” اللغة وسيلة التواصل الإنساني، ناقلة للثقافات، ومؤرخة لأحداث، وانتصارات، وانتكاسات الشعوب…“.
اللغة أعظم إنجاز بشري على ظهر الأرض، ولولا اللغة ما قامت للإنسان حضارة ولا نشأت مدنية ولقد وقر في أذهان الناس منذ القديم تقديس اللغة وإعظام شأنها، وبلغت القداسة عند الشعوب البدائية، أن ارتبطت اللغة عندهم بتأثير اللفظ وسحر الكلمة، واختلط الاسم بالمسمى، في عقيدة هذه الأقوام.
وقد أدرك العلماء في العصر الحديث، علاقة اللغة بالمجتمع الذي تعيش فيه، ومدى تأثرها وتأثيرها عليه، كما عرفوا الصلة القائمة بين اللغة والنفس الإنسانية، وتلونها بألوان الانفعالات والعواطف الوجدانية، لدى بني البشر.
بذلك تعتبر اللغة من أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة، وبدون اللغة يتعذر نشاط الناس المعرفي، وترتبط اللغة بالتفكير ارتباطاً وثيقاً، فأفكار الإنسان تصاغ دوماً في قالب لغوي، حتى في حال تفكيره الباطني، ومن خلال اللغة فقط تحصل الفكرة على وجودها الواقعي. كما ترمز اللغة إلى الأشياء المنعكسة فيها.
كما تعتبر اللغة نظاماً للتواصل يمكن أن يتبادل البشر الكلام اللفظي أو الرمزي، وهذا التعريف يؤكد على الوظائف الاجتماعية للغة، والحقيقة هي أن البشر يستخدمون اللغة للتعبير عن أنفسهم والتعامل مع الأشياء في البيئة المحيطة بهم. وتوضح النظريات الوظيفية للقواعد التراكيب النحوية من وظائفها التواصلية وفهم التراكيب النحوية للغة لتكون نتيجة لعملية التكيف النحوية ومصممة لتلبية الاحتياجات التواصلية لمستخدميها.
ويرتبط هذا الرأي للغة مع دراسة اللغة في أطر عملية ومعرفية، وتفاعلية، وكذلك في علم اللغة الاجتماعي وعلم الإنسان اللغوي. فتميل النظريات الوظيفية إلى دراسة القواعد كظواهر حيوية، وتراكيب تكون دائماً في عملية تغيير كما تستخدم من قبل الناطقين بها. ويضع هذا الرأي أهمية على دراسة تصنيف لغوي، أو تصنيف اللغات وفقاً لسمات هيكلية، كما يمكن إثبات أن عمليات النحو تميل إلى اتباع المسارات التي تعتمد جزئياً على التصنيف. وكثيراً ما ترتبط وجهات النظر البراغماتية في فلسفة اللغة كعنصر أساسي للغة والمعنى مع أعمال فيتجنشتاين اللاحقة ومع فلاسفة اللغة العادية مثل: أوستن، وبول جرايس، وجون سيرل، وكواين.
يسعى علم اللغة الحديث إلى دراسة اللغة وهيكلها، بالتعاون مع العلوم الإنسانية الأخرى، مثل: علم الثقافة، التاريخ، الجغرافيا، علم الاجتماع، وعلم النفس، والانثروبولوجيا. فالعلاقة بين اللغويات والعلوم الأخرى (الإنسانية) علاقة نقاش وجدال مستمر منذ عقود بهدف دراسة اللغات الإنسانية كل من خلال زاويته.
بالمقابل، يعتقد بعض اللغويين أنه لا ينبغي خلط تخصصهم مع هذه العلوم لأنه سيؤثر على نقاء أبحاثهم، حيث ظلت النظرة إلى اللغة في الماضي على أنها من علوم الأدوات والوسائل، وليست من علوم الغايات، حتى بدايات القرن التاسع عشر. وفي خضم البحث اللغوي الحديث ارتقت اللغة درجة أعلى، وأصبحت من علوم الغايات، بالإضافة إلى كونها من علوم الوسائل، وأصبح علم اللغة من أهم العلوم الإنسانية التي تـهتم بمختلف السلوك الإنساني أثناء اتصالـه بالآخريـن.
