
دخل الغابة يبحث عن أي شيء يمكن أن يكسبه دراهم تكسر رتابة جيوبه التي تعاني الخواء. لكن الغابة لا تحوي غير الأشجار. تمنى لو معه عربة ومنشارا لقطع شجرة وحملهما إلى حطاب.
يتمشى ورأسه يدور إلى كل الاتجاهات، مستعد للانقضاض على أي فرصة. لا تهمه الوسيلة، ما يهمه هو كسب حفنة دراهم ليستعيد رجولته الضائعة ولو ليوم أو يومين.
خاوي الوفاض يلج المنزل، فتتناوله عينا زوجته وهي تقطر ازدراء. يتمنى لو تعبر له عما يخفي صدرها لتعفيه من تأويلات نظراتها.
وهو يجوب الغابة مستسلما لليأس رأى منحلا مليئا بالصناديق. توقف في مكانه مشدوها. ومن شدة الفجأة توقف دماغه عن العمل. بعد لحظات استعاد دهنه نشاطه، التفت يسارا ثم يمينا، فلم ير أحدا، حمل صندوقا وفر إلى حيث خبأه.
صار يتفقده إلى أن امتلأ الشهد. تناول جل العسل تاركا القليل ليس حبا ولا رأفة بالنحل، بل حفاظا عن منبع المال. ولو لم يخف نفوق النحل لما ترك أي شيء.
تكاثر النحل، فوجد ذات مرة أكثر مما توقع، جرد سكينه وقطع الشهد، ملأ آنية كبيرة عن آخرها، وغادر. وضعها وعاد، فملأ الثانية. رجع مبسوطا من فيض النبع. يغني غناء تتراقص نفسه على إيقاعه منتشية بالغنيمة التي لا عناء، ولا كلل يشوب تحصيلها. تناسب سجيته التي اعتادت التكاسل، والعيش على عمل الآخرين.
أطعم ابنه القليل من العسل فطار فرحا يردد: حلو! حلو! أكثر من السكر، ولذيذ جدا! ردت أمه: هذا من فضل أبيك. كأنه هو من أضفى على العسل الحلاوة. بينما تعلم علم اليقين أن زوجها لا يمكنه فعل أي شيء عدا ما فعل.
أخذ يتردد على كنزه من حين لآخر، وغالبا في الغبش حتى لا يراه راء. يجمع ما جمع ويأخذه إلى السوق، يبيعه دون تشدد في المفاوضة.
انعكس أثر الشهد على حاله. تبدل هندامه وكلامه. كما تبدلت نظرة زوجته تجاهه.
غدا وجهه نضرا، وجسده مكتنزا، وثيابه ترميه وقارا واحتراما. ذات يوم ناداه أحد التجار بالشريف. التفت سريعا وآثار السرور حول عينيه، وابتسامة فوق شفتيه كشفت عن أنياب حادة ألفت الافتراس.
سمع ريح خفيف كلمة “الشريف” التي فقدت شرفها، فاشتد. صار يحمل الأتربة ويرمي بها في كل الاتجاهات، أما السماء فتغير حالها، وتعكر مزاجها، فأخذت ترسل شرارات برق مرت من أمامه، فخطفت نور عينيه. أخذ يرمش، استرد بصره، فإذا بجعجعة رعد تنبعث من الأفق كأنها صخور كبيرة تتصارع فوق السحاب. تبتعد قليلا وتلتقي مجددا كأكباش هيج الدود قرونها.
توجعت السماء هي الأخرى، وصارت ترمي بحبات مطر غليظة كأنها بنات صخر. احتمى والتاجر بمحل البقالة القريب منهما. كان البقال منهمكا في إدخال علب كانت خارجا.
قال جاني العسل للتاجر:
– أضحى الجو متقلبا.
– رد الآخر مازحا:
– الكل في هذا العالم صار يتقلب إلا الجبال هي التي تظل واقفة في مكانها.
ضحك ثم رد:
– قد تستيقظ يوما ولا تجدها بمكانها.
انتبه الجاني إلى أن الفحم لا يزال معرضا للمطر، فالتفت إلى البقال الذي كان ينشف نفسه بمنديل، ثم قال:
– إن الفحم معرض للشتاء،
– لا عليك، سيجف.
– وإن طلب قبل أن يجف؟
صمت البقال متشاغلا بترتيب بعض الأشياء. تناظر الجاني والتاجر، فأعقبت ذلك لحظات صمت، تحدث خلالها الهواء بنبرة حادة. يصدم أوراق أشجار الكاليبتوس، فيصدر صوتا يزعج الآذان.
عادا إلى حديثهما، يربطان الكوارث الطبيعية التي استشرت مؤخرا بأفعال الناس التي حادت عن الصواب.
لما صفا الجو من موجات الفزع، وانقشعت الغيوم السوداء فاسحة المجال لخيوط بيضاء. صار الأفق نقيا، ونسائمه منعشة، وأشجاره يانعة الخضرة، والشوارع خالية من التجار الذين يضيقونها محتكرين جانبي الطوار. غسلت الأمطار الأفق فأمسى كعروس في ثوب زفافها الأبيض.
أعلن المؤذن دخول وقت صلاة المغرب. انصرفا والبقال للصلاة.
بعد مدة غير طويلة، عاد للشهد، لكنه لم يجن حجم ما يجني عادة. رجع ساخطا، يسب النحل، يلعن الشهد، ويتوعد بتحطيم كل الخلايا. هدأ قليلا وشرع يخمن سبب النقص.
ضاق النحل من فعل محب العيش السهل الذي أصبح يجفف كل الشهد، فبنى عشا آخر. جاء الجاني فوجد الصندوق فارغا. جن جنونه، وثار ثائره. ضربه برجله. وتاه يبحث عن المكان الذي سكنه النحل. ألفاه ممتلئا. شخص ببصره، ولسانه يلعق شفتيه، وقلبه يدق بسرعة من شدة الفرح. مد يده إلى الشهد لكنه تراجع، وقرر أن يعود للكنز مساء عندما ينام النحل.
لما كانت الشمس تستعد للسقوط في محجرها رجع منتعلا حذاءه البلاستيكي الطويل الذي لا يأبه للأعواد ولا لمخلفات المطر، مد يديه للعش، لكن النحل كان مجندا للدفاع عن غلته. لدغه لدغات. طوى طريقه يجري وسم النحل يسري في جسمه، والطنين وراءه، لما ابتعد عاد النحل إلا واحدة.
جلس أسفل شجرة وهو يحك بكل قوة أظافره عساه يبرد حر اللدغ. أخذ يتساءل عن سر حر اللدغ وعلاقته بالانتفاخ، وكيف ينتج النحل هذه المادة السامة، والنحلة التي تبعته أعلى رأسه على غصن تستمع لحواره. تعجبت قائلة: يا لغباوته! ما تساءل يوما عن سر حلاوة عسلنا، ولا كيف يكسى لونا غير لوننا. ويا لتواكله! لم يفكر في اتخاذنا قدوة، معتمدا على نفسه رافعا يد الظلم عن محصول عملنا.