لقد توافد على اللغة العربية و حضاراتها المختلفة فيض من العقول الغربية بمقاصد مختلفة و متباينة، ولقد أطلق اسم “الاستشراق” على كل من انضم إلى هذا الجموع من البحاثة الأوروبيين، الذين ساهموا بطريقة أو بأخرى في إثراء قواعد المقولات الألسنية و الأدبية و الفكرية العربية أو في تقديم نسق معرفي جديد عما أبدعته اجتهادات فحولها و فطاحلها من أدباء و علماء و مفكرين. و لقد تباين هذا الفيض من البحوث فيما بينه؛ هناك المعلي من شأن هذه اللغة فيما أثرت به الحضارة الإنسانية و فيها المهين لدورها الحضاري.
و قد وجدت أن مدونة “تاريخ الأدب العربي” للمستشرق “ريجيس بلاشير” تدخل ضمن هذه الكوكبة من المستشرقين الذين حاولوا مقاربة اللغة العربية و آدابها قصد إشباع جموح البحث عن مكنوناتها في صيغها الأدبية المحضة، واضعا نصب عينيه التقيد بالمنتجات الأدبية فقط لهذه اللغة خلافا لمن سبقه من المستشرقين الذين قاربوا هذه اللغة من مجموع المنجزات الحضارية من تاريخ و فقه و نحو و صرف و فلسفة و طب و فلك و غيرها من العلوم.
وقد صدرت هذه المدونة، حسب النسخة التي اعتمدتها، في جزأين يحملان كثيرا من القضايا و الإشكاليات ذات العلاقة بالأدب العربي في عمومه و بخصائصه على العهدين ما قبل الإسلام و ما بعده. وحتى لا أطنب في التعرض إلى كل ما جاء في الجزأين بمختلف فصولهما و بتعدد أقسامهما و فقراتهما فضلت أن أقتصر على ما يدخل في محور “العربية في مدونات المستشرقين” الذي تبنته اللجنة العلمية الموقرة لملتقاكم هذا.
وقد تبين لي من خلال هذه المدونة أن مؤلفها يطرح قضايا مهمة و شائكة جدا و بعضها مفيد لبعض القضايا اللغوية في اللسان العربي و الأفكار الفنية و الجمالية المرتبطة بها، كما يقع قارئها على بعضها الآخر، طبعا كعادة المستشرقين، مثيرا لبعض التظليلات و مشبع بالسموم التي تضر بمصداقية ذلك اللسان و تقلل من شأن ما يحمله من خصائص و من مميزات.
و تقريبا لما احتوت عليه المدونة في جزأيها و بما يتناسب و موضوع ملتقاكم المبارك هذا، أرتأيت أن أقدم هذه الورقة عنها في محورين أساسيين هما:
أـ ابتداء تشكل اللغة العربية:
وقد كان هذا المحور حمالا للأفكار و مناقشا لقضاياه المحورية التي تتمثل في فصلها الأول تحت عنوان “المجال العربي و سكانه” حيث يقول بأن: ” العرب كغيرهم من الجماعات الإنسانية لم يؤلفوا كتلة سلالية خالصة من أثر أجنبي، فإن المعيار الوحيد الذي نحتفظ به لتحديد المجال العربي هو نوع لغوي…” “. و هي فكرة أجدها حمالة أوجه عدة حين تقرأ قراءات متعددة محملة بتأويلات وفق كل مبتغى أو مقصد، فحين نقر بذلك نسقط من حساباتنا ذلك الفضاء العربي بكل مميزاته و بكل خصائصه حتى نجده يندمج ضمن كل الفضاءات الأخرى في ابتداء لمحو العرق العربي أو لنسيانه على أقل تقدير، و غاية كهذه أجدها حمالة لنزعات سياسية حديثة و معاصرة يمكن استغلالها في أغراض متعددة الغايات و المقاصد، ابتداؤها إبطال كل ميزة للجنس العربي و لمميزات بلاغته و فصاحته، كما أننا حين نرفضها نجد أنفسنا أمام مجد حضاري و تراث متميز في جميع مناحيه المعرفية قد ساهمت فيه أعراق غير عربية حتى نصل إلى تقزيم اللسان العربي و التقليل من حمولته الحضارية التي أبهرت العالم أجمع.
ثم يتبع ذلك كثير من القضايا و الملاحظات التي تجلب الانتباه في ما ابتغاه “بلاشير” مثل اعتباره اللغة و الأدب وجهان لعملة واحدة ولا يمكن الفصل بينهما حين ساند الفكرة التي قال بها “بلات” “: ” اللغة و الأدب هما قضيتان لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى..” “. و أجد ذلك شيئا مهما بخلاف عزلنا اللغة عن الأدب ونفي التفاعل بينهما مثل ما تذهب إليه معظم مناهجنا التربوية التي تقدم اللغة العربية بمعزل عن الأدب في دروس اللغة العربية و قواعدها دون التمثيل، في حالات التطبيق، لتلك القواعد بنصوص أدبية؛ شعرية أو نثرية، مما يجعل المتعلم عندنا يحفظ القاعدة اللغوية في شكلها النحوي و الصرفي دون التمتع بجمال وقعها ضمن سياق و في لبوس أسلوب جمالي أخاذ.
أما عند ما اتخذ عنوان “اتخاذ لهجة عربية لغة أدبية” للفصل الثالث من الجزء الأول فإنه وقف طويلا عند تكون و تشكل اللغة العربية من اللهجات التي كانت منتشرة في الجزيرة العربية و في اليمن و في الحيرة، ثم يعزي تشكل هذه اللغة بتلك القوة و التفرد كونها ” أيضا متولدة عن لهجة أعدت لتكون لغة أدبية ” ” قبل الإسلام بآلاف السنين ليبدع بها شعراء ما قبل الإسلام نصوصا شعرية قوية شكلت القواعد النحوية و الصرفية عند علماء اللغة في عصور الإسلام المتأخرة.