ولما كانت اللغة نقطة التقاء بين علم اللغة وشتى فروع المعرفة، فقد أدى هذا إلى التعاون المتبادل بينهما، وصارت البحوث اللغوية الحديثة تستعين بالعلوم الأخرى، رغبة في الكشف عن أسرار النظام اللغوي بكل مستوياته، على نحو ما يظهر في استعانة اللغويين بعلم التشريح وعلم الفيزياء في دراسة نطق الصوت اللغوي وصفات الصوت اللغوي الفيزيائية، وأثرها في السمع، ووضوح الصوت اللغوي، والعوامل المؤثرة في ذلك.
ومن جانب آخر، فإن فروع المعرفة الأخرى، تستعين باللغة كوسيلة ووعاء لـهذه العلوم، فنشأت فروع معرفية حديثة عند نقطة الالتقاء بين هذه العلوم واللغة وفاءً بحاجة هذه العلوم من اللغـة، وكل علم يركـز على زوايا اهتمامـه بالقدر الذي يكفيه، ومن خلال البحث العلمي الحديث الذي يعتمد على المنهجية والموضوعية والتجريد والشمول فتقدمت هذه العلوم التي تقع في المجال المشترك بين اللغة وفروع المعرفة الأخرى.
وهكذا نجد أن نشأة أي علم من العلوم الإنسانية هي في حقيقة الأمر محاولة للنظر في موضوعات وأصول قديمة بمناهج حديثة. واللغة واقع ملازم للإنسان، فقد أعطاها نصيبه من البحث منذ القديم وخص لها علم خاص بها. أسماه علم اللغة وقد أصبح اليوم مثله مثل فروع العلوم والمعرفة الإنسانية، فهو العلم الذي يدرس اللغة ذاتها دراسة علمية موضوعية تتناول كل عناصرها. وهذا العلم يتخذ من جزئه الأول (العلم) مناهج العلوم الدقيقة، ووسائل بحثها، ويتخذ من جزئه الثاني (اللغة) مادته التي يجري عليها مناهجه، ووسائل بحثه.
بناءً على ما سبق يمكننا القول إن علم اللغة هو العلم الذي يبحث في اللغة، ويتخذها موضوعاً له، فيدرسها من النواحي الوصفية، والتاريخية، والمقارنة، كما يدرس العلاقات الكائنة بين اللغات المختلفة، أو بين مجموعة من هذه اللغات، ويدرس وظائف اللغة وأساليبها المتعددة، وعلاقتها بالنظم الاجتماعية المختلفة. وموضوع علم اللغة، هو كل النشاط للإنسان في الماضي والحاضر، يستوي في هذا الإنساني البدائي والمتحضر، واللغات الحية والميتة، والقديمة والحديثة، دون اعتبار لصحة أو لحن، أو جودة أو رداءة، أو غير ذلك.
إن الصلة بين اللغة وثقافة الجماعة (التي تعد اللغة جزءاً منها) تعتبر من الموضوعات المهمة لعالم الانثروبولوجيا. وكلمة ثقافة Culture ذاتها كلمة مضللة، لأن لها معنيين محتملين. فهي عند عالم الأجناس البشرية تعني الحصيلة الكلية للتقاليد والعادات، والأعراف، وطرق الحياة لأي طائفة اجتماعية سواء كانت متقدمة لدرجة عالية أو متأخرة، ومعنى هذا أن كل الجماعات عند عالم الأجناس البشرية – مهما صغرت أو كانت بدائية – لها ثقافة، وكل الثقافات على درجة واحدة من المساواة. أما كلمة ثقافة في مدلولها التقليدي فترتبط بالممارسة المتقدمة للحضارة التي عادة ما تعبر عن نفسها عن طريق اللغة المكتوبة وتشمل أشياء مثل: الأدب والشعر والفلسفة والعلم والحصيلة الفكرية والمستويات المرتفعة للحياة والاتصال وحفظ الصحة. وهذا التباين الدلالي بين المعنيين قد أدى إلى سوء فهم متكرر، وربما كان علاج هذه الحالة في وضع كلمة أخرى لأحد هذين المعنيين.
إن ثقافة أي أمة أو جماعة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنمط لغتها ما دامت الأخيرة تعكس عادة نشاطات هذه الجماعة. وتذهب مدرسة العالم الأمريكي Whorf فيما وراء علم اللغة metalinguistics إلى أبعد من هذا وتزعم أن نمط اللغة المتكلمة يفرض تأثيره المباشر على هذه النشاطات، وإن كان هذا الزعم ما يزال محل خلاف كبير. ومهما يكن من شيء فلا شك في أن اللغة تشكل جزءاً من الوعي الثقافي للجماعة، وهي تعد واحدة من أقدم المظاهر لهذا الوعي. وإن التمييز بين جماعة وأخرى ليؤسس غالباً – على الأقل من الناحية الظاهرية – على اللغة.
