من ضمن سلسلة إصدارات الأستاذ الدكتور مصطفى العارف ووفق المنهج ‘ السيموطيقا’ سعى جاهدا إلى تقديم جمهرة من الأدباء والشعراء للمتلقي بشكل تفصيلي عن تاريخه الشخصي والإبداعي معا ,تأتي هذه المؤلفات والتي تعنى بنشر مادة فكرية واسعة من القراءات النقدية المعاصرة للمهتمين في مجال الدراسات النقدية المعاصرة، في موضوعات وأجناس متنوعة من شعر وسرد …الخ
يعد الدكتور مصطفى العارف من الدارسين للمناهج الحديثة وقد تميز في دراساته الأدبية والنقدية ولاسيما في مجمل مؤلفاته بخبرة الناقد في الطرح والتحليل وجدية المقاربة التي تجمع بين التنظير والتحليل ويلاحظ أنه ينطلق في قراءاته من رؤية الناقد ، ومن تصور أستاذ جامعي له ممارسة طويلة في مجال تدريس الآداب و النقد الحديث, فضلا عن انه من الذين تناولوا المناهج النقدية الحديثة بالدرس والتمحيص وهو يبحر في دواوين الشعراء , مضمونا وشكلا ومنهجا وتصورا.
أكد الباحث العارف ،على أن فكرة التأليف، تسعى إلى الحفر في ذاكرة الأدب العراقي والذي لم يسلط عليه كشاف أقلام النقاد .
أن هذه الكتب هي استدعاء بعض التجارب التي شكلت أفق القصيدة العراقية الحديثة قديمها وحاضرها ورسخت خصوصيتها الآن ، فقد اختار هذه المرة الباحث الدكتور العارف، أن يفتح ملف الشاعر رشيد مجيد الشعري ،والكشف عن تجربة أحد رواد القصيدة الحديثة، لقد كان الراحل من الذين التزم جادا للقصيدة الحديثة ومدشنا للحداثة ومازال إلى اليوم يثير أسئلة من خلال ترسيخه لوعي جديد بالظاهرة الشعرية في العراق.
ويثير الباحث والمؤلف الدكتور العارف ، أن لتيمة المكان حضور قوي لافت في المدونة الشعرية للشاعر ، من دراسة تأثير المكان عليه كونه ابن بار لمدينة الناصرية، جعل المكان تيمة ورمزا من المكونات النصية. كملمح أسلوبي ضمن ملامح بينة واضحة ،في تجربة الشاعر الشعرية”، تجربة ثرية ومؤسسة، وصوت شعري محمل بثقافة جمالية عالية وشعرية.
تظل جهود ألباحث الدكتور مصطفى العارف ممارسة ثقافية عميقة زاخرة ، وتندرج ضمن الطروحات الفكرية بمعطياتها الجمالية والأسلوبية في مجال الدرس النقدي،
ويعني هذا أن المناهج المعاصرة التي يعمل عليها الباحث هي تدشين منهجي متقدم ، يساعد الناقد أو الدارس الحالي على تجاوز المناهج النقدية ذات الصرامة العلمية، بغية الاقتراب أكثر من النصوص الإبداعية بتحليل صورها تخييلا وتجنيسا وتصنيفا وتنويعا وتنميطا0
وخلاصة القول، تعد سلسلة الكتب التي قدمها الدكتور الباحث من الكتب المهمة التي تغني المكتبة النظرية والتطبيقية ، إذ يبشر هذا الكتاب والذي سبقه جرأة في ممارسة الدرس النقدي المعاصر، بعد أن كان النقد العربي، لأمد طويل وما يزال، غارقا في مقاربات مرجعية وإيديولوجية، أو مقيدا بمقاربات بنيوية.
