
أول صورة بدأت تطاردني، سنة قبل إحالتي على التقاعد تعود لمنتصف السبعينات من القرن الماضي. كنت تلميذا بثانوية محمد الخامس، أرى موظفا لا أذكر اسمه، يدخل إلى المؤسسة، ويجلس وحيدا فوق صخرة متوسطة الحجم بجانب السور المقابل لقاعة الأساتذة. قيل لي آنذاك بأنه بلغ سن الستين، وأحيل على التقاعد، وأن عليه أن يداوم على الحضور للمؤسسة لمدة تقرب من أربعة أشهر سبق له أن استفاد منها على شكل رخص طبية مصادق عليها، وأنها لن تحتسب له في التقاعد إلا إذا قام بتعويضها. ولا أعلم إذا كانت إدارة المؤسسة تراقب هذا الحضور أم لا.
وسأفهم فيما بعد بان التقاعد في هذه الحقبة كان قاسيا، يشمل فقط احتساب نسبة معينة من الراتب الأساسي. وقد كان راتب تقاعد نائب إقليمي قبل نظام 85 لا يتجاوز 2500 درهم فما بالك بموظف راتبه أقل.
كان الموظفون في قطاع التعليم ينتظرون حوالي سنة لتصفية رواتب معاشهم إذا كان ملفهم يتوفر على جميع الوثائق المطلوبة. أما إذا كانت تنقصه إحدى الوثائق فقد تمتد المدة إلى أكثر من سنة ونصف، يجب أن يعيشها الموظف بدون أجر. وفي هذه الحالة عليه أن يأخذ العبرة من درس الصرصار والنملة، وإلا دفع الثمن غاليا .
ثاني صورة حاصرتني هي لموظفين صغار من قطاعات مختلفة خاصة الجيش والقوات المساعدة، يقضون يومهم بالكامل بالحدائق أو بجوارها يلعبون الورق أو (الضاما) .
ثالث صورة تبادرت إلى الذهن استحضرتها من مقال نشرته جريدة الاتحاد الاشتراكي في منتصف التسعينيات من القرن الماضي عندما قارن كاتبه بين راتب عامل متقاعد لا يتجاوز درهم واحد، ونشر صورة من الحوالة، وبين فقرة وردت في تقرير مالي لمجلس مدينة آزمور جاء فيها بان المجلس حجز عربة يجرها بغل، وانه صرف على هذا البغل مبلغا ماليا كبيرا يتجاوز 10 آلاف درهم في الشهر، وهو ما يعادل أجر موظفين أو ثلاث.
رابع صورة هي لبعض رجال التعليم والموظفين الصغار بالحي الذي اسكنه. يجلسون في الصباح والمساء في حديقة مقابلة للمسجد، يتبادلون الحديث، وعندما يسمعون الآذان، يحملون كراسيهم، ويتوجهون إلى المسجد. وبعد أداء فريضة الصلاة يعودون إلى الحديقة. وقد يحدث أن التقي بأحدهم بعيدا عن الحديقة يمارس رياضة المشي .يتكرر المشهد كل يوم، حتى خلت أنهم ينتظرون فقط ساعة الرحيل الأخيرة.
استحضار هذه الصور وغيرها كثير، كَدّرَ علي الفرحة بإحالتي على التقاعد التي لم يكن يفصلني عنها غير سنة واحدة. رغم الارتياح الذي كنت أبديه أمام الزملاء كانت تنتابني هواجس ومخاوف كثيرة لها علاقة بهذه الصور تتلخص في سؤال واحد : ماذا سأفعل بعد التقاعد ؟
في الحقيقة فكرت قبل ذلك في الأمر . قبل ست سنوات أو سبع بدأت أعمل على تدوين نصوص قصيرة سميتها وشوم في الذاكرة . لم تعجبني اللغة، بدت لي عصية لا تطاوع ما يجول في نفسي من مشاعر وعواطف. لغة جافة، وسرد أبيض لأحداث مررت بها في حياتي بدت لي أنها تستحق الحفظ، والعودة إليها عندما يسمح الوقت بذلك. العمل وصداع النقابة أخذا مني الكثير من الوقت ولم يتركا لي فرصة لمراجعة هذه الأوراق وتطوير ما تحمله من أفكار.
في دردشة مع الصديق الشاعر موحى وهبي. سألته عن حاله مع التقاعد قال لي بأنه خلال السنة الأخيرة أدرك معنى وسياق العبارة الشعبية التي ظلت تتردد على ألسنة الكثير من الموظفين (الله يخرج سرابسنا* على خير)، وأنه أحس بعد التقاعد أن أهم شيء افتقده هو الإحساس بالعطلة.
إذن أول شيء يجب علي التفكير فيه هو أن انهي مشواري العملي بخير
فما زال أمامي موسم دراسي بكامله، ولا أريد بعد كل هذه السنين التي قضيتها في التدريس بحسناتها وسيئاتها أن أتعرض لأي موقف يخدش نهاية مساري المهني. لهذا حرصت أكثر من السنوات السابقة على القيام بواجبي على أحسن وجه. مثلا كانت لي مشكلة مع دفتر النصوص كوثيقة تربوية مهمة. ويعد من الوثائق الأساسية التي يراقبها المفتشون ويسألون عنها أثناء زياراتهم لتقويم عمل الأساتذة. ولا يمكن للأستاذ في نهاية الموسم توقيع محضر الخروج إلا إذا سلم للإدارة هذا الدفتر.
