لم تطأ قدمه “البريد بنك” منذ مدة طويلة؛ هو يكره الذهاب إليه من الأساس لكنه اضطر للقيام بذلك هذه المرة نظرا لوجود غرض مهم وجب عليه أن يقضيه.. بعد أدائه لِصَلَاتَيْ الفجر والصبح خرج مروان من منزله مبكرا كي يكون أول الحاضرين وكي يتمكن من قضاء غرضه الذي جاء من أجله ثم يتوجه لقضاء أغراض ومشاغل أخرى في انتظاره، لكن هيهات هيهات أن يحصل ما فَكَّرَ فيه؛ فكما يقول المثل: “لي فراس الجّْملْ فراس الجّْمالة”؛ إذ فور وصوله وجد مجموعة من الأشخاص هناك ينتظرون قدوم الحارس كي يوزّعَ عليهم ورقة للشخص الواحد تتضمن عددا معينا حسب من قدم الأول ومن قدم الثاني؛ فمثلا من قَدِمَ الأول يحصل على ورقة تحمل رقم واحد، ومن قدم الثاني يحصل على ورقة تحمل رقم اثنان وهكذا.. وقد حصل هو على ورقة تحمل الرقم 24؛ لذلك كان عليه أن ينتظر أكثر مما اعتقد.. رغم أنه لم يتقبل الأمر وذلك لأن استيقاظه باكرا وخروجه من المنزل حتى قبل أن تشرق شمس ذلك اليوم أضحى بلا جدوى..فقد خرج مستعجلا وحتى قميصه فقد ارتداه بشكل مقلوب لولا فطنة زوجته التي نبهته لذلك..
استسلم لأمر الواقع في النهاية وأدرك أنه عليه أن ينتظر ولا شيء غير ذلك.. كان ثمّة أشخاص يأتون ويدخلون لقضاء حاجاتهم الشخصية(وليس المهنية) دون الحاجة للورقة وكأنهم معصومون منها! وأغلبية هؤلاء كانوا ممن يرتدون “اللباس المخزني” وكأنهم فوق القانون، ولم يقتصر الأمر على هؤلاء فقط، بل كان هنالك أشخاصٌ من عامة الناس يتحجّجون بأمور واهية كي ينالوا استعطاف النّاس ويتمكنوا من قضاء حوائجهم دون أي تأخرٍ يُذكر؛ الشيء الذي أثار غضب مروان وجعله يصيح مردّدًا: ” اللعنة، وكأننا خُلِقنا في هذه البلاد السعيدة لننتظر” مُرْدِفًا: لقد صدقت الكاتبة المغربية الزهرة رميج، حين قالت في روايتها المعنونة ب “قاعة الانتظار” على لسان البطل: << لماذا نُعاني في هذه البِلاد السعيدة من آفة الانتظار الدائم؟ أينما وليتَ وجهك، تجِد الانتظار في انتظارك!>>. ونظرا لأنه البريد الوحيد الموجود في مدينته اضطر مروان لأن ينتظر ويزيد من سعة صدره ويُهدِّئ من غضبه.. انتظر لدرجة لم تعد تطاق، كيف لا؟ وهو الذي خرج من منزله دون أن يتناول وجبة الفطور حتى.. وها هي معدته ترسل إشارات إلى عقله الذي كاد أن يتزحزح من مكانه من فرط الانتظار.. يئس من الانتظار فأطلق العنان لمخيلته الصغيرة فخطرت بباله فكرة.. غادر البريد على عجل وغاب لبعض الوقت ثم عاد لكن بهيئة أخرى؛ فقد قام بحلق لحيته واستبدل ملابسه التي كان يرتديها بأخرى قديمة ورثة..كما أنه استعار كرسيا لذوي الاحتياجات الخاصة كان قد اشتراه لأمه بعد أن لاحظ أنها قد بلغت من العمر عتيا، وأنها لم تعُد تقوى على المشي!.. وفور وصوله لاحظ استعطاف الناس وكيف أنهم سمحوا له بالدخول دون تردد أو معارضة ظنا منهم أنه من ذوي الاحتياجات الخاصة بالفعل!.. دلف إلى الداخل وقد رسم على وجهه ابتسامة خفيفة لها تأويلات عدة! وبعد مرور دقائق معدودة كان مروان قد انتهى فعلا من قضاء غرضه فغادر البريد وهو ينظر هنا وهناك وكأن لسان حاله يقول “والله ايْلَا الْحيلة احْسن من العارْ، ماكذبوش!”