
إشارات وانطباعات سريعة:
ـــ المجموعة القصصية صادرة عن دار العين للنشر 2022
ـــ الإهداء ( بعد عدة آلاف سنين, خطت الكائنات خطوة كبيرة إلى نوع آخر من الحضارة)
ـــ الكاتب أطلق العنان لخياله لخلق عالما موازيا, مستعينا بخبراته البشرية, لتطبيق الموازي لها على مخلوقاته الآلية التي استنطقها؛ الغريبة علينا, المألوفة لزمن وجودها, بما يتناسب مع تكويناتها, ووظائفها التي خلقت من أجلها, وإن كنا نرى اليوم أو نسمع عن مخلوقات آلية, تقوم بوظيفة العمل والإنتاج, ومنها ما يُستعان به جنسيا!
ـــ سوف ينبني مسار قصص ” طرف من خبر الأيام” على هذا الاتجاه الاستشرافي, الذي حدده الإهداء, “خطت الكائنات” خطوات واسعة نحو حضارة أخرى, لابد أنها ستكون مغايرة بالطبع عن تلك التي عاشها, ويعيشها الإنسان, ربما تكون ناعمة, هادئة, غير حضارة الانسان الوحشية, هي نوع آخر من الحضارة, لها متاعبها وسلبياتها أيضا, لكنها متاعب وسلبيات ستتناسب مع التكوينات الجديدة, والغريبة, التي انتقلت إليها “البشرية المُقترحة/ المُستشرف وجودها, وبهذا الشكل”, حتى لتكاد قصص المجموعة نماذج مقترحة لتلك المخلوقات.
لم يقل الإهداء ” ستخطو” على اعتبار أن الكلام في الحاضر الآن, عما هو قادم, ” خطت”, وبعد عدة آلاف سنين, وعلى اعتبار ما سيكون, بل يبدو الإهداء وكأنه صادر من المستقبل, الذي صار حاضرا آنذاك, رغم “فعل الماضي خطت”. ويكون السؤال: بعد.. عدة آلاف سنين.. من أي نقطة يبدأ العد؟, لابد هي النقطة التي يتكلم منها وقتها, ربما على غرار” اقتربت الساعة وانشق القمر”, لو صحت الموازنة.
ـــ لعله طرف من خبر العصور اللاحقة, عصور ريبوتات ستحل محل الإنسان!, وهي التي تشير إليها أحداث قصص المجموعة, وقد أخذت خبرتها وتجربتها من العصور السابقة “عصور إنسان الدم واللحم”, ووقتها؛ سيكون قد عفى عليها الزمان, أشياء تقترب من الخيال العلمي.
ــــ رواية عبد الحكيم قاسم” طرف من خبر الآخرة/ وقصص جمال مقار” خبر من طرف الأيام”, وبما أن أيام جمال مقار هنا هي العصور اللاحقة, فكأنه يأتي لنا أيضا بخبر عن “عالم الغيب”, والذي هو طرف آخرة عبد الحكيم قاسم. أليس القرن الرابع والعشرون مثلا, غيب لنا مثله مثل عالم الآخرة تماما؟
ـــ الكاتب يخلق عالما افتراضيا, مستقبليا, متخيلا, ليكون بديلا لعالمنا الواقعي الحالي, ذلك العالم الخشن, الوحشي, والذي شاخ!, عالما افتراضيا ناعما قوامه أدوات ومفردات منجزات العلم ” وهو ما لم يكن ليتيسر لكاتب عاش منذ خمسين عاما مثلا, والذي كانت أدوات عالمه, الذي يريد تشكيله في الأغلب؛ من الحيوان والطيور والجماد”, وإن كان الكاتب قد عالج أكثر من قصة في نهايات الكتاب, بتلك الكائنات لكن بطريقة وأدوات حديثة, وكل سلوكيات وتصرفات عصور الإنسان, سنجدها عند الريبوتات التي ستكون ” بعد عدة آلاف سنين”: الحب/ الخيانة/ الاستحواذ/ المشاعر البلادة/ العواطف الملتهبة…. , ولكن لطبيعة التكوين ستكون هناك “إدارة أخرى” لمكوناتها وشخصياتها, ودستور خاص ينظمها, وكما أن الانسان تطور عبر العصور, ولو تطورا عقليا وعلميا, فالكاتب يستشرف أن تحل محله مخلوقات, تطورت أيضا, وصارت أكثر تحضرا, أو هي حضارة أخرى من نوع ما, وسوف تكون لها آلهة من نوع آخر ” بحق كل مقدسات أيامنا هذه” في قصة أهذه لعبة, ويستطيع الرجل أن يملي على المصنع مواصفات المرأة التي يريدها, وكذلك المرأة, فها هو بطل قصة أهذه لعبة يوصي المصنع بامرأة في جمال فينوس.
