشاركتي في دورة فنية في المركز الثقافي النفطي وكانت هبة سماوية لي لأرتاح مما يحيط بي في مقر عملي، وقد يكون غريباً أن أقول أنني ع كل ذاك الظرف والوضع الخطير كنت أعيش بسلام قلبي واطمئنان تام ورضا بقضاء الله وما يقدره علي. ولهذا قصة خرى ليس هنا مجالها. لكن من الأدلة عليها ما سأتحدث عنه وعن ورود الأستاذ منذر الياس..
دخلت المركز، حدائق وحدائق، ورود وورود ، مساحات الورد وألوانه تنافس مساحا الاخضرار وتزاحمها، وجه المدير المبتسم وكنت استحضر حديقتي، لاورود فيها سوى أشجارها نخلة ورمانة وتينه وبمبرة وسدرة واخضرار، وكيف اشتري الورد وراتبي أكثره لأسر المشردة المطاردة وهو أصلاً قليل.
فاستأذنت الأستاذ منذر وأخذت معي باقة من شاتلات الورد والآن تخيلوا معي المشهد.
أنزل من الباص، اتجه مشياً إلى بيتي، أتحاشى المرور من أمام دار الأهل المهدمة، والجيران يتحاشونني حتى بالسلام وينظرون إلى باستغراب ودهشة .. بدءاً قلت هؤلاء يستغربون من اهتمامي بالورود ففي ( الحيانية) نادر أن تجد أحداً يزرع شيئاً فكيف بالورد وترفه.
ثم فهمت حقيقة استغرابهم: لسان حالهم يتساءل : كيف لمثلي وقد أحرقت وهدمت دار أهله وهم مطاردون مطلوبون وقد يسجن هو ( أي أنا) أو يعدم في أي حين وهو مهتم بالورد وشتلاته ويمشي هادئاً مطمئناً بسلام؟ كيف..
وواصلت زراعة الورد وتلونت حديقتي وفي يوم 7-نيسان-1999 جئت كعادتي للمركز الثقافي ورأيت قاعاته ممتلئة والأردية الزيتونية ومسدساتهم ورشاشاتهم في كل مكان واستغربت فقصدت الأستاذ منذر لاستفهم فقال لماذا أتيت اليوم عطلة ولم أكن متذكرا أن هذا هو يوم الحزب الحاكم وبه يحتفلون ! وقال لي إذا لم تغادر الآن فساتضطر للبقاء حتى نهاية الحفل إذ لم يكونوا يسمحون لأحد بالمغادرة بعد وصول كبار المسؤولين كالمحافظ أو غيره. وسارعت بالخروج فهكذا حفل مما لا أطيقه طبعا خاصة و‘ن دماء الشهداء ومشهد الدور المحترقة المهدمة لم يمض عليه سوى أقل من ثلاثة أسابيع، واثناء خروجي وكنت كعادتي متأنقاً حتى بملابس قديمة أو رخيصة وأتأبط ملفات مهنية ملونة توقفت باص كيا ونزل منها الرفاق البعثيون لمنطقتنا واندهشوا: كيف أكون موجوداً هنا، وبهذه الأناقة وملفاتي بيدي كأي مسؤول بعثي كبير، ولاشك أنهم منذ ذاك الوقت حسبوني من الأمن أو المخابرات وتحاشوا التقرب لي.!
هكذا توقفت الفرقة الحزبية في منطقتنا عن مضايقتي بقوة المحبة النابعة من عاشق الورود وإنسانها منذر الياس، وهكذا عشت أسبوعا جميلاً معه، وهكذا ازدانت حديقتي وداري بألوانه ووروده.
والآن ومنذ أن تعرفت على صفحته في الفيس بوك أتفاءل كل صباح بصورة من ورود ينشرها وهو يقول صباح الخير .