. الكتاب رحلة نقدية في جغرافيات شعرية وأرخبيلات عميقة، عودنا عليها الباحث والناقد العارف، وتجدر الإشارة إلى أنّ الدكتور العارف ماضي يواصل مشروعه النقدي بشكل يُعرّف قرائه المزيد من الشعراء والأدباء ، كي يتيح للقارئ التعرُّف على مزيد من أصوات الشعر وحساسياته الراهنة.
بدا الكتاب بالحديث عن الحركة الأدبية في مدينة الناصرية ,وعقد الفصل الأول لدراسة حياة الشاعر تناول في المبحث الأول :ولادته ونشأته وصفاته وأسلوبه وأساتذته وحياته السياسية وأثاره الأدبية ووفاته وتناول في المبحث الثاني الشاعر رشيد مجيد في نظر الآخرين ..وكانت الدراسة الموضوعية من نصيب الفصل الثاني وتناول فيها : الحب والمرأة وشعر المدينة والشعر الديني والوطني –شعر الرثاء وشعر الحرب ..
أما الفصل الثالث فقد كان للدراسة الفنية وقسمه الكاتب على أربعة مباحث وهي :اللغة والألفاظ –الموسيقى “الأوزان والقوافي” –الصورة وبعض الأساليب البلاغية –الرمز والأسطورة والقناع ..
في هذه الكتاب يضيء الباحث جانبا أساسيا من تجربة الشاعر مجيد رشيد، بقدر ثراء تجربة ألشاعر رشيد مجيد وتنوعها وامتدادها ، بقدر ما نجد فيها ملامح عامة تميزها منذ باكورته الأولى والنشر في الصحف العراقية من بداية القرن العشرين ، وما تزال عالقة في الذاكرة ونحن نطالع قصائده التي تومض من فينة لأخرى حتى يومنا تذكرنا بروح الزمن الجميل. إنها تجربة حملت إبحارا في الوجع ، بكل جوانبه : الإنسانية والعاطفية ، وبعبارة أخرى : وجع يتوزع بين الأسى والحب والاغتراب النفسي، وقد نجد رومانسية مدهشة في ثنايا التجربة، ولكنها تظل ضمن دائرة الوجع ، لأنها تعبر عن عاطفة مشبوبة نحو المرأة المحبوبة .
. أهم ما تضمنه عمل الباحث في هذا الكتاب كان وقفته لبيان فضل المرأة في حياة الشاعر في فصل سمح الشاعر لنفسه بمستوى من الحميمية كان يعلو وينخفض في إيقاع نفسي يتحدد بمستوى قرب هذه المرأة معشوقته – ليلى -على قدر واحد من الحب، حيث يكتب الشاعر نصوصا مؤثرة قولاً وفعلاً، وليس هذا الأمر بالمستغرب من إنسان شاعر حساس وقد ضحية حب فاشل ، فالمرأة أنى كانت حياة الرجل قطبٌ مؤثرٌ،
وإذا كان الشاعر قد مزج بين الهموم الوطنية ومناجاة الواقع القاسي في سجنه , فضلا عن فشله العاطفي ,هذه إشكالات حياتية أصبحت ملتبسة ,وأخذه بعيداً عما يهدف إليه. حيث يكشف الباحث عن فشله في الدراسة فضلا عن معاناة المهن المختلفة من بينها عمله مصور فوتوغرافي , حيث الفقر من الإشكالات الكثيرة التي تواجه الأديب الحساس .