و نجده يرد تشكل تلك اللغة وقوتها في انتشارها داخل فئات اجتماعية متعددة المستويات حتى أصبحت لغة يومية يتعامل بها كل الأفراد المكونين للمجتمع العربي. و هي الخاصية التي جعلتها لتصبح “في وقت مبكر لغة علم تجددت مرارا من جراء اتصالها بحاجات جديدة” ” مع توسع و تمدد الإسلام شرقا و غربا.
وخلال معالجته لتشكل اللغة العربية نلاحظ عليه أنه يتحاشى قدر المستطاع إعطاء اسم “لغة” على اللغة العربية و يستبدلها ب ـ “اللهجة” بينما يصف اللهجات المختلفة في الجزيرة العربية تـ “اللغات” حيث يقول: “..واللغات المنتشرة في جنوب جزيرة العرب..” ” بعد أن قال: “..و لنصطلح على إطلاق اسم العرب على جماعة صفتهم الوحيدة، في نظرنا، استعمالهم هذا المنطوق لجهة..” “.
و إذا كان من المنطقي و المعلوم أن أي لغة في العالم لابد وأن تعرف في بدايات تشكلها تجاذبا و تحاورا مع محيطها و مع ما يصلها من ألسن، و ديدن اللغة العربية لم يشذ عن ذلك، غير أني لاحظت كأن “بلاشير” يجتهد في ترجيح المسحة العقائدية المسيحية في إثراء اللغة العربية أكثر من تركيزه على بقية الألسن و العقائد الأخرى التي كانت على اتصال مع المجتمع العربي عبر أزمنة مختلفة، و لعلنا نجد في فكرته القائلة: “..ولا يهمنا معرفة ما إذا كانت ألفاظ تكيفت مع الجو المكي أم دخلت حديثا بواسطة القرآن، بل المهم الإشارة إلى وجود هذه الكلمات التي تثبت بلوغ التأثير المسيحي حتى الحجاز..” “.
حيث نلاحظ “بلاشير” و قد أضرب، أو قلل كثيرا، من أهمية ركيزة أساسية في تشكل اللسان العربي و ازدهاره و التي كانت تتمثل في تلاقح قوي بين اللغات و اللهجات التي كانت سائدة في كثير من الفضاءات الجغرافية التي كان يلتقي سكانها التجار في “مكة المكرمة” و هي تمثل مركزا و عاصمة دينية يحج إليها أقوام متعددة أعراقهم الحج الوثني أو يؤمها خلق كثير للتجارة و للتعارف أو لقضاء مآرب و حاجات متعددة. و يبدوا أن المصادر التاريخية لم تشر إطلاقا إلى مسألة العقيدة المسيحية، إذا ما استثنينا هجوم أبرهة على مكة، في الجزيرة العربية على ذلك العهد، بينما تحدثت كثيرا عن اليهود في المدينة المنورة.
كما نلاحظ أن “بلاشير” كان ميالا إلى الشق الشمالي الغربي من اللهجات المنتشرة في شبه الجزيرة العربية و التي أثرت في نمو اللغة العربية و تطورها، لأن هذه الجهة كانت ميالة إلى الروم و إلى العقيدة المسيحية، بينما نجده عاج باستحياء على لهجات/لغات الجهة الجنوبية/اليمن لأنها كانت بعيدة عن الروم و عن الديانة المسيحية، على الرغم أنه يقول: “..إن كلمة “الرحمن” توجد في نقوش سد مأرب، كما ورد في القرآن ألفاظ من أصل حبشي كالرجيم و الإنجيل و المنبر و الحواري..” “. طبعا إن كلمة “حبشي” توحي بغايات و مقاصد محددة مفادها قوة العقيدة المسيحية في المجالات الألسنية، لأننا نعرف بأن المسيحية كانت منتشرة في الحبشة.
و في كل الحالات فإننا لن نستطيع أن نقدم حقيقة كاملة عن الحقيقة الألسنية التي تشكل بها اللسان العربي غير أن متون المختصين من المسلمين كلهم اعتبروا أن هذا اللسان كان قد استوفى كل شروط البيان الألسني العربي، و ربما حتى العربي، و ذلك ما جعل القرآن الكريم، كلام الله العزيز، معجزا للعرب وقت نزوله على سيد الأنام محمد عليه الصلاة و السلام و لغير العرب بعد انتشار الإسلام و حتى على عصورنا الحالية.
و مما زاد في اضطراب رؤية “بلاشير” حول اللغة العربية، طبعا حسب رأيي، هو جعله اللهجة العربية لهجتان؛ لهجة للعامة يتعطاها عموم العرب في قضاء أغراضهم اليومية، و لهجة للخاصة من الأدباء و الشعراء الذين بقيت إبداعاتهم الشعرية محفوظة و غير مكتوبة. و كأنه ينزل نظرية “دوسيسير” على اللغة العربية الذي فرق بين الكلام و بين اللغة. طبعا تلك مسألة تخالف الوقائع التاريخية و تتجنب الصواب العلمي بسبب شيء بسيط فقط و هو ؛ أن العرب كانت ترسل أبناءها للبادية لتعلم الفصاحة و البلاغة في القول لدى عموم العرب المنتشرين في الفضاءات المكية و المدنية. زيادة على أن القرآن الكريم جاء بلسان عربي مبين لكل العرب وليس لعمومهم و لا لخصوصهم.
أما حين عاد “بلاشير” إلى رسم اللغة العربية، و أقصد هنا شكل الحروف و تلاوينها، تحت عنوان “نشوء الكتابة العربية” فإننا نجده يرجع الكتابة العربية و حروفها إلى عدة تأثيرات خارجية عن الجزيرة العربية و بعيدة عن مكة، و ليخلص إلى القول بأن: “..هذه الطريقة الكتابية العربية دائما أداة ابتدائية، فإن كثيرا من النصوص التي كتبت بها تحتوي نقصا فاضحا عند القراءة و تحتمل قراءات متعددة..” “.