إذا كنت تتكلم لغتي فأنت تنتسب إلى مجموعتي، أما إذا اختلفت لغتك عن لغتي فأنت تنتمي إلى جماعة أخرى غير جماعتي، ونحن نتصرف على هذا الأساس، ومن ثم فاللغة في الغالب مفتاح لسلوك الجماعة، وتسمح بالتنبؤ بمشكلة رد فعل الجماعة تجاه المواقف المتنوعة. وإن عالم اللغة الجغرافي ليتعلم منذ البداية أن تجاهل العامل اللغوي في أي صورة من صور العلاقات الثقافية المتبادلة يعد خطأ كبيراً، وأن هناك شيئاً واحداً لا بد من أن يأخذه في اعتباره فوق كل الأشياء (إلى جانب المعتقدات الدينية) وهو لغة الجماعة التي يدرسها. وحينما ننتقل من الحضارات المتخلفة إلى الحضارات المتقدمة يصبح العامل اللغوي في الثقافة أكثر أهمية، ما دامت اللغة وبخاصة في صورتها المكتوبة، حيث تقوم بدور الأداة أو الواسطة للثقافة، بمعنييها الانثروبولوجية والتقليدية.
وعند هذه النقطة لا بد من أن يؤخذ في الاعتبار، ليس فقط اللغة أو الثقافة الأولى للجماعة التي ندرسها، ولكن أيضا العوامل اللغوية الثقافية من الدرجة الثانية أو الثالثة، وإن من الأمم ما يتمتع بحضارة عالية، وينعم بثقافة خصبة خاصة به، ومع ذلك يتعرض للوقوع تحت تأثير تيار ثقافي أجنبي. ومن ذلك ما عرف عن كثير من الأمم الأوروبية خلال القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، من أنها كانت واقعة تحت تأثير التيار الثقافي الفرنسي. وقد انعكس هذا بسرعة في تغيير كثير من تقاليدها ومظاهرها حتى تتفق مع الثقافة التي أعجبوا بها. ومن الناحية اللغوية فإن هذا التيار الثقافي يبدو أثره في استعمال اللغة ذات الثقافة الرفيعة، وفي دراستها، وهذا بدوره يؤدي إلى خلق ما يمكن أن يسمى باللغة الثانية للأمة موضوع الدراسة. وإنه ليقال إن اللغة الفرنسية يتكلمها على سبيل المثال ليس أقل من مليون إيطالي، أو بعبارة أخرى شخص بين كل خمسة وعشرين، وهذا المركز يختلف في أسبابه عن الآخر الناشئ في بلد كان مستعمراً مثل الهند حيث تتحدث نسبة كبيرة من السكان اللغة الإنجليزية. وبالمعنى الذي شرح فيما سبق أصبحت اللغة الإنجليزية مؤخرا لغة ثقافية ناشرة نفوذها ليس فقط في الأقطار المستعمرة في الأصل، ولكن أيضاً يوجد أقطاراً لم يربطها رابط استعماري بها قط مثل تركيا وروسيا الاتحادية (الاتحاد السوفيتي سابقاً)، حيث لم يكن بهما مطلقاً أي نوع من الاستعمار البريطاني أو الأمريكي.
إن العامل الديني لا بد أيضاً أن يؤخذ في الاعتبار في أبحاث علم اللغة الجغرافي، فالنفوذ اللغوي البادي في اللغات الدينية مثل اللاتينية في البلاد الكاثوليكية الرومانية، واللغة العربية في البلاد الإسلامية التي تتحدث اللغة العربية لا يمكن أن يتجاهله عالم اللغة الجغرافي. وهذا النفوذ اللغوي الديني يعني عادة أن اللغة التي يرتبط المتكلمون بها بعقيدة معينة سوف تأخذ كلمات وترجمات مفترضة من اللغة المقدسة، وأن بعضاً من أبناء اللغة (قل أو أكثر)، وإن كان في العادة يضم كل رجال الدين الذين سوف يستعملون اللغة المقدسة كلغة متكلمة. وربما كانت إيطاليا من أجل ذلك توصف بأنها دولة لغتها الثانية الفرنسية، ولغتها اللاتينية.
