كثيرة هي الكتب التي تقدم الفلسفة، كتب ضخمة وأخرى متوسطة أو في شكل كتيبات، بين الأكاديمية التي تتوجه إلى قارئ متخصص وتلك التي تحاول أن تأتي وسطا أو أخرى تحاول أن تشمل أكبر فئة من القراء، أيضا منها المبتذل الذي يصل حد الإسفاف والامتهان بدعوى التبسيط والنزول إلى أكثر القراء تواضعا، وهو عذر فاسد لأن المطلوب من كتب كهذه أن تبرع في تقديم الفلسفة -بما هي فلسفة من المفروض أن ترقى بوعي القارئ وعقله- وغيرها دون أن تسقط في فخ إعطاء فكرة خاطئة أو إفساد حقيقة المطلوب.
إن القارئ العادي وهو يبحث عن معنى الفلسفة ومفهومها بالتأكيد في حاجة إلى كتاب فريد قادر على إبداع إمكانية لتوريطه في مسار يجعله في نفس الوقت يطلع على تشكل الفكر الفلسفي تاريخيا مع تحيين ذلك التشكل وربطه بحاجة القارئ إلى إعادة إنتاجه أو التفكير على غرار بمراعاة وضعه وموقعه وإلا فإن الأمر يتعلق بمعلومات وأفكار بيننا وبينها هوة، لا تعنينا ولا نشعر بأي دافع للتفكير فيها ومعها مجددا بهدف الفهم الذاتي والانخراط الطوعي لممارسة متعة التفلسف. فهل يمكن حقا إنجاز عمل كهذا يستطيع أن ينقذ المتلهف إلى التعرف على الفلسفة من خطورة العزوف وتشكيل أحكام مسبقة بسبب الملل أو الضجر من الأساليب الجامدة والمحاولات المنقطعة عن هواجس المتلقي ووساوسه ورغباته؟
لا يمكن أن ننكر وجود مؤلفات بذلت مجهودا محمودا في تقريب الفلسفة والتفلسف من الناس الذي يقرأون ويحبون اكتشاف القراءة في موضوعات فلسفية، لكن لا يتسع المجال هنا لذكر بعضها ورصد أساليبها، بقدر ما يهدف هذا المقال إلى رؤية شاملة للطريقة المتوجب اتباعها لجعل الفلسفة في متناول المتلقي العادي، إن الأفكار الفلسفية ليست أفكارا متفقا عليها كحقائق علمية تخضع لمنطق الصواب والخطأ والتصحيح ولكنها ذات طبيعة مغايرة؛ إنها رؤية خاصة لها منطقها ووجاهتها ويمكن معارضتها والاختلاف معها دون أن تفقد حيويتها وقوة حججها لأنها من جهة تتناول موضوعات لا تقبل الحسم كالقضايا الوجودية والمصيرية للإنسان، ومن جهة تقوم على بناءات عقلية وحجاجية، ولهذا كله فإن الطريقة الأنسب لتقديمها للقارئ هو تعليمه كيف يتمثلها بشكل متمفصل؛ وضع سياقها بعين الاعتبار من جهة وتحيينها بما يناسب لحظة القراءة وخلق الحاجة إليها من بعث الدافع إلى التفلسف بغرض فهم لحظة الحاضر ومشكلاته من روح الماضي كمفتاح وأصل دائم مستمر الحضور ، هذا الاجتهاد وحده يمكن أن يقدم الفلسفة كتفلسف وتفكير دون التفريط في الأفكار الفلسفية وبنائها التاريخي وتشكلها العقلي في الآن نفسه.
إن المطلوب بهذا المعنى من الكتاب الفلسفي الذي يروم جلب اهتمام القارئ خاصة العادي غير المتخصص، هو جعله يتورط في عملية التفلسف فيعمد إلى استحضار الأفكار الفلسفية للتفكير في لحظته ووضعه وعالمه، ويتطلب هذا عملا خطيرا وكبيرا يتمثل في القدرة على إغراء شخص يعيش ولنتحدث عن زمننا في عالم استهلاكي يتحدث لغة منفعية ضيقة أفرغت الناس من جدوى القيم وملأتهم بدل ذلك بالتهافت على كل ما هو حسي مادي يقدم متعة لذية ملموسة وآنية.
تكمن خطورة الأمر في احتمال إحداث سوء فهم لدى القارئ، فيعتقد أن تقريب الأفكار من عالمه تشكل تهديدا لمعتقداته وتسعى إلى تخريب ما يؤمن به، كما تدفعه إلى المعاناة والألم من خلال ضرورة إعادة التفكير في تكوينه العقلي والفكري ، وتتجلى الصعوبة والعسر في إيجاد الطريقة المناسبة لإخراجه من الدائرة التي يعتقد هذا الشخص أنها وسيلته الوحيدة لمواجهة مشكلاته وأسئلته وحاجياته وأن أجوبتها كافية شافية، بينما هو في حالة انغلاق تنضاف إليها شروط العالم الحالي المندفع تجاه تَتْفيهِ غايات الإنسان وتبخيس التفكير في مقابل تمجيد البلادة والبحث عن الرغبات الحسية اللحظية العابرة واللامنتهية..