طبعا، مثل هذه الآراء أجدها مخالفة في حق لغة صمدت للآف القرون و أعجزت فحول القول فيها، كما برزت صيغة هذه المخالفة في قوله: “..يظهر أصل العربية الفصحى بجلاء، إذا شاطرنا النحويين المسلمين رأيهم في أن هذه اللغة مشتقة من لغتي الشعر الجاهلي و القرآن معا..” “. لأننا نجده يستعمل لفظ “مشتقة” في غير سياقها الأسلوبي المؤدي إلى معنى دقيق حول العناصر الثلاثة المشكلة للحضارة العربية الإسلامية المتمثلة في القرآن و الشعر الجاهلي و اللغة العربية؛ و ذلك لأننا نحن المسلمون لنا يقين بأن القرآن الكريم كلام الله، و أن الشعر الجاهلي هو إنتاج بشري بلغة غاية في البلاغة ة روعة في الجمال الخطابي البياني و بأن اللغة العربية ذات شقين؛ شق إلاهي معجز أراده الله ليكون كذلك، و شق تعبيري أسلوبي راق جدا لم تصله أي لغة حتى الآن. أما ما قاله النحويون المسلمون في هذا المضمار فالمقصود به عندهم استلال “القواعد الصياغية التي دونتها أقلام الشخصيات المسلمة العالمة في حقل اللغويات و الألسن، و وضع القاعدة النحوية و الصرفية لا تعد اشتقاقا بل تعد تثبيت و تدوين قواعد يعتمد بها فيما بعد لدى غير العارفين بهذه اللغة.
أما عند ما يقول “بلاشير” عن الكتابة العربية بأنها “..تحتوي نقصا فاضحا عند القراءة و تحتمل قراءات متعددة” في الفقرة السابقة فإني أجد، من جهة أولى، في ذلك تشكيكا في مصداقية الكتابة اللغوية للعربية، ذلك التشكيك الذي يشمل حتى النصوص المقدسة المتمثلة في القرآن الكريم و الأحاديث النبوية الشريفة و في كل الموروث اللغوي و الأدبي العربي مثل “المعلقات التي كتبت وعلقت على أستار الكعبة في عصر ما قبل الإسلام. أما من الجهة الثانية فكأنه يؤكد بأن هناك عربية قديمة قبل أن يوضع لها أصول و قواعد النحو و الصرف المسلمون و أن هناك لغة عربية حديثة بنيت على تلك القواعد التي وضعها هؤلاء العلماء. و تلك مغالطة كبيرة لم تثبتها المدونات التاريخية ولم يحدث ذلك أصلا للغة العربية.
و على نفس النهج و الرؤى نجده، وهو يناقش تاريخانية اللغة العربية، يعتبر: “..أن حماسة القراء و النحويين ..كانوا مدفوعين بعقلية تنهيج اللغة و تنقيتها، مما أدى بهم إلى توحيد لغتي القرآن و الشعر الجاهلي في الوقت الذي نظموا فيه واستنبطوا قواعد العربية الفصحى..” “. إن مثل هذه الرؤية تدفعنا إلى التساؤل عن المقصود من معنى كلمة “توحيد” في الفقرة و في السياق كله، و مهما تعددت الإجابات عن مثل التساؤلات، فإني أجدها شاذة في كل ما توحي إليه من معان، لأن الحقيقة التاريخية عندنا نحن المسلمين تؤكد: أن القرآن الكريم أنزله الله بلسان عربي مبين معجزا لفصحاء العرب و بلغائهم، و أن الشعر العربي الجاهلي كان منتشرا قبل الإسلام و قبل نزول القرآن الكريم، مما يفرض القول بأن النحاة و اللغويين استنبطوا القواعد النحوية و الصرفية للغة العربية منهما معا لصدارة الشعر و لتبيان إعجازية القرآن. بمعنى أنهما كانا موجودين في أسلبتهما العربية أصلا، و ما فعله علماء اللغة بعد ذلك هو استلهام واستخراج القواعد العربية منهما تسهيلا للأجيال اللاحقة و للمستعربين من الشعوب و الأمم غير العربية التي دخلت الإسلام أثناء الفتوحات و بعدها، ولا يوجد أي مجال لعملية “توحيد” هنا، لأنهما موحدان أصلا في الصياغة اللغوية و البلاغية مع اختلاف طبعا في ما ابتغاه الله آلية إعجازية في القرآن الكريم إسنادا و تدعيما لرسالة رسول الله محمد ابن عبد الله صلى الله عليه و سلم.
و من خلال كل ما تقدم، تحت هذا المحور، نلاحظ أن “بلاشير” و هو يحاول أن يبحث عن مصادر تكون و تشكل اللغة العربية؛ دلالة و نطقا و كتابة، يصوغ بحثه وفق أساليب متباينة الدلالة تارة و حمالة لأوجه متعددة ميالة إلى أفضال غير الفضاء العربي في التأصيل لهذه اللغة، مما يشكك في قدرة العربية على بناء نفسها بنفسها و من داخل مسارات السكان العرب داخل الجزيرة العربية على ذلك العهد. كما نجده، و هو يعوج على القرآن الكريم، لا يعتبره إلا منتوجا لغويا يشترك مع الشعر الجاهلي في الحال و في المآل ولا يعطيه حق القداسة المطلوبة.
ب ـ اشتداد عضد اللغة العربية:
حين اشتد و قوي وضع العقيدة الإسلامية، رأى “بلاشير” بأن المجال قد فسح لكثير من القضايا التي أبقت الأبواب مفتوحة على قلب ما اتفق عليه العلماء المسلمون في كل الحقول المعرفية ذات الارتباط القوي باللغة العربية، نجده ينحوا منحى التدقيق في بعض القضايا التي تعتبر هامشية في مسار حضارة لغة أبهرت العالم و أثرته بما أبدعت و بما أنتجت من معالم معرفية بقيت خالدة لقرون طويلة و ما زالت.