إذ نجد في فصائده ما يواصل الشاعر البحث عن اللفظة المواتية لاختزال المسافة بين المعيش والمتخيل، ساعيا إلى المجاورة بين التذكر والتبصر، بين الخيال والواقع، في صور شعرية أشبه ما تكون بصفحة ماء هادئة باطنها يخفي ما قد يشي به ظاهرها، بلغة تنهض على بلاغة التكتم والمفارقة، وتستقي نبراتها من إيقاع الرؤيا
آثر الباحث على كشف تداعيات نفسية لها عظيم الأثر على مستوى ونوعية شعره . وهو ما سيتم رصده في هذا الكتاب ومن خلال هذه التجربة ، فلا يمكن أن يقرأ الطرح الرؤيوي بمعزل عن اليومي، تدهش القلب ، وتشحذ العقل ، وقد جاءت جماليات النص معبرة بجدة عن الحالة النفسية ، وأيضا عن رؤاها في الحياة بكل ما فيها من تناقضات ومشتركات ، ولكن اللافت في التجربة – جماليا – أنها قدمت أطروحات فارقة ، من ( الاستعارة والتشبيه والرمز .. إلخ ) ،
وتأتي هذه القراءة لتشير– لبعض الجماليات التي تزخر بها تجربة شاعرنا، وهي جماليات تعكس – أولا وأخرا – رؤية للحياة ومكابداتها، تبدو في الألفاظ والتراكيب . ولعل اختيار المنهج السيميوطيقي الذي يطرح آليات جديدة في قراءة النص الشعري ، حيث تتحول العلامات في النص ، امتلاءً في المعنى والبنية ، وتجعلنا نعيد قراءة النص في ضوء هذه العلامات ، مع الأخذ في الاعتبار جماليات الاستعارية والمجازية ، وهو ما يجعل المتلقي يقرأ هذه العلامة في ضوء ما يطرحه النص شعوريا وفكريا، فلا يمكن فهم العلامة إلا في إطارها النصي ،
وتزخر تجربة ألشاعر بشعرية واضحة ،وتكاد نصوص كثيرة لديه تقترب من الدراما الشعرية بكل ما تعنيه من شخوص وأحداث وحوارات ، ولكن الطابع المميز لها في تجربة الشاعر قدرته على مزج الحدث الدرامي بالتخييل الفني ، ليحافظ على وهج النص ، بقدر ما يسعى الباحث إلى قراءة ما تحتويه من دلالات فتية وجمالية، من تمزق ، وتربص به ، من خلال العلامات في النص معبرة عن رؤية الشاعر لهذه المأساة، فهناك إلحاح في النص على ذكر ألفاظ بعينها تكتسب في السياق النصي دلالة سيميوطيقية،القصائد المختارة من دواوين الشاعر المهمة هي مزج من تفاصيل الحياة الواقعية للشاعر بمشاعر إنسانية رقيقة وعميقة، الخروج عما هو مألوف في الشعور واستشعار كل ما يحسه الإنسان وما يفكر به ويخط تلك المشاعر، سواء كانت حزينة أو سعيدة، هادئة أو غاضبة.
الشاعر في هذه القصائد هو مترجم لكل شعور أنساني مهما بلغت رقته وشفافيته يجد له الكلمات التي تعبر عنه مهما بلغت رقة ذلك الشعور، فهو يستعمل أدبه أيضاً بحرفية الجراح حين يُمسك مبضع الجراحة، وكلما كان وصفه دقيقا لذلك الشعور الرقيق المختفي خلف النظرات والكلمات والأفكار أو حتى الصمت نجح بترجمة الحالة الإنسانية التي يكتب عنها، الأديب الحقيقي هو الروح اليقظة والمراقبة والمتنبهة للألم والمعاناة،
. فالحياة في عالم الأدب تتحول إلى مسرح ضخم يراها كل كاتب بنظرته الخاصة، وربما لهذا السبب يبدو أن الأدب من أكثر الفنون الإنسانية ثراءً، لأنه يحمل كل ذلك الإرث الفكري والإنساني لفئة من البشر.
ومن الموضوعات التي نصادفها في الكتاب ان الباحث يؤكد على العلاقة بين الإبداع تجربة الشاعر العاطفية والإنسانية من الضياع والتمزق النفسي والاضطراب الداخلي والقلق الوجودي والغربة الذاتية والمكانية وكل هذا جعل الشاعر يعاني من الملل والسأم والضجر واللامبالاة والقلق، بسبب تردي القيم الإنسانية وانحطاط المجتمع.