ويجب علينا الانتباه عند دراستنا لأي لغة حية أن التاريخ الماضي يحمل نفوذاً هائلاً على الحالة اللغوية للدول الحديثة. وحتى الآن نجد أن هذا العامل كثيراً ما أهمل، أو تمت المبالغة في قيمته. وهناك أسباب تاريخية عميقة تكشف عن السبب في اختيار دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) – في فلسطين المحتلة – اللغة العبرية بدلاً من اليديشية (الييدية) كلغة قومية ورسمية. فاليديشية كما هو معلوم لدينا هي لغة جرمانية غربية ولغة العامية التقليدية لليهود الاشكناز، وهم مجموعة من اليهود من وسط وشرق أوروبا، وذريتهم. منذ أكثر من ألف عام، يُعتقد أن اللغة نشأت عندما هاجر يهود القرن العاشر من فرنسا وإيطاليا إلى وادي الراين الألماني، بدمج عناصر من الألمانية والعبرية والآرامية في لغتهم. التقطت اللغة لاحقاً التأثيرات السلافية أيضاً، حيث استقر المتحدثون بها في جميع أنحاء أوروبا الشرقية. تاريخياً، كانت اليديشية تُعتبر لغة الحياة اليومية لمجتمعات الاشكناز، مكملة للاستخدام الديني والعلمي (على التوالي) للعبرية والآرامية. في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حظي الأدب والموسيقى والمنح الدراسية باليديشية بازدهار في شعبيتها، مع انتشار المطابع باللغة اليديشية في جميع أنحاء أوروبا الشرقية والولايات المتحدة. ومع ذلك، على الرغم من أن اللغة اليديشية وصلت إلى ذروتها عند حوالي 11 مليون متحدث خلال الأربعينيات، إلا أن غالبية المتحدثين باللغة اليديشية في العالم قُتلوا في الهولوكوست. بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، أدى استيعاب المتحدثين باليديشية وكذلك هجرتهم إلى دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) في فلسطين المحتلة، حيث اعتمدوا العبرية بدلاً من ذلك، إلى تدمير اللغة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا: ما هو الفرق بين اليديشية والعبرية؟ وهل اليديشية هي نفسها العبرية؟ إلى جانب الروابط الواضحة مع اليهودية، تستخدم اليديشية والعبرية نفس الأبجدية وكلاهما يكتب من اليمين إلى اليسار. ومع ذلك، فإن اللغتين لديهما بعض الاختلافات. العبرية هي لغة سامية – أي إنها تنتمي إلى نفس عائلة اللغة العربية، والآرامية، والكنعانية، والفينيقية، … – بينما اليديشية هي لغة جرمانية. على الرغم من أن اليديشية تحتوي على الكثير من الكلمات العبرية، إلا أنها تتميز بنطق مميز بشكل ملحوظ. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من وجود نفس الأبجدية، فإن عناصر مثل ترتيب الحروف ووجود حروف العلة مختلفة جداً في اليديشية. أخيراً، في حين أن اللغة العبرية هي اللغة الرسمية لدولة الكيان الصهيوني (إسرائيل)، فإن اليديشية ليست كذلك. في الواقع، على الرغم من أن هذا قد تغير في السنوات الأخيرة، فقد تم تثبيط استخدام اليديشية في إسرائيل من أجل الترويج لعودة ظهور العبرية. يعتبر هذا التاريخ بمثابة تذكير ممتاز بأن الترجمات اليديشية تتطلب معالجة احترافية لالتقاط الفروق اللغوية والسياسية والثقافية الدقيقة لهذه اللغة الرائعة بشكل كامل.
وفي هذا السياق نجد أنه من بين الأضاليل الصهيونية عند تأسيس دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) حاولت الحركة الصهيونية تعميم تعبير (الدولة العبرية) كاسم يطلق على الدولة المقامة في فلسطين المحتلة. هذا لم يكن صدفةً، فله دوافعه التاريخية الممكن إسقاطها على الحاضر في محاولة لتزييف التاريخ وإجبار كل الآخرين على الاعتراف بوقائع و(حقائق) جديدة بعيدة كل البعد عن المصداقية التاريخية. إن الاعتراف بـ (عبرية) إسرائيل يعني إعطاء هذه الدولة صفة ليست بها تماماً، فالاعتراف بـ (عبرية) إسرائيل بكل ما يعنيه ذلك من موافقة على الأضاليل والأساطير الإسرائيلية في الرواية الصهيونية لتاريخ فلسطين. نعم يخطئ كتابنا ومثقفونا وصحافيونا من خلال الوقوع بشكل غير مقصود في المطب الصهيوني. ومن ناحية أخرى نجد أن دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) لم تنشأ كدولة مثل الدول باقي الدول في عملية تطور تاريخية طبيعية، بل جرى إنشاؤها قسراً، دولة احتلالية عنصرية، فحتى الثقافة الواحدة مفقودة فيها فلا صحة إطلاقاً لمقولة (الثقافة) الإسرائيلية الواحدة. وإن جاز إطلاق كلمة (ثقافة) إسرائيلية تجاوزاً بالطبع، فهي ثقافة العدوان والتدمير وإرهاب الدولة. في الحقيقة ينطبق عليها وصف: أن إسرائيل عبارة عن ثكنة عسكرية أو عصابة إرهابية أو جيش له/ لها دولة.
