(بومالن دادس) قرية جميلة ، تقع بين أحضان مرتفعات جبل (صاغرو) وجبال (كنيوان). تبعد عن قلعة مكونة بعشرين كيلومترا. الحي الإداري الذي تتواجد به الثانوية الوحيدة يوجد في أعلى الهضبة.
كانت المنطقة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي تفتقر لأبسط شروط الحياة مثل الكهرباء والماء الصالح للشرب، رغم تواجد ثانوية تأهيلية بها. حدث مرة أن حلقت ذقني باستعمال قنينة ماء سيدي حرازم في يوم تزامن مع عيد موسم الورود بقلعة مكونة. وزارة الفلاحة كانت تزود موظفيها بماء يمتزج بحمرة التراب. أغلب الظن أنها كانت تجلبه من الوادي، يخصصونه لغسل الملابس والأواني وتنظيف البيت. العربة ذات الصهريج الأحمر تمر مرة كل ثلاثة أيام أو أربعة. تدخل لنا بعض الموظفين الذين يسكنون بالجوار لدى سائق العربة لنستفيد مثلهم من حصة الماء. وإذا لم تصادفك العربة في البيت عليك انتظار المرة القادمة. أحيانا ينزل رجال التعليم والمجندون في الخدمة العسكرية يوم الأحد إلى الوادي لغسل ملابسهم، فتتغامز وتضحك عليهم نساء المنطقة.
سكنت أكثر من سنة في حي أطلقت عليه اسم مخيم تل الزعتر. مخيم الحي الإداري أغلب سكانه من التلاميذ. يتكدسون بالعشرات في منزل واحد لم يكتمل بناؤه بعد. فقر مدقع يظهر على ملامح هؤلاء الأطفال والشباب القادمين من الدواوير البعيدة عن المركز لمتابعة دراستهم الإعدادية والثانوية. القسم الداخلي بالثانوية لا يستطيع استيعاب هذا العدد الكبير من التلاميذ الذين يسكنون بالهامش الشمالي للحي الإداري.
الجماعة أو القيادة كانت تزود مركز بومالن بالكهرباء لمدة ساعتين حتى ثلاث ساعات في فترات متباعدة قد لا تتعدى 30 يوما في السنة. انقطاع التيار الكهربائي قد يطول شهورا بدعوى عدم توفر الجماعة أو القيادة على الموارد المالية الكافية لتشغيل المولد الكهربائي رغم مساهمة السكان الشهرية. أحيانا ينسى الناس أن المنطقة تتوفر على مولد كهرباء حتى يحل أحد الأعياد الوطنية الرسمية خاصة عيد العرش. لجأت القيادة أو الجماعة إلى قطع التيار الكهربائي عن مجموعة من الأحياء من بينها الحي الذي أسكن به بدعوى عدم الاشتراك. في ذلك الوقت كانت القيادة هي صاحبة القرار أما الجماعة فمجرد أداة تُنفذ ما يُملى عليها. كان بعض السكان يتوفرون على وصولات المشاركة في الكهرباء، ولم يكن من حق الجماعة أو القيادة قطع الكهرباء عنهم. اشتريت رفقة أصدقائي خيطا كهربائيا بطول حوالي خمسين مترا وكنا نتناوب على ربطه بعمود الكهرباء ساعتين أو ثلاث، ثم نجمعه خوفا من أن يصادره (حماد) الكهربائي المكلف من طرف الجماعة أو القيادة بربط المنازل بشبكة الكهرباء أو إصلاحها. تعود التلاميذ من سكان الحي سرقة الكهرباء من فوق سطح المنزل. لم نمنعهم إلا في حالات نادرة عندما يتسبب البعض منهم في حدوث تماس كهربائي. أكثر من خمسين أو ستين منزلا كانت تسطو على الكهرباء من المنزل الذي أقطننه.
سكان القرية يحترمون رجال التعليم. حتى بداية الثمانينات لا زالت قيم المغرب القديم سائدة في المنطقة. الرجل هو الكلمة. كن رجلا بهذا المعنى لن ينقصك شيء. وجدت سهولة في احترام هذه الخصوصية لأنها كانت جزءا من البيئة التي تربيت فيها. هذا ما جعلني أشبه نفسي بملك صغير. لا أملك شيئا، ولا ينقصني شيء.
الأسر تعيش ضمن عشائر كبرى تحت سقف واحد. الشيوخ كبار السن هم من يدير شؤون هذه الأسر. بعض البيوت يفوق عدد سكانها مائة وستين نسمة. تمويل العشائر يعتمد على اليد العاملة المهاجرة إلى بلجيكا وهولاندا وفرنسا. المنطقة تعتمد الرعي والتجارة والزراعة.
إقبال الناس على تعليم أبنائهم في منطقة نائية ومنسية يثير استغراب الملاحظين. لكن بعد التروي تكتشف أن المهاجرين إلى أوروبا يتركون أبناءهم وزوجاتهم مع العشيرة التي تتلقى تعويضا شهريا عن كل ابن كان يفوق آنذاك أجرة أستاذ من السلك الثاني. أما العامل الثاني فبعض أبناء القرية والمناطق المجاورة لها حصلوا على الباكالوريا، وانتقلوا إلى الدراسة بالرباط أو فاس وفيما بعد بمراكش. تمكنوا من حيازة شواهد عالية أهلتهم للانتقال للعيش بهذه المدن، فتحول التعليم بالمنطقة في تلك الفترة إلى ما يشبه جواز سفر للخروج من وضع هش، يسيطر عليه التهميش والفقر، ويرزح تحت تقاليد العشيرة، ويخضع لأعرافها، إلى الانتقال إلى وسط جديد تتوفر فيه الشروط الدنيا للتمدن .
مراكش في 25 نونبر 2017