ومن خلال الصورة المجازية المشحونة بكل تلك المظاهر السلبية والتي تأتي بها دواوينه للتعبير عن تلك الأزمات النفسية ، والتعامل معها على أنها كيان حي له وجه وسمات مرئية ملموسة،
ها هي القصيدة تمضي بشاعرها إلى الأقاصي.. أقاصي الوجيعة والألم حيث الحروف والكلمات ملاذ بوح وقول فادح في حساسيته تجاه الأحوال والشؤون والشجون.. أنها أمنيات الشاعر تجاه ما تداعي من الأحلام.
قصائده هي من عوالم الكتابة بتلوينات أحوالها وتنوع شواسعها حيث يمضي الشاعر حاملا شيئا من شجنه وحزنه المعتق يلوذ بالكلمات معانقا أحزانه ,يسكب في ذاته المتداعية ما سال من أحزان الروح..
هكذا هي الذات الشاعرة المدججة بالقلق والأسئلة تمنح صاحبها حالات من الوحدة وهو المثقل بهموم القصيدة. .أنها فسحة الشاعر بما تضفيه من لوعة وحسرة وقلق وهو الحالم بالكلمات تبعد عنه ألم الوحدة وجراحاتها.. الشعر هذا الحاضن للمعنى حيث لا مجال لغير القول بالقصيدة تذهب الحزن وتعلي من شأن الذات
حيث يرى الباحث الدكتور مصطفى العارف بأن الشاعر يعمل “على مطاردة تفاصيله هي صوت الشاعر بكل تشظياته وتعدده الداخلي… يكتب الشاعر نصا يحاور الذات- المعشوقة- العالم والأشياء، ويقترب من الواقع ويتنصل منه، وانصهارها مع لاوعي المتلقي وإدراكاته الخارجية، التي يأتي مشحونا بها حيث يلامس النص.
ان التصوُّر الشعري الذي انطلق منه الباحث في رؤيته لوظيفة النقدية لدراسة الشاعر أنسانا، وشعريا . فهو يرى أنّ الشعر هو نتاج الحرمان ومكبوتات اللاشعور ، والسبيل إلى الإدراك وإعادة اكتشاف الحرية باستمرار. كما أنّ الشعر هو المفتاح الرئيس لتأويل الثقافة والتعبير عن حالتها الصحية وعافيتها، وهو حجر الزاوية الذي يطبع طرق إلهامها ويؤشّر على فعاليّتها. وهكذا، فإن الشعر عند الشاعر بمثابة طريقة للمقاومة والتطلع إلى عالم أكثر أماناً
وبعد، لقد أصبح الشاعر يجمع بين هموم الذات وهموم الجماعة ، يروم كشف الواقع واستشراف المستقبل متنقلا من التفسير إلى التغيير. وبمعنى آخر،” لقد أصبح وعي الشاعر بالذات وبالزمن وبالكون مرتبطا بوعيه بالحرية ، وإدراكه للتحدي الذي يهدده، بالقدر الذي يهدد وجوده . الأمر الذي جعل موقف الشاعر من الذات، ومن الكون، ومن الزمن والسلطة، موقفا موحدا، تمليه رغبته في الحياة
إن الصراع بين الموت والحياة في تجربة الشاعر يعني في آخر الأمر الصراع بين الحرية والحب الذي يجعل الثورة وسيلته،
وينتهي الكتاب عند انتهاء رحلة الشاعر مع صراعه مع الاكتئاب والاغتراب النفسي حيت ينتقل إلى العالم الآخر بلا وداع , هذه تجربة حياة شاعر مجدد ومن خلالها يؤطر تجربة رائدة وأحد رموزها الذين رحلوا الشاعر رشيد مجيد ، والذي سخر شعره لتصفيّة حساب مع السلطة القاهرة والحزن والفشل العاطفي..