” نعيش أعلى مراحل التواصل الاجتماعي دون تواصل حقيقي، فالفرد المعاصر… إنساناً مكتفياً بذاته، مستهلكاً لأبعد حد، ليس لديه قناعة بما يملك، لا يبحث عن الحقيقة بل عن المتعة “. (المؤلف)
تهدف مقالات الكتاب إلى رصد تمظهرات السلوك الإنساني في مختلف المواقف الحياتية، والتي تعبّر بالضرورة عن مدى توافق الفرد مع نفسه والآخرين. فقد أثبتت معظم دراسات علم النفس الاجتماعي أن التوافق الشخصي للفرد يتجسد بطبيعة الحال عندما يكون الفرد راضياً عن نفسه، وتخلو حياته الاجتماعية من الصراعات النفسية والتوتر، التي ترتبط بمشاعر الذنب، والقلق، والقهر، والنقص، وهذا يعني أن لدى الفرد القدرة على التوفيق بين دوافعه المتعددة وأدواره الاجتماعية المتصارعة مع هذه الدوافع لتحقيق الرضا لنفسه والاستقرار، وإزالة القلق والتوتر، والشعور بالسعادة. بينما يشير مفهوم التوافق الاجتماعي إلى انسجام الفرد في علاقته مع محيطه الاجتماعي وتكوين علاقات اجتماعية مثمرة، ومتوازنة، وممتعة قادرة على بناء جسور التعايش والتسامح وتقبّل الآخرين، والتحرر من الميول المضادة للمجتمع.
وفي هذا السياق نستحضر عبارة أو مقولة استنتجها عالم النفس الاجتماعي ” هــــــاري ستاك سوليفـان ” (1892- 1949) من تجربته الشخصية المريرة: ” إن الناس يسببون المرض للناس؛ وبالتالي عليهم أن يأخذوا بأيديهم إلى السواء والصحة النفسية “، حيث عانى في طفولته وشبابه من مشاعر الوحدة والقلق والإدمان والاضطراب النفسي بسبب عدم الاستقرار النفسي والاجتماعي الذي تسبب به الآخرون، والسؤال الذي يطرح نفسه علينا: لماذا يتسبب بعض أفراد المجتمع بمشاكل ومتاعب نفسية واجتماعية لا تعد ولا تحصى لمجموعة من الأفراد لمجرد أنهم يختلفون عنهم في الطباع والانتماء؟
نعتقد أن ذلك يرجع إلى طبيعة التنشئة الاجتماعية التي تلقوها في صغرهم وإلى طبيعة المبادئ والقيم التي تحكم السياق الثقافي والاجتماعي الذي يوجه العقل الجمعي في مجتمعاتهم. ناهيك عن الدور الذي لعبته مفرزات الثورة التكنولوجية وأدواتها في التأثير على مخرجات السلوك الإنساني.
لذا حاولنا جاهدين في هذا العمل رصد تمظهرات السلوك الإنساني في مواقف اجتماعية متعددة من أجل الفهم والوقوف على طبيعة الأسباب والعوامل الفاعلة، التي تقف وراء تصرف بعض الأفراد مع الآخرين على هذا النحو أو ذاك بالاعتماد على الأسس النظرية والمنهجية لكل من علم النفس وعلم الاجتماع.