و لقد وجد بأن أربعين سنة بعد موت الرسول صلى الله عليه و سلم كانت كافية ليتبين الناس بأن ظهور الإسلام لم يضع قطيعة بين العقيدة الإسلامية و بين الأدب العربي، حيث رأى بأن المسألة فقط كانت تركز على الأوليات في الخطاب و في تقويم ما اعوج من سلوكات و من عادات و تقاليد لدى العربي على ذلك العهد. لكنه يعود بعد اسطر قليلة و يقول: “..فالأوفق إذا اعتماد هذا التاريخ 50هـ ـ 670م في تعيين الزمن الذي نما فيه النثر و الشعر في المجال العربي بأقل تأثيرا أجنبي ممكن..” “. وهو القول الذي يضعنا أمام كم هائل من الدلالات و المقاصد مثل التساؤل الذي يفرض علينا القائل “بأي لغة كتبت الأحاديث النبوية الشريفة؟ و بأي لغة كان يخطب الرسول صلى الله عليه و سلم و الخلفاء الراشدون من بعده في جموع المسلمين؟ أليس باللغة العربية الفصيحة؟. طبعا ذلك ما حدث و ما أثبتته لنا المدونات الموثوق بها.
أما عند ما يقول: “..و ينبغي قبل كل شيء أن نرثي للفكرة التعسفية التي تميز بين النتاجين الشعري و النثري، ففي الواقع فإن كلا النتاجين عاشا على اتصال وثيق في أغلب الأحيان..” ” فإننا نجده، ربما بدون وعي وإدراك منه، ينفى ما جاء في الفكرة السابقة بنفس القوة التي يؤكد فيها حقيقة تاريخية على قدرة اللغة العربية في التعبير عن الحقيقة الكاملة في ذات الإنسان بغظ النظر عن كفره و إلحاده أو إسلامه و إيمانه. و ذلك ما جعلها قد بنت مجدا تليدا بلاغيا على العهد الجاهلي ثم بقي ذلك المجد، بل ازداد ثراء و توسعا، بعد الإسلام و انتشاره حيث تعلمتها شعوب و أمم استطاعت أن تنجب من أبنائها علماء كبار في كل الحقول دونوا أبحاثهم و علومهم بهذه اللغة.
و بنفس السياق نجده يقول: “..و نشأ اهتمام النحاة و اللغويين الأولين بالشعر القديم بطريق المصادفة، فقد وجدت في القرآن و الحديث تراكيب و مفردات و تعابير نادرة غامضة حتى على المسلمين الذي هم من أصل عربي، مما استدعى تأليف معاجم لتفسير الغريب، ثم ظهرت في الوقت ذاته ضرورة تسويغ المعنى المحدد في تلك المعاجم..” “. طبعا فقرة يحوم حولها شعاع من الغمومض، و ذلك بسبب جمعه تراكيب قد تتنافر في مدلولاتها وفي نسقها المعنوي، و ذلك حين جعل المجهودات الجبارة التي رصدها “النحاة و اللغويين الأولين” تعود إلى المصادفة في بداية الفقرة ثم يأتي بالفقرة التي تنفي هذه المصادفة في قوله” فقد وجدت في القرآن و الحديث تراكيب” و تثبت الضرورة. ثم يضيف صيغة “حتى من أصل عربي” التي تنافى مع السياق التاريخي للفتوحات الإسلامية و انتشار الإسلام؛ فتوحات انتشار قللتا، بدون شك، من تواجد العنصر العربي القح المتضلع في اللسان العربي واستبداله بالعناصر الإسلامية الجديدة من البلاد التي فتحها المسلمون. لنخلص إلى نتيجة دقيقة مفادها: أن التوسع الزماني و المكاني أديا بالضرورة إلى نقص المتضلعين في اللغة العربي و زيادة في غيرهم من الأقوام التي دخلت الإسلام، و وضع كهذا يستدعي الاهتمام و العناية برصد قواعد اللغة العربية رغبة في فهم القرآن الكريم و الحفاظ عليه و العمل بسنة رسول الله عليه ألف صلاة و ألف سلام.
و مما يؤيد كل ذلك نجد “بلاشير”، بوعي منه أو بغيره، يقول: “..و كلما توضحت المذاهب النحوية و نما الاطلاع على المفردات و تجمعت التلميحات إلى الحوادث التاريخية و الأساطير و الأنساب شعر الناس بدافع اللجوء إلى التحقيق بواسطة مصادر مختلفة ..” “. و هي الفقرة و ما بعدها تفيد بأن هناك عالما جديدا من التصورات و من الحوادث التي بدأ يعيشها العرب، بفضل توسع الفتوحات المؤدية حتما إلى تبدل الفضاءات و تجدد الخبرات و التجارب مما يستدعي البحث عن معجم لغوي يتماشى مع كل ذلك، و لا دخل للمصادفة في مثل هذه الحالات.
أما عند ما قال: “..وهكذا شعر أهل العلم بواجب الإسراع إلى جمع آثار الماضي المقدس العزيز قبل أن ينقرض الرواة و يحول مرور الأيام دون ذلك الجمع..” ” فقد وضع يده على الحقيقة التاريخية و العلمية عما شهده اللسان العربي من زخم بشري مفعم بالتجارب و بالخبرات الجديدة و المتجددة عن الحياة العربية. زخم كان قد بدأ يظهر شيئا فشيئا تحت ظلال التقعيد النحوي و الصرفي و التسجيل و الرصد للخصائص البلاغية العربية التليدة حفاظا عليها من النسيان و الضياع.
