وقائع مدينة كابدت الزلزال ثمّ انهارت
ـــــــــ
فايز عطّاف طبيب جرّاح سوري، من أبرع جرّاحي سورية، ودود لطيف دمث، نبيل في عيادته، عالي الهمّة في قومه، و في المشافي التي يعمل بها. نال محبة الناس، و كان كريما و وفيا معهم، فتح لهم عيادته و قلبه، و كان المال، في تعامله معهم، آخر همّه ما دخل أحد عيادته إلاّ و خرج منها شاكرا راضيا مبتسما، و قلبه مفعما بحب فائز عطّاف.
أحبّه الجميع، لأنه أحبهم. كان ، عليه واسع الرحمة و المغفرة، يجري العمليات الجراحيّة، و يتنازل عن نصف أجوره، بل أحيانا أجرّه كاملا. أطلق عليه المرضى: طبيب الفقراء، و النبيل، و السيد المتفاني، و الخلوق الأديب، و سيد الأطباء. و لم يشغل الطب و الجراحة الدكتور فائز عطاف عن القراءة في شتى مجالاتها و آفاقها، فقد كان قارئا متميزا في الأدب، نثرا و شعرا، و الفلسفة و الفن والتاريخ و التراث، و الأنثروبولوجيا، و علم النفس و الفلسفة، و الاقتصاد و السياسة.
و من سمو أخلاقه و نبله كان يزور مرضاه في منازلهم بسيارته الخاصة، و يتفقد أحوالهم، و يقدّم لهم الدواء مجانا, و ينقلهم ، إذا رأى ضرورة، و بسيارته إلى المشفى و العيادة. لقد زار والدتي، رحمة الله عليها، مرتين إلى منزلها،و اتصلت به من خارج سورية شاكرا و مقدّرا، و أجرى عمليات جراحية عديدة لكثير من أصدقائي، و ما تقاضى أي أجر عليها.
ما زرت سورية في العطل الجامعية الصيفية إلاّ و زرته، و التقينا في عيادته أو خارجها، و كان حضوره مفعما بالحيوية و التألق. يطرح آراءه في السياسة و الفكر و الثقافة، بثقة و جرأة و هدوء مقدّما حججه المنطقية المحكومة بمنهج علمي تحليلي، و يقبل آراء الآخرين، مهما كانت مغايرة لآرائه، غير متبرم، و غير مستهجن لها. أدبه النبيل و رؤيته الهادئة البعيدة، و كرمه في علاقاته الإنسانية و الاجتماعية و المهنية خصال جعلته نجما محبوبا لدى كل من عرفه، و دخل عيادته، و زاره في منزله، و التقى به في مطعم أو مقهى. فائز عطاف صديقا غاليا كان، و وفيا لكلّ من عرفه.
و تؤكد سيرته العطرة أنّه كان يتصدّق سرا على العديد من الأسر الفقيرة، و كان يعمل، دائما، على زيادة أجر الممرضات في القطاع الصحي الخاص الذي يعمل به، و كان مدافعا عن حقوقهنّ المالية، و مانحا لهنّ المكافآت المجزية.
ذات صباح، و تحديدا في يوم الاثنين الدامي 6 شباط( فبراير) في الساعة الرابعة و ( 17) دقيقة صباحا، و في هذا العام الكابوسي الكئيب( 2023م)، اكفهرت السماء، و زمجرت الرياح و علت، و انهمرت السماء بسيول المطر، ثم هبط الزلزال مدويا، و بقوة (7,6، سبع، فاصلة، ست درجة وفق مقياس ريختر) كما أشارت دوائر الأرصاد الجويّة، و هزّ المدينة عنيفا قاتما مدويا، فاستيقظت مرعوبة، باكية، و فاضت فاجعا و قتامة، و ألما، ثم سرعان ما تداعت المنازل واحدا تلو الآخر، و سقطت بناية صديقي فايز عطّاف في شارع ( الغزالات)، و تحوّلت إلى قاع من الاسمنت و الأحجار المتهالكة التي بدت ترابا و رمادا، و فاضت روح صديقي فايز عطاف إلى باريها الكريم، و انتقل معها إلى رحمة ربه زوجه الدكتورة هالة سعيد، الأستاذة في جامعة تشرين باللاذقية السورية، و معهما الدكتور محمود بكري، و الدكتور خالد يونس، عليهم واسع الرحمة و المغفرة جميعا.
