خرجت من المنزل وتوجهت إلى المصعد، انفتح المصعد فركبت إلى جانب عجوز نازلة من الطابق الأخير حيث تسكن. عجوز رشيقة القامة، وسيمة الوجه، أنيقة الملبس. ما سلم من شر عينيها من صبح عليها. بسبب ذلك صارت كل نساء العمارة يتشاءمن من لقائها. فأل شر غدت، بالنسبة إليهن، بل شبح روح شريرة سيظل يلاحق كل من التقتها ولا يستسلم حتى يوقعها في مصيبة.
تقززت كثيرا واضعة في حسباني أن اليوم لن يمر دون حادثة. آه! لو كنت أعلم أني سألتقيها لأجلت الخروج بنصف ساعة، ولألغيته حتى.
أحسست بامتعاض ورغبة شديدة في الفرار، تعبس داخلي، لكنني حافظت على طلاقة وجهي. وبإيعاز من سني، فهي في سن جدتي، ابتسمت متصنعة وفاتحتها قائلة: صباح الخير. رغما عني فاتحتها، ولو لم أفعل، فستكلمني وستسألني عن نفسي، أبنائي، أمي… تسأل عن الكل. فهي كثيرة الكلام ولا حدود لأسئلتها.
ردت تحيتي بتحية أطول منها، وختمت بالدعاء لي، دعاء وخز رأسي كأنه إبر. ألزمتها انحناءة رأسي الصمت. جابت مخيلتي سريعا كل الحوادث الأليمة التي كان سوء عينيها سببا في حدوثها، فازداد توجسي واشمئزازي، كما ازداد استعدادي لاستقبال شر لا محال آت. جاء سؤالها جارا إياي من عمق توجسي:
– ما رأيك في جلبابي الجديد؟ تابعت وهي تشير إلى جلبابها: لقد تسلمته أمس من الخياطة.
أجبتها باقتضاب:
– جميل.
– ماذا عن لونه؟ هل واتاني؟
– نعم.
– لقد خطته عند خياطة معروفة بالإتقان، أما جواد، خياط الحي، فمنذ ان أفسد جلباب بنتي قررت أن أوقف تعاملي معه.
انتظرت تعقيبي الذي ما أتى، فأخبرتني عن قرب رحيلها عن عمارتنا، فتأسفت على ذلك راسمة حسرة كاذبة على محياي، ودواخلي تشتعل فرحا. قلت في نفسي: وأخيرا ستغادرنا نذير الشؤم.
بباب السوق افترقنا، ولجت السوق مشتتة الذهن، ممزقة الأفكار، أنتظر الوقوع في مكروه. كل خطوة أخطوها أنتظر التواء كاحلي، سقوطي، انخفاض ضغطي، غياب الوعي عني، حادثة سير…
تتراءى لي نفسي مستلقية في سيارة الإسعاف، وأحيانا بين أطباء في قاعة الإنعاش. استذكرت حديث النساء عن السحر، العين، لاسيما عينها الشريرة، فحضرني يوم التقتني بباب العمارة فأبدت إعجابها بفستاني الذي ما إن أخذت أكويه حتى احترق…
اشتريت بعضا مما جئت من أجله، فقط ما بقي عالقا في ذهني الشارد بين دروب المصائب، وعدت أتلمس موقع النازلة. دخلت المنزل دون طارئ، لكن البلبلة ما تزال ناشبة في رأسي.
وأنا بالمطبخ أعد الغذاء باحتياط كبير. حركات السكين على البطاطس يعتريها التخضخض. كأن السكين يمر من فوق ظهر محدودب. بعد كل جرة يتوقف، وإبهامي متراجع إلى الوراء، أما باقي الأصابع ترقص ارتعاشا من سكين أعياه التردد، أكملت تقشير البطاطس، وقررت أن أكمل تقطيع باقي الخضار على لوحة تلافيا لجرح ينزف في مخيلتي ألما. وضعت القدر بتأن على النار، وتراجعت خوفا منها. رن الهاتف، فهرعت إليه متوقعة أن يزف إلي سوءا، تمنيت لو يكون خفيفا، رفعت السماعة بيد ترتجف، وأجبت بصوت منفصل الحروف:
– آ. ل و.
رد زوجي:
– أود أن أخبرك..
قاطعته مستعجلة مصيبة:
– ماذا وقع؟! أخبرني!!
تأخر صوته بسبب ضعف التغطية، فعصفت بمخيلتي احتمالات كثيرة. وأنا أقول: آلو! آلو!… عاد صوته:
– لن آتي للغذاء..
خطفت منه الكلام:
– لماذا؟! ما بك؟!
– لا شيء، لدي عمل كثير، فمساعدي مريض. سأتمم العمل ثم أعود.
ختم سائلا إياي:
– مرتعبة أنت. ما بك؟! وما سبب ارتجاج صوتك؟
كاد لساني ينزلق فأورط نفسي في محاضرة ساخرة تبتدئ بالتشاؤم وتنتهي بذم سنوات دراستي الجامعية للمنطق، لكنني ألجمته متكتمة عما يخض كياني. أعرف أنه لا يؤمن بذلك معتبرا إياه هلاوس نسائية تقررت نتيجة لتكرارها في كل المهاترات، فصارت غولا يرعب ذوات القلوب الرهيفة. تنحنحت لأغطي عن العطب الذي ألم بصوتي، ثم قلت:
– لا شيء، ربما ضعف التغطية هو السبب.