ثم نجد “بلاشير” يفتح كوة، وفق استراتيجيته الاستشراقية، عن الفضاء المعرفي الذي باتت تشهده الحياة الثقافية العربية الإسلامية مع مرور الأيام و الأزمان حيث يقول: “…و يضاف إلى هذا الميل العاطفي ميل أصيل إلى الجدل، و معنى ذلك أن الشعوب و بخاصة الفرس، احتفظت بعد اعتناقها الإسلام بشعورها بعظمتها العريقة، كما أن العرب الغالبين لم يكونوا بأقل شعورا منهم بعظمتهم فعكفوا على الماضي يستمدون منه شواهد على تفوقهم، يعضدهم في ذلك الأعاجم أنفسهم الذين نسوا أصولهم أو أنكروها فبعثوا الأساطير العربية القديمة و افتخروا بالشعر القديم مما عاد على هذا الشعر بالخير العميم..” “.
إن ملخص هذه الفقرة السابقة يرتكز على “الشعور بالعظمة” المفترض في ذهن “بلاشير” فقط، لأن ما قام به علماء الإسلام أثناء الفتوحات أو بعدها كان لا يخرج عن؛ خدمة الإسلام بواسطة دراسة خصائص و بلاغة الخطاب العربي القديم كي يفهموا النصوص المقدسة من قرآن كريم و من أحاديث نبوية شريفة، ولا دخل للشعور بالعظمة، على الأقل في ظاهر أفعال العلماء الذين أثروا اللغة والثقافة العربيتين في جميع حقولها؛ دينية و لغوية و فقهية و فكرية و فلسفية و معمارية و طبية و فلكية. و كل ذلك خلاف ما يراه “بلاشير”.
أما عند ما يفتح “بلاشير” ملف النثر الفني وفق ما ساقته الأساليب و الألسن العربية على عهد عموم الإسلام فنحده لا يبتعد كثيرا عن منطلقاته الأيديولوجية السابقة، فهو على الرغم من أنه أقر بفضل اللسان العربي في إضفاء صفة اشراقية على الحكايات و القصص و الأساطير التي تروى شفاهة في العصر الجاهلي، حين دونت في كتب و في مصادر أبانت كثيرا عن نصاعتها الحدثي و الشخصي و الرمزي و الدلالي، غير أنه أصر على القول في هذا السياق: “..حفظت نماذج الفن الخطابي المعروفي في الماضي أو في عهدنا، كما هو متوقع، بدء من انتقال شفهي طويل الأمد تقريبا، فإن الجزء الأكير من النماذج المذكورة مزيفة..” “.
و حين نتمعن في ما كتبه، على ضوء هذه الفقرة، حول مسائل النثر الفني بجميع أجناسه؛ خطابة، وقصصا، و أساطير، نجده يلمح بشدة على أن الكثير من هذا الإنتاج الفني مشوه و غير سوي في مصاغاته الأسلوبية مما يشكك في مصداقيته و في مصادره، حين يقول: “..وقد جهد إخباريون عراقيون، في وقت مبكر، و بالتأكيد، منذ أوائل القرن الثاني للهجرة/التاسع الميلادي، في تثبيت نماذج من البلاغة و تجميعها، و يبدوا أن قسما مهما من هذا الأدب قد فقد…” “. البين و البارز إذن في هذه الفقرة هو الحكم على عدم مصداقية كل ما دون عن الأدب الفني المبدع على العهدين؛ الجاهلي و في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، و تلك مسألة خطيرة كونها تنفي أو تشكك في الجذور الأولى لنشأة الفن النثري العربي الذي ابتدأ مساره على عهد الرسول و الصحابة الكرام و الخلفاء الراشدين المشهود لهم بالفصاحة و بقوة الكلم في مختلف مساقاته؛ الخطبية و الرسائلية و الحجاجية.
و يزيد من قوة هذا الحكم قطعا في فقرته القائلة: “..إن مظهر هذه النصوص متغير جدا، فهي أحيانا، جمل أخاذة، أو نتف من خطبة موجزة، و حفظت، أحيانا كثيرة، خطب مطولة ركبت بفن و قدمت على أنها خطب مرتجلة، و تتراوح تلك النصوص، تبعا للحالات، بين التزييف الصرف البسيط، و مجموعات أعيد تركيبها كقطع فسيفساء انطلاقا من عناصر قد تكون قديمة..” “. مما لاشك فيه و أن قارئ مثل هذه الفقرات سيجد صعوبة في تشكيل معنى محدد و دقيق لمثل هذا الخطاب الذي تتراص فيه كلمات مثل “جمل أخاذة” و “خطبة موجزة” و “خطب مطولة” و “بين التزييف البسيط” و “مجموعات أعيد تركيبها….” جمل و كلمات لا منطق لساني بين يربط بينها حتى تؤتي معنى دقيقا و محددا، لأننا نعرف أن لا حصر ولا تحديد للخطبة بعدد الكلمات، فيكفيها فقط أن تكون وافية الدلالة مستوفية للمقصود من ملفوظاتها، ثم لم نقع على معنى دقيق لمعنى “التزييف البسيط” لأننا نعرف أن الخطاب الأدبي، في اصله و في حقيقته، مبني على الحجة و على الإقناع، و تلك مسائل قد تتطلب من الخطيب أن يلبس بلاغة خطبته شيئا من التزويق و الإبهار قصد الإقناع في مهمة لنقل المستمع من واقعه المادي إلى واقع آخر تخييلي مصطنع، كما أنه لا يوجد تزييف بسيط و تزييف مركب أو معقد، لأن المسألة كلها مرتبطة باستيفاء المعنى و المقصود من الخطاب. كما أن إعادة التركيب عمل يتعامل به الفن بصفة خاصة و الصناعة في عمومها.
ج ـ سماقة اللغة العربية:
و تحت هذا المحور قد يفهم من المدونة كلها، أن “بلاشير” خاضع منذ البدء في تقديم قراءة عن اللغة العربية تحت ظلال النص الأدبي في جنسيه؛ الشعري و النثري وفق أيديولوجية غربية تأبى أن يعلى عليها لغة و حضارة و عقيدة، و هي رؤية مشروعة لا نناقشه فيها، لأن الرجل يكتب من منطلق مهمة حضارية ينتصر فيها لهويته و لمرجعيته الغربية، بل أجده، في بعض الأحيان، قد أفادنا كثيرا في تشريحه لبعض الظواهر ذات الصلة بالأدب، و بالأخص تلك العلاقة التواجدية بين النص الأدبي و بين حواضنه؛ الاجتماعية و النفسانية التي غالبا ما أغفلتا من طرف المشتغلين على الحقل من علمائنا الأقدمين. مع الإشارة إلى أن هناك الكثير من المختصين العرب على عصورنا المتأخرة قد اشتغلوا على الكثير من هذه الحواضن و تأثيرها على الأديب و الأدب معا.
