شرّفوا المغرب ، شرّفوا العرب ، شرّفوا الأمازيغ، شرّفوا إفريقيا. الانتصار بدأ قبل بداية المونديال. عزل المدرب الأجنبي، واختيار وليد الركراكي مدربا للمنتخب الوطني. من هنا بدأ الانتصار. العالم كله استمع إلى شريط منتشر على وسائل التواصل الاجتماعي يحكي عن تجربة أسرة الركراكي مع حياة المهجر. المعاناة التي كابدتها أمه ووالده ليأكل ويتعلم رفقة ست إخوة آخرين في مجتمع لا يرحم، مجتمع مادي قلبه من حديد. قصة أسرة تتماهى وتتشابه مع قصص أغلب اللاعبين الذين ينتمون إلى أسر مغاربة العالم. شباب أنقذت بعضه المدرسة أو الكرة أو هما معا. شباب أنقذته تلك الأسر التي جاءت إلى الملعب لتشجعه. في كل مباراة، وبعد كل انتصار كانت الكاميرات تنقل لنا صور هذا اللاعب أو ذاك، وهو يقبل يد أو رأس الأم التي ظلت تعمل وتربي وتحضن ابنها وترضعه ثقافتها المحلية البسيطة. ترضعه قيم النية والبركة ورضا الوالدين، حتى وصل إلى العالمية.
المدرب وليد الركراكي وضع يده على الجرح الذي لم ينتبه إليه غيره، وعرف كيف يعيد هذا الجيل إلى جذوره الوطنية والحضارية. وأضاف ما هو أهم في ميدان الكرة. لتلعب عليك أن تعمل، وتُظهر كفاءتك، وستجد مكانك في المنتخب. لا بد أنه قطع مع الفساد الذي كان سائدا في اختيار لاعبي المنتخب الوطني. أعاد زياش ومزراوي وحمد الله. واستقطب لاعبين جدد. ونادى على لاعبين من البطولة الوطنية. في زمن قياسي حوّل المنتخب إلى عائلة. أكيد أنه وضع ميثاقا جديدا، كل واحد يتحمل فيه مسؤوليته أمام الفريق كعائلة، وأمام الله وأمام الوطن، وأمام المدرب ـ القائد والأب والأخ الأكبر الذي لم ينس في إحدى الندوات أن يتقدم بجزيل الشكر لفريق آخر يعمل معه في الظل.
لا أفهم كثيرا في كرة القدم. لست محللا، ولا صحافيا رياضيا حتى. قد يكون ما أقوله مجرد ضرب من الخيال، صادر عن موظف متقاعد عاشق للسرد وكتابة القصص. لكن لأول مرة سأشتري قمصانا وعلما وطنيا وقبعات، وألبس الأحمر مع أسرتي الصغيرة، وأتابع مباريات المنتخب من أولها إلى آخرها، وأتحدث في الكرة كأني واحد من عشاقها منذ زمن بعيد. وربما فعل الكثير من المغاربة مثلي.
هكذا رأينا فريقا مدججا بنجوم مغاربة العالم الذين يلعبون لفرق من القارة العجوز لها تاريخ عريق في الكرة، ينزل إلى الميدان. يقسو على منتخبات أوروبية لها باع طويل في اللعبة. يُخرج الشياطين الحمر للمدرسة البلجيكية من دور المجموعات. فريق يمثل بلدا من شمال إفريقيا اسمه المغرب يحتل المركز الأول بأعلى النقط، وبأقوى دفاع، يزيح المدرسة الاسبانية في (التيكي تاكا) أمام ذهول العالم. بدأ الحلم يكبر، وبدأنا في الداخل لا نصدق ما نشاهده، واتهمنا رأس (الافوكا) بأنه يأخذنا إلى منطقة الجنون. المستضعفون في العالم كله يلتفّون حول منتخب الأسود من أدغال إفريقيا إلى جبال (تورابورا). المدرسة البرتغالية لن تكون أحسن حظا من غيرها، وهي مدججة بأشهر نجوم الكرة العالمية، وعلى رأسهم الإمبراطور رونالدو اللاعب الأكثر شهرة في العالم الذي تربع على عرش الكرة لردح من الزمن. المغرب ومعه العرب وإفريقيا لأول مرة في التاريخ يدخلون مع وليد الركراكي منطقة الجنون، منطقة الأربعة الكبار.
اسم المغرب، وعلمه الوطني يكتسحان مواقع البحث في غوغل، ويزيحان أمريكا الدولة العظمى، ويحتلان الصدارة.