و مهيبا و فاجعا و جنائزيا كان موكب تأبينه و زوجه، مئات الأصدقاء وطلاب الجامعة و الأطباء الجدد المتدربين تحت إشرافه، ساروا في الموكب. مئات المرضى الذين أشرف على علاجهم، و أقرباؤهم تضامّوا و دموعهم الهاطلة، و هم يودعون طبيبهم النبيل البهي.
مات فايز عطاف، ومات القلب الشفيف ألقا و صفاء و بركة ، لكن تاريخه الحافل خيرا وبهاء و رحمة و نبلا سيظلّ ماثلا قويا في ذاكرة الناس، و دموعهم، و آمالهم، و أجسادهم المحفورة بمشارط عملياته الناجحة جدا، و المشهود لها بالإبداع و التقنية الطبية العالية، و الشفاء العاجل السريع بحول الله.
سلاما لك أيها الطبيب الجرّاح النبيل، سلاما لك أيها المحبوب المبتهج بشفاء مرضاه، الأبيض في خفاياه و ظله، و سرّه و علانيته، الأخضر في لقاءاته، المحبوب صدقا و عمقا و أدبا، و لطفا بهيا، الفائض نايا شفيفا، و عذبا فراتا على قلوب مرضاه و أجسادهم، و أرواحهم المتعبة. الرحمة و المغفرة لك، أنّى كنت في منازل ربك الكريم، و أنّى كنت في جنانه، و أنّى كنت في قلوب أصدقائك و محبيك و مرضاك, و في كل بيت دخلته، و في كل مشفى أزلت ورما و ألما منه، و في كل قلب أوقفت نزيفه، و أينعت روحه.
سلاما لك أيها البحر المديد عمقا و اتساعا، وسفنا و ارتحالا، سلاما لك أيها البهي في كل فضاءات حياتك التي ملأتها وردا و زنابق وزّعتها بسخاء لكلّ من طرق بابك أيها الأمير الذي لم يقفله في وجه من قصده. سلاما لروحك التي ستظلّ لاعنة مقاولي الأبنية الفاسدين المفسدين، الراشين المرتشين، الذين استمرأوا المال الكلبي الحرام، و بنوا و أقاموا عمرانا مجبولا بالغش والفساد و اللصوصية، هشا لا يصمد في وجه ريح أو رعد أو بحر أو موجة، أو زلزال.
و عندما سقطت أبراجهم الكلبية الجاعرة المتبجحة بالحديد المصفح، و فاض الحزن دما في أرواح قاطنيها، و قذفها الزلزال إلى القيعان المزدحمة، أسرع هؤلاء المقاولون و هربوا بأموالهم و أزواجهم و خليلاتهم إلى أمكنة بعيدة لا يعرفها القاصي و لا الداني، و لا الأنس و لا الجان، و لا الذباب الأزرق و الأحمر، وبكل ألوانه وفئاته، و لا الشرطة و لا العسس، و لا الطيور المهاجرة.
في الزلزال الأول الفاتك، ارتجت البنيات عنيفا، سقطت الكتب من على رفوف المكتبات، سقطت الأواني الزجاجية في المطابخ، و تهشمت. المنازل المتماسكة المدعّمة قويا ، المصفحة بالحديد و الاسمنت، استقامت ثانية،و ابتسمت في وجوه قاطنيها: ها عدت لكم ، لا تقلقوا، لكنّ هؤلاء ما رفّ لهم جفن ابتسامة و قلقوا و قنطوا و يأسوا. و البنايات الهشّة التي جبلها مقاولو البناء، و المهندسون المعماريون المرتشون الذين طوّعوا أنفسهم إرضاء لهؤلاء المقاولين ، بحجج واهية أهمها أنّ رواتبهم الحكومية لا تكفيهم لخمسة أيام في الشهر، و أنهم عاجزون عن تلبية رغبات نسائهم و صديقاتهم و خليلاتهم بالبذخ و البهرجة و السهر في المقاصف و المطاعم الفاخرة، البنايات الهشة المدموغة بالاسمنت المغشوش و الحديد غير المناسب و غير الكافي الذي لا يحمل حتى نفسه، تهاوت كجلمود صخر حطّه الغش من زواياه و أعمدته، و كل ذراته، صارخة: سامحوني لا أستطيع أن أحمي عمودا من أعمدتي حتى أحميكم، ثم سرعان ما دفنت ساكنيها أحياء، و هم يرفعون بصرهم إلى السماء صائحين متوسلين: لا إله إلا الله .. لطفك يا الله . ربنا اغفر لنا ، و تولّنا برحمتك ، نحن موتى: { رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (سورة آل عمران 16). دماؤنا و أوجاعنا في أعناق من بنوا بناياتنا، و سرقوا أموالنا. و نجا من نجا، و فاض إلى رحمة ربه كثير من فقراء الناس و بسطائهم الذين لا يملكون قوت يومهم، و دُفنت عائلات بأكملها تحت ركام الأنقاض، و استمرأت البلديات و فرق الإنقاذ المراوغة، و قدّمت أرقاما قليلة عن عدد الوفيات، و عندما علمت أن هناك بعض شرفاء القوم و غضاريفهم و دولا كثيرة شمّرت عن سواعدها و بدأت ترسل المساعدات الكثيرة، زادت الأرقام، و زادت الأهوال، أملا في أصناف الكعك الكثيرة الواردة الشهية تارة، و تلك التي تأبى الكلاب أن تأكلها تارة أخري.