ـــ كان من الممكن أن تأتي قصص المجموعة, بنفس الأحداث ونفس المعاني ونفس الدلالات التي تحملها, أو الرسائل التي ترمي إليها, بعوالم من أدميين من دم ولحم, في عالمنا الحاضر, أو المستقبل البعيد, ولكن أراد الكاتب أن يأتي بعوالم درامية “على غير مثال”, تمتاز بالدهشة والغرائبية, فجاءت, وبفضل اللغة, وقوة التصوير والتمثيل كأنها أيضا من دم ولحم, من ناحية أخرى كل هذه الحالات يمكن أن تنطبق علينا, تمام الانطباق, ويكون الفارق الوحيد بين إنسان اللحم والدم, وبين كائنات الميكا هو زراير الــ on/ of.
***
وفي إطلالة على الثلاث قصص الأُول, من أربعة عشر قصة هي محتوى الكتاب:
ــــ في قصة ” أهذه لعبة” هل سيأتي اليوم الذي تقوم فيه ” فيورا” دلالة الرقة والجمال, الآلية, مقام المرأة الإنسان, وكذلك الرجل, وتصير بينهما حياة طبيعية, فيها المشاعر والحميمية, والبرودة, والحب المتحرر الذي هو الخيانة في عرفنا الآن, ويمكن زرع قدر من المشاعر والحميمية في الدمية/ المرأة مثلا على قدر ما يدفع الرجل, كما يمكن استبدال الحب السامي في مكان الحب الشهواني. والعكس.. حسب الطلب, برودة المشاعر بين تلك الكائنات, المتحضرة, في قصص المجموعة, سوف تعوضها اللغة الشاعرية التي عالج بها الكاتب قصصة, حسب “حرارة اللحظة”, بين الرجل والمرأة, والمفترض أنهما كائنات آلية. والواضح أن السيد هو السيد في كل زمان, وفي كل حضارة, والسيد هنا لن يخرج عن الرجل أيضا, الذكورية, ولا بد أن يكون آمرا ناهيا, كل شيء من أجله حتى العواطف والمشاعر, فهو اشترها بماله الخاص!,” كان من المفترض أن تحبني أنا…” ولن يسقوى إلا بمشروب القوة, بينما حبيب فيورا. فيور. الطبيعى والتلقائي, ليس في حاجة لمنشطات ولا مقويات, ففي الوقت الذي كان السيد يرى فيه فيورا باردة معه, كانت نشطة وساخنة مع فيور, حبيب قلبها, كان يبحث في وجهها عن أي مشاعر, فلا يرى سوى البرودة, أما فيور فكان يراها غير ذلك تماما, يقول ” ففي ذلك المساء سمعتها تدندن بكلمات لأغنية حب حزينة, وكان ضوء القمر يملأ الشرفة الكبيرة, ويسكب ضياءه الفضي على قسمات وجهها, فيضفي عليها وهجا نورانيا”
وتقول فيورا لسيدها:
ـــ صحيح أنت سيدي, لكنه ابن جلدتي, ونحن من جيل واحد وخامات واحدة ومصنع واحد.
ـــ المشاعر والحب لايعرفان القيود ولا اللوائح المقيدة, فيورا وفيور يمارسان الحب, وهما خادمان في بيت سيدهما, وفيورا دورها في البيت ممارسة الجنس مع السيد, ورغما عن هذا السيد, يقول فيور ” لا ذنب لنا في ذلك, إنه الحب الذي جاء ليعصف بنا, وذلك ما حدث بيني وبين فيورا “, الكائنات المولفة مع بعضها, من طبقة واحدة ” الوضع الاجتماعي” ستمارس الحب والمشاعر بكل تلقائية, لا خجل ولاخوف.
ـــ وفي قصة ” عمر افتراضي” تلك الكائنات ــ أيضا تشيخ وتمرض, يحدث لها خلل وخبل في أدمغتها, وأيضا لها أعمار افتراضية, ولو تعدته, قد يحدث لها نوع من ” أمراض نوعها وجبلتها” تصير عدوانية/ حالة جنون, نتيجة خلل في الهارد وير, الأوامر الصادرة إليه سوف تتضارب وتتخبط في طريقها إلى برمجيات السوفت وير, وهنا دخلنا في الأمراض العقلية/ النفسية التي تصيب تلك الكائنات.
