أذكر أنه ذات مرّة وعند قراءتي لرواية كوخ العم توم للكاتبة الأمريكيّة الفذّة هارييت بيتشر ستو جالت بخاطري كثير من الأفكار والملاحظات حول الكاتبة وحول الرواية بحد ذاتها ربما بشكل أكبر، لا أنكر بأنني أعرف الرواية وسمعت عنها من مدّة قبل قراءتها مازاد بكميّة الشغف لدي لمعرفة كل تفاصيلها والإطلاع على سرديتها وحبكتها وحواراتها وشخوصها بشكل أدق، ولا أنكر كذلك أنّني انجرفت نحوها بشكل كبير رغم إقراري باختلافي مع الكاتبة في بعض النقاط تبعا لاختلاف المعتقد والظروف والبيئات.
لكن حجر الزاوية في الأسطر التي أكتبها هو جدّة معرفتي بالاسم الكامل للكاتبة الأمريكيّة والتي ذاع صيت روايتها أكبر بكثير من صدى اسم الكاتبة الذي غاب عن معرفة كثيرين حتى من الطبقة المثقفة وهذا الأمر يطرح قضيّة حريّة بالطرح: لماذا ينتشر العنوان قبل الاسم ؟ بل إن مؤلفين عرفوا فقط بعديّا أي بعد انتشار مؤلفاتهم أو بلغة أخرى هناك مؤلفات هي التي منحت حجما مهولا من الشهرة والمال لصاحبها.
مقابل ذلك نجد مؤلفين مغمورين كُثُرٌ خاصة في وقتنا الرّاهن ممن لمع نجم أسمائهم دون أعمالهم المعدودة –مجتمعين-والتي لا تساوي في مجملها من حيث القيمة سطرا واحدا من سيرة ذاتيّة لأحد عمالقة الأدب في العصور الذهبيّة.
في تقديري الخاص هناك عوامل جمّة أدت إلى حدوث هذا المتغير في حركتنا الأدبيّة المعاصرة ولعل أبرزها منصات التواصل الإجتماعي ووسائل الاعلام على إختلاف أنواعها وبعض دور النشر التي منحت لبعض الكتّاب اذا جاز التعبير وهجا كبيرا من الدعاية والإشهار بشكل مبالغ فيه، لدرجة يصطدم فيها القراء من حجم التناقض بين استشراء الاسم وضحالة المنتوج الفكري الذي يعتمد كثيرا على الإباحيات ودرجات مقززة من النذالة والسفالة بل ومهاجمة الدّين وسبّ الذات الإلاهيّة ونشر الفسق والمجون خاصة في أوساط الجيل الجديد.
وبعودتنا إلى الكتب الأسطوريّة التي صنعت تاريخا قائما بذاته وكوّنت حجما عميقا من الوعي الفردي والجماعي داخل أجيال متعاقبة وفي أمكنة مختلفة من عالمنا الفسيح، فإننا نقف معجبين مثمنين لما خطّته أيادي أولئك العمالقة من الأدباء الذين رصعوا أسمائهم بدرر خالدة، هم لم يصنعوا لأنفسهم أسماءً بقدر ما قدّموه للتاريخ وللإنسانيّة جمعاء ولأوطانهم ومجتمعاتهم، ورغم مرور زمن طويل على رحيلهم إلاّ أن منتجاتهم لا تزال تحقق مبيعات محترمة وأسمائهم لا يزال يخلّدها التّاريخ الإنساني التليد .
وقصارى القول أعتقد بأنه جاز لنا بعد هذا الذي قلناه، أنّ التاريخ وذاكرته الخصبة يحفظان في خزائنهما كل تلك الأعمال التي سمقت بالانسانيّة عالياً وارتقت بالضمير البشري إلى المعالي، بصرف النّظر عن من كتبها وسهر على خطها وتوظيبها وتنسيقها وإخراجها للمتلقين في أحلى صورة ممكنة، ذلك أنّ البشر إلى زوال وأثارهم إلى بقاء وهذه واحدةٌ من سنن الله تعالى في خلقه وربما نجد لما قلنا في كلام الله عزّ وجلّ في الآية 12 من سورة ياسين-دليل-( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ).
—
(*) كاتب سياسي وروائي جزائري