وهذا يعني أن المعرفة بتاريخ الأمة الماضي سوف يعطي على الأغلب فهماً ثاقباً للحقائق والاتجاهات اللغوية في الحاضر والمستقبل. وربما كان من المرغوب فيه أن نؤكد مرة ثانية أن علوم اللغة الوصفية والتاريخية والجغرافية، ولو أنها متصلة ومترابطة، فإن لكل منهما نظرته الخاصة إلى اللغات. فبالنسبة لعالم اللغة الوصفي كل اللغات على قدم المساواة لأنها من وجهة نظره متساوية من الناحية الفعلية، وتتقاسم نفس الخصائص الأساسية التركيبات الصوتية والفونيمية (ملمح صوتي أو ظاهرة صوتية لها مغزى في الكلام المتصل)، نظام نحوي، مفردات لغوية مستعملة. أما بالنسبة لعالم اللغة التاريخي فاللغات تتفاوت في أهميتها تبعاً لمدى انتشارها وسهولة معرفة تاريخها الماضي.
فعلى سبيل المثال نجد أن لغة مثل اليونانية القديمة بما تملكه من نصوص مسجلة مبكرة، وبما تتمتع به من وضوح تطورها التاريخي المبني على الوثائق لا يمكن أن توضع على قدم المساواة مع لغة مثل الـ Menominee (قبيلة الأمريكان الأصليين) التي لا تملك أي تاريخ مسجل. فاللغة اليونانية بالنسبة لعالم اللغة التاريخي على الرغم من ضآلة حجم المتكلمين بها اليوم، واختفاء نفوذها الحديث، لتعد أهم بكثير من اللغة الإندونيسية وحتى الروسية. وعالم اللغة الجغرافي لا بد من أن ينظر إلى اللغات من زاوية أهميتها النسبية في عالمي اليوم والمستقبل القريب.
وإنه لمن اللغو أن نتوقع من اللغوي الجغرافي أن يعامل لغات مثل: هوبي Hopi (لغة قبائل سكان أمريكا الأصليين)، زوني Zuni (لغة معزولة للسكان الأصليين في منطقة نيو مكسيكو الأمريكية) على قدم المساواة مع لغة مثل الفرنسية والإسبانية، تتمتع بجمهور كبير، وبرقعة أرضية واسعة وبمكانة سياسية واقتصادية مرموقة.
وليس هذا نوعاً من التقييم للغات، أو حكماً ذاتياً بعيداً عن الموضوعية اللغوية، أو محاولة لتفضيل بعض اللغات على بعض، وإنما هو بكل بساطة النظر إلى اللغات من زوايا مختلفة، ومن أبعاد متفاوتة، وأيضاً لأغراض مختلفة، وحين تتضح هذه الفكرة في الأذهان سوف يتلاشى كثير من الخلافات والمنازعات التي تثور اليوم بين اللغويين ذوي الاتجاهات المختلفة. كما أصبح من المسلم به عند اللغويين، أن احتكاك اللغات ضرورة تاريخية، وهذا الاحتكاك يؤدي إلى تداخلها بقدر معين، ويكادون يقطعون بأن التطور الدائم للغة من اللغات وهي في معزل عن كل احتكاك وتأثر خارجي، يعد أمراً مثالياً، لا يكاد يتحقق، ذلك لأن الأثر البالغ، الذي يقع على إحدى اللغات من لغات مجاورة لها، كثيراً ما يلعب دوراً هاماً في التطور اللغوي، ويترتب عليه نتائج بعيدة المدى، إلى درجة أن بعض العلماء يذهبون إلى القول، بأنه لا توجد لغة متطورة لم تختلط بغيرها.