و لكن، ما يحسب على اللغة العربية و على قوة تأثيرها و مساهماتها في إثراء الثقافة الإنسانية العالمية على مر عصورها الذهبية، أن “بلاشير” كان ينزلق، بوعي أو بدونه، نحو تقديم الكثير من السياقات و التراكيب اللسانية التي ينضح منها تمجيد هذه اللغة و يستشف منها السماقة و الرفعة و المجد.
و قد يطول التدليل على ذلك مما يؤثر على صفة هذه الورقة في ملتقاكم الموقر، مما يفرض علي التمثيل لذلك بما يناسب الحال لإبراز كل ذلك، و عليه أجد بأن الفقرة التي تقول: “..إن الصفة الخارقة للعادة الغالبة على اللسان العربي القديم عند العرب، سواء كان مصدرها اللهجة المحلية أم تركيب بطئ صناعي، تكمن في أن هذا اللسان شائع أو مسموع ليس في المنطقة العربية المحدودة فحسب، بل حتى في بلاد الشام و بلاد ما وراء النهرين و بلاط الغسانيين و بلاط اللخميين في الحيرة، و هو مستعمل أيضا عند شعراء الحجاز” “، تبين ذلك الانتشار الواسع للغة العربية في مدة زمنية قياسية، و ما كان ليحدث لو لم تكن هذه اللغة ذات توسع في إمكانيات الاستعمال البليغ عما يجيش من نوازع داخل النفس البشرية و لو لم تكن سهلة التعلم و التمكن من قوانينها التعبيرية مما سهل على غير العرب تعلمها و استعمالها في مبتغياتهم اليومية.
و من خلال مختلف الصيغ و التعابير، نلاحظ أن هناك إعجابا مكبوتا باللغة العربية لدى “بلاشير” على الرغم من محاولاته الجادة في الإقلال من قوة هذه اللغة و من تساوقها و مماشاتها مع ما يجد من وقائع و أحداث يشترك فيها المسلم و غيره، و لعل قوله الصريح: “.. اللغة العربية الفصحى هي أيضا متولدة عن لهجة أعدت لتكون لغة أدبية مع وجود هذه الخاصية في أنها صارت في وقت مبكر لغة علم تجددت مرارا من اتصالها بحاجات جديدة…” ” أفصح من كل تصريح عن كل ذلك على الرغم من أنه جعلها “لهجة” متولدة عن اللهجات العربية المتعددة.
و يبدوا ذلك على الرغم من تأكيد “بلاشير” الدائم على أن “اللغة العربية هي عبارة عن لهجة من اللهجات العربية المنتشرة في الجزيرة العربية” قديما، قول يحمل و جهين يناقضان الفكرة السائدة في عقيدتنا نحن المسلمين؛ أولاهما أنه يريد أن يؤكد على أن هذه اللغة لم تتطور من تلقاء نفسها و بخصال من عرب الحجاز، و لكن هناك أفضال متعددة للهجات أخرى في شمال الجزيرة العربية خاصة و في جنوبها بنسبة أقل، كما أنه يريد أن يشير إلى أن هذه اللفة، على الرغم من أن القرآن نزل بها غير أنها لا تختلف عن أي لسان آخر صنعه البشر للتعبير عن حوائجهم و عن مقاصدهم و أغراضهم، و في ذلك نقد للفكرة القائلة لدى المسلمين بأن هناك تلازم بين اللغة العربية و بين القرآن الكريم، حتى أن البعض منهم بأن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة.
و لكن ما جعل مقولته ذات قوة في الإعجاب باللغة العربية المخفي داخل نفسه أجدها تكمن في رتل من التعابير مثل “وقت مبكر” و “لغة علم” و “اتصالها بحاجات جديدة”، و هي الصيغ التي تفيد على أن هناك قوة و ميزة لم تتوفر لأي لغة أخرى، غيرها، تجعلها تتحول بسرعة من لغة شعر قبلي جاهلي إلى لغة علم و من لغة خطاب بدوي ريفي جذوره متأصلة في الصحاري إلى لغة يقضي بها أناس الحواضر و التمدن و العصور الجديدة حاجاتهم الخطابية و أغراضهم في الاستعمال اليومي.
كما أننا نضع أيدينا على الكثير من صيغ هذا الإعجاب المكبوت لدى “بلاشير” عند حديثه عن الأدب في العصور الإسلامية، حيث نجده يعلي من شأن تجدد الصيغ و الخطابات الأدبية و تعددها ضمن ملفوظات اللسان العربي، مثل ما تبرزه الفقرة القائلة: “..إن انتصار الإسلام في شبه الجزيرة العربية ، و في العراق و في الشام قد جلب للأدب القصصي عنصرا جديدا فاق العناصر القديمة و لكن دون أن يقضي عليها..” “. فقرة صريحة إذن في تجدد الأدب العربي القديم من جنس الشعر إلى جنس القصص و الرواية، حتى و إن كان هذان الجنسان متصلين بموضوعات دينية متصلة بـ “الحديث النبوي الشريف” و بسيرة الرسول صلى الله عليه و سلم.