سيكون الإنسان/ الكائن الجديد, عبارة عن مجموعة من الملفات الإلكترونية, قطع غيار ذلك الكائن هي “الملفات”, والملفات تشكل دائرة الكترونية, نشيل ملف ونحط ملف, تفكيك وتركيب, الملف تكوين إلكتروني في دائرة ذلك الإنسان الإلكترونية, ربما عشرات الملفات والمكونات الإلكترونية, يتكون منها الكائن, يتحرك ويفكر ويشعر بواسطتها, ملفات للمشاعر الحميمة, ملفات للشهوانية والجسدانية, ملفات للمشاعر السامية التي تسمو فوق الشهوات” الروحانية في الآدميين سابقا”, الدكتور بكيز يتميز بالعقلانية, ولن نقول بالجحود, بعكس السيدة سونارا, الرقيقة رهيفة المشاعر, والتي تبكي على العشرة, بينها وبين الخادم مردكس, تبكي عليه بحرقة ” ياستي خلاص هو يعني كان من بقية أهلك.. عمره الافتراضي انتهى/ أنا صعبان علي العشرة. عشر سنين…”, ويدور الحديث عن امكانية الاحتفاظ بأجزائه, بنوك في عالمنا الحالي تحتفظ بأعضاء بشرية, الكلى والعيون والكبد وغيرها, سونارا تمثل الإنسان القديم, رجلا وامرأة, بمشاعره وعواطفه, المشاعر المتعبة والقاسية التي نعاني منها, أما دكتور بكيز فهو هنا يمثل المشاعر الصلبة والأعصاب الجامدة, العقلانية في أعلى درجاتها, نحى المشاعر والعواطف جانبا, العمر انتهى فلما البكاء والحزن, ليتنا في مثل مشاعر دكتور بكيز!!, ويتم “دفن” مردكس في حاويات خاصة لحفظ أجزاء تلك الكائنات, يمشي بكيز مسرعا في جنازته, بينما السيدة سونارا منخرطة في البكاء, المرأة هي المرأة, من دم ولحم, أو من ملفات إلكترونية, رمز العواطف والرقة, وقد خاف مردكس على عينيها من عاقبة البكاء “قبل أن يموت/ تفكيكه وإسكات ملفاته”!, وقد عرفنا لماذا تبكي عليه بتلك الحرقة ” كان يجلس بجوارها وقد برمجته ليتحسس أجزاءها بنعومة شديدة, تجعلها تغمض عينيها وتحلق نشوانة حتى تبلغ ذروة الانتشاء”
ـــ وفي قصة ” حالة تمرد”. الميكا المسمى موركل 5 يفقد السيطرة على سلوكه, فينهمك في تحطيم أدوات وأثاث شقة ماشا رفيقته الجميلة, اشترته لنفسها رفيقا من اثنين وعشرين عاما, فنحن أمام عالم حر, لاتقيده أعراف ناس ولا محاذير دين, عالم الأصل فيه هو الحرية والانطلاق, يفعل موركل5 ما كان سيفعله مردكس في القصة السابقة, أو ما كان دكتور بكيز متخوفا منه, أصاب موركل الجنون الذي يصيب الأدمي في حياتنا, فتتصل ماشا بمكتب الانقاذ الوطني/ الشرطة, فيحضرون بسرعة البرق, ويتعاملون مع الكائن المتمرد بالتحكم عن بعد, لا يملك موركل سوى سباب الشرطة, فيهددونه بغلق دوائر التحكم حسب المادة السادسة من الدستور/ إطلاق النار على قدمه أو عليه عند البشر, فهو عالم تحكمه دساتير وقوانين, قوانين الانضباط والمحافظة على المخلوقات, فيه من الحرية والمرونة ما يجعلهم يحضرون ثلاثة حيوانات منوية من حيوانات الزعيم العظيم, ليتم تخصيبها في رحم ماشا, لانتاج نسخة جديدة من زعيمهم العظيم, وقوانين تتحكم في زمن المضاجعة حفاظا على الصحة ودوام الصلاحية, وأيضا عدم التعطيل عن العمل, بل والتحكم في درجات الوسامة والجمال والحسن. وبرغم ما فعله موركل 5 في شقة رفيقته ماشا, وكان ساعده الأيسر قد سقط, يحن قلبها له, ولما لا ” كانت تتجهز للاستحمام بعد أن قضيا وقتا ممتعا ” وعلى لسانها تقول” نسيت نفسي معه, كم كان عذبا ولطيفا معي طيلة الوقت “, نفس موقف سونارا مع مردكس المنتهية صلاحيته وكان على وشك الجنون, فكانت هي الأخرى حين يتحسسها ” تحلق نشوانة حتى تبلغ ذروة الانتشاء”, ويقدم الكاتب تشخيصا ” طبيا”, والمقابل له هنا ” هندسيا”, حول السبب الطبي الفسيولوجي, والمقابل له هنا سبب العطل الفني ” …أدى تأثيرها ” المارسة الجنسية العنيفة والمطولة” إلى فيض من الموجات الكهرومغناطيسية العشوائية, أفضت إلى تهتك كامل للألياف الضوئية للساعد الأيسر, التي تحمل رسائل الاستجابات من المخ للذراع, وانتهت إلى توقف كامل وتدمير…”, وبعد مناورات ومحاورات يحصل موركل على حريته, بخرجه من مجال التحكم الالكتروني, ينجذب المارشال لجمال ماشا وسحرها, تنتهي القصة بأن يقوم موركل بضرب المارشال على قفاه.
هذا وتأتي أواخر قصص المجموعة بعكس ما بدأت به قصصها في بدايتها:
( بعد عدة آلاف سنين أخرى, خطت الكائنات خطوة كبيرة إلى الخلف)
***