في الهزّة الثانية التي كانت بتاريخ يوم الخميس 16 شباط( فبراير) تمام الساعة الحادية عشرة ليلا و خمس دقائق، أتت أقل قوة من الزلزال الأول، لكن البنايات لم تسلم من قوتها، و هرع الناس من منازلهم، و ناموا في أطواق المدينة، و في البساتين المحيطة بها، و ضمن سياراتهم الخاصة، أمّا الذين كانت سياراتهم غاصة بالوقود فقد أخذوا يتجولون في الشوارع الخالية، و هم يراقبون قطيع السيارات المركونة على الأرصفة الواسعة في منطقة ( المحلّق)، و في اليوم الثاني عادوا إلى منازلهم ليجدوا أن ما عجز عنه الزلزال الأول قامت الهزة الثانية بتجاوز هذا العجز، إذ زادت الصدوع، و تشققت الجدران، و باتت الأعمدة على وشك السقوط، لكنهم رددوا بأسى عميق: { حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (سورة آل عمران 173))، و : ({ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } (سورة الأنبياء 87)، و ردد آخرون المثل الشعبي : ( في المال و لا في العيان) ، أي : الحمد لله ، كانت الخسائر في أموالنا، و ليست في أهلنا و أبنائنا.
في الهزّة الثالثة التي حدثت يوم الاثنين الدامي الثاني، 20 شباط( فبراير) من عام الحزن و الفجيعة و الرماد نفسه 2023 م، و في تمام الساعة الثامنة مساء و خمس دقائق، التي بدت قوية مثل الزلزال الأول، لكنها قصيرة جدا، عادت البنايات إلى ارتجاجها القوي صارخة نازفة، و خرجت النساء و الأطفال، و أصوات استغاثاتهم تملأ الأرض و السماء و تدافعوا على سلالم البنايات، و هم يهبطون نازفين رعبهم و هلعهم، خارجين بملابس نومهم، و لم تستطع كثير من النساء المحجّبات ارتداء أحجبتهن، فخرجن مضطرّات سافرات. و يحدّثنا رجل صادق أنّ امرأة فتشت عن حجابها، ومن وهل الصدمة، لم تجده، و تباطأت في الخروج، فصرخ عليها زوجها الغضنفر: ( ويلك.. أباك و أبا الحجاب.. حمقاء .. بلهاء لأجل الحجاب ستقتليننا)، و شدّها و أخرجها عنوة، و بدون حجاب.
النساء تولول.. الأطفال يلوذون بصدور أمهاتهم.. الرجال الأشداء حاملين شيوخهم و مرضاهم على ظهورهم، لكنهم مدهوشون، غارقون، مهزومون في نخاعهم، و بقايا أرواحهم الميتة. تعطّلت خلايا أدمغتهم عن التفكير، فقط كان الهروب يرتسم عريضا على شاشات عقولهم، فأسرعوا، و ركضوا، و تقطّعوا، و انهاروا، و خرجوا إلى ضواحي المدينة حاملين قطعانهم المرتعدة، و معظمهم التجأ إلى بيت صغير أو كوخ آمن في أعلى القرى و الجبال.