ينقسم الكتاب الذي بين أيدينا إلى تسعة عشر مقالاً سيكو – سوسيولوجياً، ويدور كل مقال من مقالاته حول مظهر معين من مظاهر السلوك الإنساني في المجتمع المعاصر، وهي كالآتي:
يستعرض المقال الأول ماهية السلوك الإنساني (محاولة للتأصيل). أما المقال الثاني جاء ليطرح السلوك الإنساني في ضوء مفهوم التنشئة الاجتماعية. في حين يبين المقال الثالث آليات التطبيع الاجتماعي للسلوك الإنساني من خلال مناقشة دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية وأساليب المعاملة الوالدية في تشكيل السلوك الإنساني. بينما يسعى المقال الرابع إلى تحليل السلوك الإنساني في ضوء الذكاء العاطفي. وجاء المقال الخامس ليوضح عملية الإقناع والتأثير في الآخرين كسلوك إنساني. وحاول المقال السادس مناقشة السلوك الإنساني في ضوء مفهوم القوة الناعمة. أما المقال السابع فقد سعى إلى دراسة السلوك الإنساني في ضوء فلسفة الأخلاق عند إريك فروم. في حين جاء المقال الثامن ليسلط الضوء على أهمية التصورات الاجتماعية في بناء السلوك الإنساني. أما المقال التاسع فقد حاول إلى رصد دور مفهوم بروكسيميكس (علم المكان) في رسم معالم السلوك الإنساني. كما أتى المقال العاشر ليشرح لنا مظاهر السلوك الإنساني في ضوء القلق الاجتماعي. أما المقال الحادي عشر فقد سعى إلى توضيح دور العُزلة في الخلاص من جحيم الآخرين والفرار من مجاراة عالَم مضطرب. في حين جاء المقال الثاني عشر لمناقشة السلوك الإنساني في ضوء جدلية اللوغوس والإيروس قراءة في نظرية هربرت ماركيوز عن الحب والحضارة. بينما حاول المقال الثالث عشر رصد ممارسات السلوك الإنساني في ضوء ثقافة الاستهلاك من خلال استعراض نظرية جان بودريار عن نقد المجتمع الاستهلاكي. في حين جاء المقال الرابع عشر ليتناول العلاقة الارتباطية بين مفهوم الجسد والسلوك الإنساني من خلال توضيح ماهية الجسد في الثقافة الغربية. أما المقال الخامس عشر فقد سعى إلى توضيح تأثير الإباحية على السلوك الإنساني من خلال رصد دورها في تدمير عقول الشباب. كما حاول المقال السادس عشر مناقشة السلوك الإنساني في ضوء محددات العنف ضد المرأة (الاغتصاب الجنسي نموذجاً). وجاء المقال السابع عشر ليبين مظاهر السلوك الإنساني والعنصرية في ضوء نظريات علم النفس السياسي. وفي المقال الثامن عشر حاولنا دراسة السلوك الإنساني في ضوء خطاب الكراهية بهدف توضيح عوامل وأسباب صناعة الكراهية وآليات المواجهة. وأخيراً جاء المقال التاسع عشر ليوضح معالم السلوك الإنساني في ضوء دلالات ومظاهر التخلف الاجتماعي.
وفي الختام يبقى هذا الكتاب محاولة متواضعة للاقتراب من السلوك الإنساني المتغير فهماً وتحليلاً ونقداً، إلا أننا بالمقابل بحاجة إلى جهود أعمق فيما يتعلق بالتأصيل النظري والمنهجي لمفهوم السلوك الإنساني وتمظهراته على أرض الواقع الاجتماعي خاصة على الصعيد السوسيولوجي لِلَّحَاقِ بركب الإنجازات التي حققها علم النفس الاجتماعي في مجال دراسة وفهم وتحليل وتفسير السلوك الإنساني. كما نرجو أن يكون هذا الجهد قد أثمر في لفت انتباه الأكاديميين والقراء من خلال تسليط الضوء على القضايا التي تشغل الهم الإنساني وهو ما نسعى إليه.
إن الإنسان هو الذي يرى الأشياء كما يريد، فالأشياء تبدو قبيحة أو جميلة رهناً بوجهة نظر المتأمل، ذلك يعني أن الجمال ليس القائم خارج ذات الإنسان، ولكن الجمال الحقيقي هو الموجود في داخل الروح الإنسانية.
المرجع:
– حسام الدين فياض: تمظهرات السلوك الإنساني في المجتمع المعاصر، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب السادس، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2024، ص(13…16).