الهاتف لا يتوقف عن الرنين. رفعت هناء السماعة.
ـ صباح الخير، خالتي عائشة.
عرفتها من الصوت، ثم أضافت بغبطة، قبل أن تسألها :
ـ أمي وضعت مولودا صبيا.
زغردت الخالة في الهاتف، وتابعت :
ـ مبروك يا بنتي هناء، أصبح لك أخ، يشد عضدك ويحميك. كيف حال أختي زهرة ؟ هل المولود في صحة جيدة ؟ سنُنهي بعض الأشغال، ويعود الأطفال من المدرسة، ونأتي لزيارتكم.
كانت زهرة قد وضعت ولدها البكر هذا الصباح، مع انبثاق الخيوط الأولى للشمس.
زوجها حبيب كاد يطير من الفرح. أخيرا استجاب الله لدعواته، ورزقه بولي العهد. الذي سيحمل دمه، ويحافظ على سلالته. مادام قد ازداد مع طلوع النهار، ويوم الخميس، فقد ذبحت الأسرة خروفا كبيرا، واحتفت به، وسمّته خميسا، تيمُّنا بهذا اليوم المبارك.
استغرب الناس في البيت كيف بدأ الأطفال يكبرون بسرعة ؟! تخلّصوا من الحفّاظات، وبلغوا الفطام، فرموا الرضاعة، وخرجوا يلعبون في الزقاق.
حمل خميس حقيبته، وذهب إلى المدرسة. تعلّم وحصل على الشهادات، وعثر على عمل، واشترى شقة وتزوج. حدث كل ذلك في النصف الأول من يوم الميلاد.
ثم بدأت تتوالى المشاكل. الأسعار ترتفع، والأجر ثابت لا يتحرك. يقولون في التلفزيون بأن تحرير الأسعار، يسمح للاقتصاد بالنمو، ويوفر فرص الشغل، ويرفع من مستوى المعيشة، ويتقدم المجتمع. لكن لاشيء من ذلك يحدث. ذهبت حكومات، وجاءت حكومات. صلى وصام واستغفر، لكن الأسعار ظلت ترتفع أكثر، والوضع يزداد سوءا.
رأى الباعة المتجولين يُغطّون الأحياء والشوارع، مثل أسراب الجراد. والهواتف النقالة، والأقراص المهلوسة، تغزو أبواب المدارس. والعمال يتسمّرون في الموقف حتى منتصف النهار، ويعودون إلى بيوتهم خائبين. وشاهد بأم عينه، النساء من كل الأعمار، وهنّ يستعرضن أجسادهن بالملابس الداخلية، في الصور والفيديوهات، كما لو أنهن سيدخلن إلى الحمام. ورأى خلسة عيون الذكور، والفقهاء، والرواة تتلصّص عليهن أيضا، حتى تكاد تقتحم الشاشات. وعندما فطنوا إلى وجوده، احمرّ وجه البعض، ومسحَ البعض لحيته، كأنه انتهى من تناول وجبة الكسكس، وتظاهر بلعن الشيطان، وقال مقطّبا حاجبيه :
ـ اللهم إن هذا منكر، لعنة الله عليهن إلى يوم الدين.
يفعلون مثل القطط، عندما تفشل في الوصول إلى الرئة، تقول بأنّها نَتِنَة.
رُزق بالبنت الأولى في الظهر، سماها شمس، فارتفعت الأسعار، وازداد المولود الثاني في العصر، سماه زُهر، فارتفعت الأسعار أيضا، والراتب ثابت لا يتزحزح.
تُوفي والداه، وارتفعت الأسعار. شاخ خميس، وتعب وتقوّس ظهره، وارتفعت الأسعار. اضطرّ لاستعمال عكاز، يستعين به على الوقوف، والسير إلى المسجد.
كأن كل شيء حدث في يوم واحد. سأل نفسه، والشمس تميل نحو المغيب :
ـ ها أنت تنظر إلى وجهك في المرآة يا خميس، وقد حفرت فيه الحياة كل هذه التجاعيد ! وماذا بعد ؟ كم ضحكت ؟ وكم بكيت ؟ كم صرخت ؟ وكم سكتّ ؟ هل تغير الحال ؟ هل عشت حقا كما أحببت ؟ أم أنك سرت في الطريق المرسوم، والبندقية في الرأس، تزرع الخوف في القلب، وتُهدّد الحلم الذي تفكر فيه ؟
بعد ذلك رفع عينيه إلى السقف وأضاف :
ـ يا أ الله رفقا بعبادك، فهل من العدل أن نُقيمَ في الجحيم مرتين ؟!؟
مراكش 03 مارس 2021