من قبل كنت أملأه مرة في نهاية كل شهر. أما الآن إذا تهاونت فلا أتجاوز أسبوعا على أكثر تقدير.
حلت لجنة وزارية بالمؤسسة لإجراء افتحاص عام، شمل حتى ما هو تربوي في بداية الدورة الثانية. وقد أخبرني مراقب الدروس بأنه بحث عن بعض دفاتر النصوص قصد تقديمها كعينة للجنة، فلم يعثر سوى على دفتري. وقد استغرب أعضاء اللجنة بعد أن اخبرهم رئيس المؤسسة والناظر بان هذا الدفتر هو لأستاذ أحيل على التقاعد، وانه تم التمديد له إلى نهاية الموسم، حسب ما انتهى إلى علمي .
أجريت جميع الفروض، وقمت بتصحيحها، وسلمت الأوراق للتلاميذ أثناء عملية التصحيح، وطلبت منهم التوقيع بأنهم اطلعوا عليها. وهي عملية كنت أقوم بها من قبل. الفرق اليوم هو أني احترمت عدد الفروض والموعد الزمني لإجرائها وتصحيحها .
حرصت كذلك على أن تكون العلاقة مع التلاميذ والتلميذات فيما تبقى من هذه السنة في أحسن حالاتها. أصبحت أكثر مرونة، وأكثر تسامحا من قبل. تحولت بعض مقاطع الفيديو التي ينشرها التلاميذ في (اليوتيب) أكبر رقيب على سلوكي وتصرفاتي في بعض الأحيان من المراسيم والمذكرات المنظمة للعمل داخل القسم.
منذ سبع سنوات خلت تألمت كثيرا لفيديو قصير، تم تداوله في منتصف الموسم ، ب(اليوتيب) يصور حالة مدرس بإحدى ثانويات مراكش وهو نائم على مكتبه والقاعة فارغة. وقد صاحبته تعليقات خبيثة تستهدف ما تبقى من كرامة نساء ورجال التعليم. وبعد تحقيق أجرته النيابة، تبين فيما بعد أن الفيديو تم تصويره في فترة تزامن فيها الدخول المدرسي مع شهر رمضان، وأن التلاميذ لم ينهوا إجراءات التسجيل، ولم يلتحقوا بعد بالأقسام، فدخل هذا المدرس في الفترة المسائية إلى القاعة المخصصة لتدريس مادته ليستريح من تعب الصيام في يوم قائظ، فتم تصويره خلسة بعد أن سرقته لحظة نوم .
وضعت النقط في برنامج مسار في الموعد المحدد، رغم انشغالاتي بالعمل النقابي، خاصة وأن نهاية الموسم ستشهد إجراء انتخابات اللجان الثنائية ومناديب العمال.
قبل نهاية الموسم الدراسي عمل الزملاء والزميلات في إطار لجنة تهتم بالشؤون الاجتماعية منبثقة عن مجلس التدبير بتنسيق مع جمعية آباء وأمهات وأولياء التلاميذ بالمؤسسة على إقامة حفل تكريمي للموظفات والموظفين الذين سيتقاعدون في نهاية شهر غشت قدم خلاله التلاميذ فقرات فنية جميلة، تعبر عن نوع من الشكر والعرفان. أعجبني منها شريطا سينمائيا قصيرا حصل على أول جائزة في مسابقة إقليمية بين الثانويات، ويتضمن مشاهد تحكي عن تجربة العنف المدرسي في كواليس ساحة المؤسسة. وقد أدى بعض التلاميذ الذين سبق لي تدريسهم أدوارا رئيسية في هذا العرض، كما تم إلقاء كلمات بالمناسبة تنوه بالمكرمين والمكرمات وتقديم بعض الهدايا الرمزية لهم .
خفت أن أحضر هذا الحفل وحيدا، فتحزمت بصديقي في النقابة محمد أيت واكروش. وقد كانت لحظة التكريم في جوهرها لحظة رهيبة، تشبه لحظة انتظار الحكم على شخص إما بإطلاق الرصاص عليه لإعدامه أو منحه حياة جديدة. ثم فجأة يؤجل القاضي النطق بالحكم إلى جلسة مقبلة.
وفي انتظار أن يصدر القاضي الحكم عدت إلى بعض الأوراق الشخصية التي حفظتها في الحاسوب، تحتوي على رؤوس أقلام لأفكار عابرة لسنوات خلت كنت قد خططت للاشتغال عليها، عندما أستقيل من العمل النقابي.
المعجم :
ـ (سرابسنا) مفردها السربيس وهي نطق باللهجة المغربية للكلمة الفرنسية service
ـ (الضامة) : لعبة تصنع من لوح خشبي أو بلاستيكي عليه شبكة مربعات 8 في 8 بلونين مختلفين وهي نفس الرقعة المستعملة في لعبة الشطرنج . ولكل لاعب الحق في 12 قطعة خشبية أو بلاستيكية على شكل أقراص بلونين مختلفين.
مراكش في 23 يناير 2018