تمنيت له القدوم سالما، فوضعت السماعة بيد مرتخية، أحدث اصطدامها مع الجهاز صوتا قويا. قفزت فصعدت شهقة من قاع التوجس. كانت كل أعضائي ترتعش، وجبيني ينز ندى باردا. مسحت جبيني وعدت أطل على داخلي فوجدته يغلي أسئلة: لماذا لم أخبره بهواجسي؟ ماذا تكتمت عن ما يؤلمني؟ أتراه خوف من عتابه أم ضعف أنثوي؟!…
لقد أربكت الخيالات جسدي وأرخت كل أعصابي. قصدت أريكة بالبهو، وإحدى مقولات زوجي – في هكذا مقام – تنهش ذاكراتي: جسمنا معد لما أعددناه عليه، إن رميناه بالإيجاب استجاب قوة، وإن سلبا سلبناه إياها.
في المساء، تأخرت الحافلة التي تقل ابني من المدرسة فساورتني أوهام كثيرة. حاولت أن أتخلص منها لأنتزع نفسي من صور مرعبة جثمت على مخي، لكنني لم أستطع، تمنيت لو كانت على ورق بين يدي لمزقتها إربا إربا لأريح نفسي.
توقفت الحافلة فأعادت إلي روحي، عانقت ولدي بحرارة كأنهما عادا من الموت. أمسكت كل منهما بيد، تلفتّ إلى يساري ثم إلى يميني، أعدت الكرة مرتين، ثم عبرت الطريق بسرعة وأنا أجرهما.
في الطريق، قررت أن أتخلى عن المصعد، فقد سوست لي نفسي بأن الطارئ في المصعد ينتظرني: سيتعطل وسأبقى محبوسة هناك، قد ينقطع الكهرباء… أو قد أجد به العجوز … بباب العمارة، اشتكاه ابني الأكبر فازداد كرهي له:
– إني أحس روحي تضيق كلما ركبته.
رد الأصغر:
– أنه يجنبنا عناء هذه الخطوات التي لا تريد أن تنتهي.
رددت:
– ألم تعد تحب الرياضة؟
– أأمارس الرياضة كرها؟
تبسمت، وأنا أبحث عن جواب شاف. تأخر جوابي فأنقذني ابني الأكبر مازحا:
– لن تحتاج لملابس رياضية، ولا تستدعي منك تخصيص وقت حتى.
دخلنا المنزل والتوجس ما زال يطبخ جسدي على ناره الهادئة، بدا لي المنزل موحشا مليئا بالكمائن. على غير عادتي، دعوت ابني للجلوس بجانبي عوضا عن مطالبتهما بإنجاز الواجبات. جلست وسطهما والخيالات تمر من أمام عيني.
عاد زوجي فزالت غمة صدري، منشرحة أخذت أسأله عن أحداث يومه وعيني تتفحصه. قمت لتحضر العشاء، وما إن دخلت المطبخ حتى أحسست ببقايا الخوف تقيد حركاتي، وأنا أحاول كنس غبار الخوف المتراكم في جمجمتي، اخترقت الجدار الرقيق للمطبخ موسيقى التابوت فتحرك شراع الرعب في دواخلي فصارت أمواج الفزع تتلاعب بزورقي. ارتفع صوت
الموسيقى قليلا، فارتفع قلقي. ضاق علي المطبخ فأحسست بشيء يعتصر صدري. وضعت الآنية التي كانت بين يدي، وجلست ريثما أتمالك ناصية أمري، انخفض صوت الموسيقى تدريجيا حتى تلاشى، فقمت منثنية ووقفت أمام الثلاجة، جررت الباب جهة صدري وأخذت أتأمل ما بها، ظل فكري التائه غير قادر على لملمة مقادير أي وجبة، فاكتفيت بتسخين ما جادت به الثلاجة.
بقيت أتقلب بجانب زوجي الذي ركب سفينة النوم منذ ساعتين، محاولة جلب النعاس لجفني وفي أقرب وقت حتى أفر من المخاوف التي ظلت تلاحقني، لكنه تمنع تاركا عيني ترمش في ظلام حالك. أغمضت عيني لأخطب ود النوم. أحسست كأن السرير بحر يجذبني إلى أعماقه، وأنا أكاد أغرق، جلست، فبدأ رأسي يغلي بالأسئلة: مماذا أخاف؟ ولماذا أخاف؟ أمن الموت؟! الموت لا محال آت. أن أموت في بيتي وعلى سريري، وأنا مستقبلة القبلة نعمة ما بعدها نعمة. سكنت لبرهة، ثم استطردت: لا حذر مع القدر. حينها شعرت بالطمأنينة تراوح جسدي، والأحاسيس الغريبة تنسل برفق والراحة تشغل مكانها، أما النوم فدفع جفني العلوي ليعانق أخاه.