و لم تقتصر ملاحظة “بلاشير” على علو قدم كعب اللغة العربية و سماقتها فقط، بل نجده يشير إلى تجدد وعي الكاتب العربي أيضا تبعا لتغير الأساليب اللغوية التي أثر بها الإسلام على الفضاء الثقافي العربي، حيث نجده يقول: “..و إننا نكتشف، من خلال فصول التراجم في كتب الحديث، في الطريقة التي أوجدتها “السيرة النبوية” أو حياة محمد عليه الصلاة و السلام، علائم عما كان عليه حب الاستطلاع عند الأجيال الإسلامية الأولى تجاه محمد عليه الصلاة و السلام و صحابته..” “. إن التركيز على صيغة “حب الاستطلاع” لها دلالة قوية على تغير معطى مقصد مضمون البناء الأدبي و على معماره الخطابي و على التأثيث الأسلوبي لفواصل إنشائه لدى الأديب العربي الإسلامي، طبعا و ما كان كل ذلك ليحدث بمعزل عما اكتسبته اللغة العربية من ثراء و من سماقة.
و تجب الإشارة هنا إلى أن “بلاشير” عند معالجته لقضايا الأدب و الأدبية باللسان العربي في حال تطورهما و في وضع انتشارهما قد مال قليلا إلى جعل رسول الله محمد عليه الصلاة و السلام طرفا مهما في هذه المعادلة، و بخاصة في انتشار الخطاب الأدبي النثري حيث نجده يقول: “..و قد تغيرت الحال منذ استقر محمد عليه الصلاة و السلام في المدينة….و منذ ارتقائه إلى مصاف رئيس دولة آخذة في طور التوسع المستمر.. )حيث بات( التعطش إلى معرفة أحسن يشحذ الفضول، فأخذ الناس يسألون الرسول عليه الصلاة و السلام و صحابته يجيبونـ فارتسمت قي إطار استعادة الماضي لوحة كلها ظلال، بالإضافة إلى مشاهد مجسمة هنا و هناك يشعشعها وضوح مثالي…” “. و تلك مسألة مهمة جدا تضاف إلى خصال الرسول الأعظم؛ خصال بدأت دينية عقائدية و انتهت لسانية و خلقية و حضارية وفق ما ارتضاه الله لعباده.
و هناك الكثير من الفواصل و العديد من الصيغ التي تحدد معالم صرح شامخ للغة العربية من ابتدائيتها و عبر مسارها الحضاري التي اعتمدها “بلاشير” في مدونته، حيث اعتبر هذه اللغة لهجة من اللهجات العربية التي كانت منتشرة في الجزيرة العربية قبل الإسلام، و التي تبنتها منطقة الحجاز كلغة حين استفادت من مجموع اللهجات الأخرى و بخاصة منها الشمالية و الحبشية المشبعتان برشح العقيدة المسيحية و ببعض الملامسات للهجة الحميرية، ثم تأصلت هذه اللهجة و باتت لسانا عربيا للشعر العربي في فترة ما قبل الإسلام، ثم تتقوى بعد ذلك أيضا برسالة الرسول محمد عليه الصلاة و السلام.
و قد توقفنا عند بعض النتؤات لهذه الفواصل حسب ما تقتضيه حالة هذه الورقة زمنيا و موضوعا، مع التأكيد على أن عملنا هذا يعد قراءة تأويلية وفق رؤيتنا و حسب قناعاتنا لكل المسائل المثارة في هذه المدونة دون الإقلال مما جاء فيها أو إدعاء القول الفصل النهائي في ما صاغته من معالم أدبية أو فكرية أو لسانية، مما يبقيها قراءة جادة تثير في كل عربي مسلم كثيرا من الإلماحات و كثيرا من الفقرات التي يجب أن يعاد فيها النظر سلبا أو إيجابا بغية الإضافة في ما أبدع في و حول هذه اللغة التي على الرغم من مرور أربعة عشر قونا من الزمن نجدها ما زالت معطاءة فواحة بحدائق غناء من مشاتل الصياغات البلاغية الرائعة لم تحظ بها أي لغة أخرى دونها.
و ما دمنا في ملتقاكم الطيب هذا، الذي جعل اللغة العربية ورشة علمية يناقش فيها كل ما له علاقة بهذه اللغة حسب ما ارتأيت لحنته العلمية الموقرة، و تحت غوائل ما تتعرض له اللغة العربية في المدد الأخيرة، فإني أختم ورقتي هذه باقتراحات أراها مفيدة لنا جميعا، نحن مستعمليها، أما في ما يخصها هي كلغة في حد ذاتها فإني متأكد، مثل الكثيرين في هذا الحضور العلمي الكريم، بأنها ستبقى شامخة بفضل القرآن الكريم و بما بث فيها من نفس إعجازي لسانيا و موضوعا و بلاغة من طرف العلماء الخيرين للأمة الإسلامية و على مدى جميع فصولها الممتدة عبر الأزمنة، على الرغم من أنه يحز في نفسي و أنا أستمع إلى كلام الإخوة العرب في المشرق العربي، و بخاصة الخليجيين و في الشام، كلاما هجينا بعيدا عن اللغة العربية، و مما يؤسف له أكثر أن هؤلاء الإخوة العرب لهم قدرات مالية هائلة التي مكنتهم من إنشاء قنوات إعلامية قوية و كثيرة كان في مقدورها تقديم الوجه المشرف للغة العربية، لكننا نجد هذه القنوات تعلم مستعمليها لغات أجنبية و لهجات هجينة، و مما يؤسف له في هذا الحقل أن هذه القنوات يتابعها الملايين م المشاهدين و الأشد أسفا أن هذه القنوات وضعا خصيصا للأطفال.
