في بيتنا الذي نكتريه، أو بالأحرى اكترته جدتي لأمي منذ عقود خلت إبان هجرتها من قريتها طريدة، جراء فعلتها الشنيعة بحملها خلسة من شاب عشقته، فسلمته أغلى ما يمكن أن تملكه فتاة مراهقة في مثل سنها..هاجرت إلى عالم جديد، الغلبة فيه لقانون الغاب : القوي يلتهم الضعيف، فاستكانت مدفوعة برغبة البقاء الى التيهان في أقدم مهنة عرفها الكون : البغاء..ومنه شاخ شبابها وقل مدخولها، ولم تورث إبنتها الوحيدة ( أمي ) سوى التنمر و الخذلان و البيت بأعلى السطح، ماتت الجدة، ومعها دفن تاريخ طويل من المعاناة و القسوة.. أدرك أبي كل ذلك مبكرا، فهجرنا ونحن صغار، وتكررت حكاية مأساة الجدة مع ابنتها وكأن التاريخ يعيد نفسه..يا لهذه الحياة اللعينة، وهذا القدر اللئيم : كان على أمي أن تئدني قبل أن يشتد عودي، وأصبح محط أطماع العيون الكاسرة التي تبتغي نهش لحمي..لا أريد أن أعيد نفس المأساة ، سأرحل عن هذا العالم القذر، الذي يكرر نفس الحلقة المفرغة، ويكرس هيمنة القوي على الضعيف..
يا إلهي لماذا خلقتني أنثى ؟ لا أريد أن أستمر في نفس معاناة أمي، وقبلها جدتي ! لا أحبذ فكرة الرحيل، ولا أقبل أن أصير لقمة سائغة ووعاء لنزوات الرجال .فيما سينفعني دبلوم التجارة، والجميع لا يوظف الا كفاءات الجسد ! سأضع حدا لهاته الديمومة، لهاته الحياة البئيسة …
سارعت إلى الحبل الذي تتدلى منه ملابس متعددة الاحجام والالوان، فككته بعنف، وألقيت بما عليه غير آبهة بوابل الامطار والريح التي كانت تتقاذف جسدي النحيل، عقدت العزم على هزم القدر، وهذا هو الوقت المناسب مادام سخط السماء لجانبي، فالكل رابض في بيته اتقاء هول البرد والمطر..وضعت عقدة الحبل بنحري، وقفت فوق الكرسي الخشبي .. حانت اللحظة الحاسمة لهزيمة القدر ..أتأكد من سمك الحبل الذي سينتشلني من عالم رسموه لي، صعدت فوق الكرسي المهترئ.. لن تهزميني أيتها الرياح، واثقة الخطوات للاقتران الأبدي بجحيم القدر، دفعت الكرسي… لكن ياللهول لحظة…
– سعاد ! أسرعي.. الأكل على المائدة ! اتركي تلك الأوراق يا ابنتي.. فيما ستنفعك ؟
– حاضر يا حاجة..الغذاء لن يهرب! والاوراق التي تزدرينها هي التي غيرت حياتنا .