الموعد القادم مع دولة عظمى أخرى من القارة العجوز مدججة بنجوم أفارقة تخلوا عن جذورهم التاريخية لصالح ماماهم فرنسا. يقودهم إمبراطور جديد يجري دم إفريقي بارد في عروقه، يتنبأ له العالم بالتربع على عرش الكرة.
فرنسا انهزمت في هذه المقابلة حضاريا قبل أن تربحها كرويا. لم تكن مباراة عادلة في كرة القدم. منتخب مدجج بنجوم من مغاربة العالم، يمثل ويدافع وينتصر لقيم حضارية مختلفة قادمة من الجنوب، تعيد لنا الاعتبار وترفع رأسنا ، وترفع رأس كل المهاجرين المستقرين في الشمال. سأتوقف قليلا عند شريط نشرته في خاصية الستوري بعد انتصار المغرب على البرتغال. شابة مغربية أمام منازل من خشب في قرية أو مدينة صغيرة في الشمال (الأوروبي) ، تحمل العلم الوطني المغربي، ثملة بالفرح، كالمجنونة ترقص وتجري وتقفز وتسقط وتنهض فوق الثلج.
هذا الفرح كان عابرا للقارات. تجاوز الكرة. تجاوز مباراة المغرب وفرنسا. المباراة كان لها ما بعدها. أسئلة محرجة أصبحت تُطرح على قوانين اللعبة. الحكم يتغاضى عن ضربتي جزاء أقر بهما كل الخبراء في قوانين اللعبة، وإعلام الشمال نفسه. الم يحن الوقت بعد لتفكر الدول المستضعفة في خلق (فيفا) جديدة خاصة بها أكثر عدلا وإنصافا، بدل من أن تبقى تحت رحمة قارتين احتكرتا الفوز بكأس العالم على مدار التاريخ؟
الحلم المغربي كان حلما جميلا جاء به (نبي) يحمل رسالة جديدة في كرة القدم. وليسمح لي رجال الدين على استعمال هذا المجاز، فأنا لا أريد منه أي إساءة للسماء أو القرآن الكريم.
وليد الركراكي ومجموعته رموا كرة صغيرة على مجمل السقف المغربي والإفريقي والعربي:
ألا يمكن للشمس أن تشرق من المغرب؟
شباب مغاربة العالم قادر على استنهاض البلد إذا أعطيت له الفرصة، ليس فقط في كرة القدم، بل في مجالات أخرى، في التعليم والاقتصاد والسياسة والثقافة. لقد نجح هؤلاء الشباب فيما فشل فيه آخرون محليا وعربيا وإفريقيا. الشباب في حاجة إلى إعادة الصفاء للنية كما تحدث عنها وليد الركراكي . النية ليس في الكرة فقط، بل في التعليم السياسة والاقتصاد والثقافة.
لا بد من فتح المجال أمام كفاءات شباب من الداخل، وشباب من مغاربة العالم مع إعادة الحس الوطني إلى جذوره.
وهذا يحتاج أيضا إلى القطع مع نموذج ذلك الكوميدي الذي ظهر بقميص الحِرباء، نصفه أحمر، ونصفه أزرق. مقابلة المغرب فرنسا لم يكن فيها خيار ثالث، إما أن تلبس الأحمر، وتعود إلى جذورك، أو تلبس الأزرق، وتتنكر لأرض الأجداد وثقافتهم، وتتحول إلى مسخ.
الهامش :
*العنوان مقتبس من تدوينة للصديقة سامية شاهين.
مراكش 15 دجنبر 2022
مقال رائع يتميزبعمق التحليل وبمنظور فلسفي بعيد المدى لمحاولة فهم ما جرى عقب ما حققه المغرب من نجاحات نيابة عن الشعوب العربية والافارقة والاسيوية.. شكرا حميد اليوسفي، شكرا مجلة بصرياتا
قلت كل مايمكن ان يقال في موضوع هذا الإنجاز
” الكروي” الغير المسبوق، إنجاز كشف للعالم سر تشبت المغاربة بوطنهم وبنمط عيش أسرهم رغم اغترابهم في بلد المهجر.
نعم لقد عشنا وعاش معنا العالم ” كرونولوجيا” الأحداث بكل تفاصيلها، وفي كل محطة يذكرنا لاعبو الفريق الوطني بسر هذا النجاح الباهر، فنكتشف معهم ان ” قيم تمغربييت” لاتخضع لقانون ” التعرية” حتى في بلاد الغربة. قيم تثوارت عبر الأجيال.
نتمنى أن يكون هذا الإنجاز تدشينا لإنجازات تنموية من أجل تقدم ورفعة هذا البلد.