و أبدأ بالتمني من ملتقاكم المبارك أن يضع توصية، حتى و إن كنت متأكدا بأنها لا تقبل ولا تطبق من الجهات الرسمية عبر مختلف المؤسسات العربية، تتمثل في استبدال مصطلح “اللغة العربية” بـ :اللسان العربي”، لأن جلال علمكم يعرف بأن الجذر الأصلي لهذا المصطلح هو “لغو” أي من مصدر “اللغو” مثل ما جاء في القرآن الكريم وهو يصف حالة المسلم و وضعه في جنة النعيم: “..لا لغو فيها ولا تأثيم…” و قوله جل و علا: “..لا تسمع فيها لاغية…”، وقوله سبحانه العلي العظيم” ..و هذا كتاب مصدق لسانا عربيا لتنذر الذين ظلموا و بشرى للمحسنين..” ” مما يفيد بأن تعبير “لغة” ربما، والله أعلم، يبعث على عدم الاطمئنان النفسي و الدلالي و على عدم التقدير بالآلية و بالوسيلة التي صيغ فيها و بها كلام الله جل وعلا، و قد يفيد نوعا من العبثية و من عدم النفع، و مهما جمعنا من معان لهذا الجذر فإننا نجده يحمل كثيرا من سوءات الحال و من منغصات الوضع، و هي معاني و دلالات بعيدة عن العمق الدلالي للغة العربية و عن شرف حملها لأجل و أسمى خطاب “القرآن الكريم”، كل ذلك زيادة على أن هيمنة هذا المصطلح وجدته تكريسا لهيمنة الأفكار و المناهج الغربية على تعاملاتنا المصطلحية، و ذلك لأن جمعكم الموقر يعرف بأن أصل التعامل مع هذا المصطلح منهجيا و أكاديميا جاء من “فرديناند دي سوسير”.
أما الأمل الرابع فأجده ينسجم مع ما توقف عنده كثيرا “بلاشير” في كتابه و ما اعتبره عاملا إيجابيا جدا في تطوير و تطور اللسان العربي، ألا وهو إدماج اللسان العربي في تعاملتنا اليومية قدر المستطاع، و دعونا نبدأ من المدرسة التي نجد مناهجنا التربوية حول “اللسان العربي” تركز على القواعد النحوية و الصرفية بصفة ملفتة للنظر، مما يزرع شيئا من التقزز و الجمود و الشعور بصعوبة هذا اللسان لدى الأطفال و التلاميذ، بل و حتى الكبار في مؤسسات محو الأمية.و أعتقد أن تجنب ذلك واجب و ضروري بتقديم نصوص أدبية ذات حمولة جمالية و خفيفة في نسقها اللساني و حلوة في مخارج حروفها حتى ينسجم كل ذلك مع تلهف المتعلم على تلمس مواطن الجمال و الخفة و حسن الذوق مما يدفعه إلى حفظ كلمات و تعابير لسانية من تلقاء التجاذب النفسي إلى مدلولاتها بعيدا عن منغصات النحو و الصرف و سطوة الحفظ التي أصبحت لا تجدي شيئا في عالمنا.
و مساندة لهذا الطرح البيداغوجي أتمنى من أصحاب المال الذين يعنيهم شأن اللغة العربية في الجزائر و في الوطن العربي أن ينتجوا حصصا و برامج و أفلاما سينمائية و تلفزيونية للنشأ و للشباب محملة بموضوعات تعالج قضاياهم اليومية بلسان عربي جميل، مع الإشارة إلى أن فلذات أكبادنا لهم قابلية عجيبة لتقبل هذه الأعمال و الحصص، بدل تقديم حصص أجنبية مدبلجة لا تسمع فيها ألا كلمات و تعابير لا تتماشى مع معيشنا و مع وضعنا بكل الأحوال شكلا ولا موضوعا. و حين أقول ذلك فإننا نعلم جميعا بأن اللسان لا تعلمه المؤسسات التربوية وحدها بل تنشئه و تطورها و تقدمه مؤسسات أخرى مثل الصناعات بجميل تخصصاتها و الإعلام بجميع تفرعاته و تقاسم المنافع عن طريق التحاور و قضاء المآرب النفسية والاجتماعية في عمومها.
و في هذا الشأن لا أريد أن أختم هذه الورقة دون الإشادة و شد اليد على مؤسسة “المجلس الأعلى للغة العربية” التي أنشأتها الدولة الجزائرية بغية الحفاظ على هذا اللسان و على دمجه في الوسطين الاجتماعي و الاقتصادي و الأدبي و الفكري و الحضاري. و قد ساهمت هذه المؤسسة، منذ إنشائها، بقسط وافر من المنشورات التي تساهم في تدعيم اللغة العربية لدى المؤسسات و بين الأفراد، و قد تجلت تلك المساهمات في ما تنشره من مخطوطات لتقوية هذه اللغة، و أقصد هنا مجلتها العلمية و كثير من المدونات التي وجدتها مفيدة في دراسة الأدب الجزائري مثل مدونة ” في أصول بلاد البربر ـ ماسينيسا ـ أو بدايات التاريخ” للكاتب “غبريال كامبيس” و الذي ترجمه إلى العربية و حققه الدكتور “العربي عقون” و قد نشره المجلس سنة 2010.، وبنفس القيمة و الفائدة وجدت مدونة “الأدب الأمازيغي في الجنوب الجزائري؛ أعلامه و قضاياه الفنية و الموضوعية” و هي عبارة عن طبع لأعمال ملتقى وطني أقيم في ولاية “غرداية”، و قد تألفت هذه المدونة من ثلاثة أجزاء نشرت سنة 2018. و كان يمكن أن يكون لهذا المجلس قوة و فعالية أكثر لو وجد مساندة و تدعيما من جميع المؤسسات الوطنية الفاعلة في جميع مكونات المجتمع.
كما، و بها أختم، لا يسعني إلا أن أقدم التحية و الإجلال و التقدير للهيئتين التي أشرت في ناصية هذه الورقة على تنظيمهما هذا المجمع العلمي و للجنته العلمية الموقرة التي وجدتها قد وضعت الدواء على الداء في ما شرحته من إشكالية و في ما ابتغت له من محاور، و أنا على يقين من أن مجمعا هذه مواصفاته و خصاله لابد و أن يبلغ شأوا و قدرا كبيرين من المصداقية و الفعالية في الزيادة من الحفاظ و في تدعيم “اللسان العربي” و المغالبة به لفلول الروافد التكنولوجية العالمية التي أصبحت واقعا لا مفر منه.