– خلاصة القول (بمعنى أوسع): يستعين علم اللغة بعلوم أخرى، كالعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، مثل: علم الاجتماع العام، وعلم الأجناس البشرية، وعلم الوراثة، وعلم الحياة العام، وعلم وظائف الأعضاء، وعلم التشريح، وأمراض الكلام، والتاريخ، والجغرافيا، فاللغة ليست بمعزل عن العلوم الأخرى، فلها ارتباط وثيق بعلوم الطبيعة، فأصوات لغة الكلام تنتج وتستقبل عن طريق أجهزة الجسم الإنساني، وتركيب هذه الأجهزة ووظائفها جزء من علم وظائف الأعضاء، وكذلك فإن انتقال الصوت على شكل موجات صوتية عبر الهواء يدخل في اختصاص علم الطبيعة، وبخاصة ذلك الفرع المعروف بعلم الصوت، ولكن اللغة من ناحية أخرى لها علاقة وثيقة بعلم الإنسان، وعلم الاجتماع، باعتبارها نشاطاً اجتماعياً، من حيث إنها استجابة ضرورية، لحاجة الاتصال بين الناس جميعاً ولهذا السبب يتصل علم اللغة اتصالاً شديداً، بالعلوم الاجتماعية، وأصبحت بعض بحوثه تدرس في علم الاجتماع، فنشأ لذلك فرع منه يسمى: ” علم الاجتماع اللغوي “، يحاول الكشف عن العلاقة بين اللغة والحياة الاجتماعية، وبين أثر تلك الحياة الاجتماعية في الظواهر اللغوية المختلفة، ووسيلة نقل الثقافة التي تعد من وجهة نظر علم الإنسان مجموعة تقاليد الشعب، وأوجه استعمالاته للغته، وبالنظر إلى وظيفة اللغة بوصفها تعبيراً عن الفكر يمكن اعتبار اللغة جزءاً من علم النفس .
ولما كانت اللغة نقطة التقاء بين علم اللغة وشتى فروع المعرفة، فقد أدى هذا إلى التعاون المتبادل بينهما، وصارت البحوث اللغوية الحديثة تستعين بالعلوم الأخرى، رغبة في الكشف عن أسرار النظام اللغوي بكل مستوياته، على نحو ما يظهر في استعانة اللغويين بعلم التشريح وعلم الفيزياء في دراسة نطق الصوت اللغوي وصفات الصوت اللغوي الفيزيائية، وأثرها في السمع، ووضوح الصوت اللغوي، والعوامل المؤثرة في ذلك. ومن جانب آخر فإن فروع المعرفة الأخرى تستعين باللغة كوسيلة ووعاء لهذه العلوم، فنشأت فروع معرفية حديثة عند نقطة الالتقاء بين هذه العلوم واللغة، وفاء بحاجة هذه العلوم من اللغة، وكل علم يركز على زوايا اهتمامه بالقدر الذي يكفيه، ومن خلال البحث العلمي الحديث الذي يعتمد على المنهجية والموضوعية والتجريد والشمول تقدمت هذه العلوم التي تقع في المجال المشترك بين اللغة وفروع المعرفة الأخرى.
– المراجع المعتمدة:
– ماريو باي: كتاب أسس علم اللغة، ترجمة وتعليق: أحمد مختار عمر، عالم الكتب، القاهرة، ط8، 1998.
– رمضان عبد التواب: المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1997.
– محمد محمد داود: العربية وعلم اللغة الحديث، دار غريب، القاهرة، ط1، 2002.
– حسام الدين فياض: حول مفهوم علم الاجتماع اللغوي، مجلة الكلمة، العدد: 183، أغسطس 2022. http://www.alkalimah.net/Articles/Read/22774
– فريق موسوعة ويكيبديا: مفهوم اللغة، تاريخ الدخول إلى الموقع 19.04.2024 https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%84%D8%BA%D8%A9
– فريق تحرير موسوعة اللغة العربية: علم اللغة (علاقة علم اللغة بالعلوم الطبيعية)، موقع الدرر السنية، تاريخ الدخول إلى الموقع 20.04.2024 https://2u.pw/LZK2Npg4
– ” المؤلف غير معروف “: عبرية الدولة تساوي يهوديتها، القدس العربي، 16 – أبريل/ نيسان – 2014. https://2u.pw/p0KXw59j
– أحمد عارف حجازي: اللغات السامية: تعريفها – أقسامها – تدوينها – خصائصها – الباحثون فيها، موقع الألوكة، 14/01/2016، تاريخ الدخول إلى الموقع 20.04.2024. https://2u.pw/HaJfuAnb
—–
د. حسام الدين فياض: استاذ مساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً