اللوحة الأولى
نزل حزينا وخجولا من الحافلة التي أقلته إلى دكان سي عبد الله البقال. تقاذفته أيادي كثيرة قبل أن يصل إلى المتاجر الصغرى في علب ومشتقات.
لا يعرف ما الذي يحدث؟
في حظيرة الأبقار كان دافئا ووديعا. يعامله الفلاح وأسرته بلطف، كأنه من صلبهم. احترموه وعرفوا قيمته. بقرتان أو ثلاث تؤمن لهم يوميا جزءا من ثمن العلف والشاي والسكر، رغم تذمرهم من السعر الذي تتحكم في تحديده الشركات.
الشمس في كبد السماء. تساءل مع نفسه بمرارة: لماذا تأخرت اليوم شاحنة الشركة؟
سمع فلاحا يهمس لصديق له بأنهم في منصات التواصل الاجتماعي يدعون لمقاطعة الحليب بعد الزيادة في سعره.
توقف سائق الشاحنة بعد تأخر دام ساعات أمام التعاونية، ونظر إليه بغبن. تألم الحليب، وخفض عينيه متحسرا. اعتقد بان الجميع يتهمه بأنه السبب فيما يحصل له.
اللوحة الثانية
تذكر كيف تشبهت النساء بلونه على مر العصور! وكم من الأمهات أخذن خطيبات أبنائهن إلى الحمام للتجسس على لون بشرتهن، فوصفن بياضهن قبل الزواج بلونه !
عادت به الذاكرة إلى لحظة كان يتربع فيها على عرش المتاجر في المدن الكبرى، ولا يتجرأ ذوي الدخل المحدود على لمس قنيناته الزجاجية. حينها كان مشروبا برجوازيا، يُعد دخوله إلى كل البيوت من سابع المستحيلات .
منذ سنوات والأسر ذات الدخل المرتفع تظهر في التلفزيون، وهي تغرق في سعادة وصلاته الإشهارية. أطفال وأزواج من مختلف الأعمار يرقصون ويغنون، وهم يتناولونه رفقة مشتقاته في الحدائق والمطابخ والصالونات، واقتحم عليهم حتى الأماكن الأكثر حميمية مثل غرف النوم .
لا يدخل بيوت الفقراء إلا في شهر رمضان، أو عندما يزورهم رفقة بعض مشتقاته في المستشفيات، ويسهر قربهم، وينظرون إليه بعطف، ويتناولونه بتلذذ مع الدواء، قبل أو بعد الطعام، فيطيب لهم مذاقه، ويقف بجانبهم حتى يتماثلون للشفاء .
يغريهم أيضا عندما يدخلون دكاكين البقالة رفقة أبناءهم الصغار بالمغامرة في بعض الأحيان بتهديد مصروف البيت اليومي، فيقتنون أحد مشتقاته لأطفالهم، تحت ضغط الإشهار والإحساس بالأبوة.
يا الهي! كيف نسوا بسرعة أنه أرضعهم، وظل يستيقظ معهم كل صباح حتى كبروا واشتد عودهم؟ حتى النساء مدينات له حين خفف من استنزاف الرضاعة لصحتهن.
كيف سيصوم الناس من دونه ؟ كيف يحلا لهم إن يطردوه من مائدة الإفطار أو العشاء أو السحور، وهو الذي رافقهم منذ ولادتهم إلى درجة وَصْفِ البعضِ منهم بجيل (دانون)؟
شارك أغلب العرسان فرحتهم. والأفقر فيهم غرم أكثر من 50 درهما على (النكافة)*، وتناول جرعة أو جرعتين منه، واقتسم تمرة مع خطيبته قبل إن يطبع قبلة على خدها بخجل وحب يتدفق من عينيه، تيمنا بمستقبل يشبه لون الحليب، ومذاق التمر .
إخوته في شركات أخرى لا يختلفون عنه في شيء. سعداء بإقبال الناس عليهم بنفس المواصفات والسعر. هو أخوهم الأكبر والأقوى، لم يسبق له إن اعتدى على احد منهم. يترك لهم دائما مكانا يسعهم في الأمعاء والتلفزيون والمتاجر الكبرى والصغرى .
تنكروا لجميله، وتركوه يروب.
سالت دمعة على خده، انكسر وجدانه .
اللوحة الثالثة
اعتقلته الشركات منذ سنوات داخل صهاريج كبيرة من الاليمينيوم، لتخفيض درجة حرارته، ونقله في صحة جيدة إلى المعامل بضواحي المدن الكبرى. ثم رمت به بعد ذلك إلى الآلات الضخمة لتنهشه بلا شفقة ولا رحمة. تشتق منه الزبدة والألبان، وتضيف إليه عناصر أخرى تفقده هويته. تبستره أو تعقمه، فيتحول إلى مسخ لا يحافظ إلا على القليل من مكوناته الأولية، وأحيانا تنشفه وتحوله إلى غبار. صنّعت له علبا مغرية، ومنحته أسماء مختلفة، ورفعت أسعاره.
أغلب الشركات الرأسمالية يغلب عليها الجشع. قذفت به في الأسواق الداخلية والخارجية. استغلت طيبوبته وعلاقته الأسطورية بالناس. راكمت إرباحا خيالية واستمرت في الخداع. لا تصرح بأرقام معاملاتها الحقيقية. تنفخ في المصاريف. تتهرب من الضرائب، ترفع الأسعار، تتحكم، تتغول، وهو يتألم .
يخشى العمال أن تتسبب مقاطعته في طردهم، ومصادرة قوت عيالهم. ورغم ذلك يتشفى بعضهم في قرار نفسه من جبروت الرأسمال المتوحش الذي يسرق عرق جبينهم .
صاحَبَ الوزراء والحكومات. دخل قصورهم وفيلاتهم، ولعب مع أطفالهم. استقبلهم على موائد الفطور، أو رفقة التمر في أواني فاخرة، وهم يدشنون مشاريع خربت الشغل والتعليم والصحة والسكن .
يعرف بأن الحكومات جبانة، ومتواطئة مع الرأسمال، تشرع القوانين للسوق. تسخر وتكذب. رئيسها الأسبق أغرق البلد في الديون، وألغى نظام المقاصة، وحرر الأسعار بدعوى حماية الفقراء، فزاد من فقرهم، وتوارى إلى الخلف.
قال لنفسه وهو يكاد يجهش بالبكاء:
ـ لقد نهب الرأسمال المتوحش جيوب الناس. أليس من حقهم أن يشكوا ويلعنوا ويغضبوا ويقاطعوا ؟
ثم أضاف بعد أن أصبح ما يجري حقيقة ماثلة إمام عينيه :
ـ لقد أوقعوا بيني وبين الناس، وتركوني وحيدا أنكسر وأروب.
مراكش 14 ماي 2018