و في الأيام التالية عندما عادت الأسواق إلى فتح متاجرها، أسرعوا و ابتنوا الخيم و الشوادر الجديدة و القديمة، و نصبوها على أرصفة الشوارع العريضة البعيدة عن البنايات. و كعادة تجارنا الأشاوس، و المتاجرين المهرة في فنون الاستغلال و البيع و الشراء، الكاسرة العطشى اللاهثة وراء المال دائما و أبدا، الوالغة في دماء سكان مدينتهم، غشوا و زادوا في الأسعار أضاعفا مضاعفة، و ما خافوا الله و لا رسوله، و لا أي دائرة من دوائر الرقابة أو التموين, و لا الزلازل التي قد تحدث مباغتة وفجأة، و تذكرت أقوال رسولنا الكريم، عليه أفضل الصلاة و السلام، و على آل بيته و أصحابه أجمعين، حين وصفهم صادقا، عارفا بما توسوس به نفوسهم وخلايا دمائهم الملتاثة : “إنّ التجار يُبعثون يوم القيامة فجّاراً إلاّ من اتقى الله و برّ وصدق” ، و : (( التجار فجار، قِيل: يا رسول الله، و لم وقد أحلّ الله البيع؟ فقال: إنّهم يحلفون و يكذبون))، و قول الصوفي الرائع الكبير، رضي الله عنه، الذي ما التقط حبّ سلطان أو وال في دولة أشاوس بني العباس، سفيان الثوري حين جهر بقوله : (( لا تنظروا إلى ظاهر لباس التجار و السوقة فإنّ تحتها ذئاباً كاسرة)).
ونصبوا الخيم و الشوادر، و حتى الغد ، وبعده، بقيت منصوبة على ناصية الشوارع و الأرصفة، و يبدو أنّها ستظلّ إلى وقت طويل، بعد أن صرّح أحد مهندسي العمران العقلاء و الشرفاء و الخبراء الذين يعرفون تاريخ الغش و الفساد في حاضر العمران، و إشادته و دعائمه، قائلا، وبثقة عالية: إن حدثت هزّة رابعة، و بقوة الزلزال الأول، فإنّ ثلاثة أرباع بنايات المدينة و أبراجها ستسقط على رؤوس ساكنيها و قلوبهم المكلومة، لأنّها صارت هشّة متآكلة بفعل الهزات الثلاث السابقة.وبعدها هرع الناس إلى المتاجر و اشتروا الخيم و الشوادر بأبهظ الأثمان. و لا يزالون يلجـؤون إليها نياما ليلا حتى الآن .
****
بناية صديقي فايز عطاف المزخرفة زخرفة خارجية بديعة، و المزركشة في شُرَفها و( بلاكينها)، المطلة على شارعين مركزيين( شمالي وجنوبي)، يمتدان ليلتصقا بالبحر، التي تضمّ شققا عديدة، الهشّة في أعمدتها، المتآكلة في حديدها و صدأها لم تصمد حتى وقوع الهزتين الثانية و الثالثة، بل تهاوت و بكامل شققها ابتداء من الدقيقة الأولى للزلزال الأول، و أصبحت قاعا حزينا باكيا، و هي تدفن قاطنيها، رويدا رويدا.
عليك واسع الرحمة و المغفرة يا أخي و يا صديقي الدكتور فايز عطاف، و على زوجك، و على كل من فتك بهم هذا الزلزال الذي يؤكّد العارفون أنّ سورية لم تمرّ بمثل قوته منذ (200) سنة خلت، و الرحمة و المغفرة على الذين بقوا أحياء، فالفقر و الأهوال و المصائب و غلاء الأسعار فتكت بهم، و لا تزال تفتك حتى الآن، و غدا وبعده، و إلى وقت بعيد و طويل لا يعلمه إلاّ باني السموات و الأرض، ربّنا الكريم في عليائه و عزّه و ملكوته و عرشه.
سلاما لك. سلاما عليك أيها النبيل زارع الرحمة و الوجد و الحلم و الآس في نفوس المرضى المهمَشين المستلَبين المقهورين في فيافيهم القريبة و البعيدة، و مدنهم الآيلة إلى السقوط دائما. سلاما لك أخي و صديقي فايز عطاف.
الجمعة في 17 آذار، مارس 2023م
—————
أ. د. محمد عبد الرحمن يونس Mohammad Abdul Rahman Younes نائب رئيس جامعة ابن رشد في هولندا للشؤون العلمية
مدير تحرير مجلة جامعة ابن رشد الأكاديمية المحكمة