تمثل الحرب العراقية – الإيرانية حدثا صاعقا هز الحياة العراقية،وخلخل أركانها، وسبب تدميرا في بنيتها الاقتصادية والروحية والاجتماعية، وادخل الشخصية العراقية في علاقات مفارقة أنتجت جيلا من المتملقين وفاقدي الضمير والآلاف من القتلى والمفقودين والمشوهين، كما زعزعت السلام والطمأنينة، وخربت البنية الأسرية بعشرات الأحداث التي لم تألفها الحياة العراقية: المفقود الذي يعود ويجد زوجته على ذمة أخيه مثالا صارخا على ذلك، أو الجندي الذي يدفن بديلا عن شخص آخر، يعود ويجد قبره واسمه وقد شطب من سجلات دائرة السجل المدني وغيرها!!
وبهذا المعنى سنطرح أسئلة عديدة عن جدوى واتجاه الروايات التي تتناول هذه الحرب بعد مرور أكثر من خمسة وثلاثين عاما على توقفها في آب 1988، وهي فترة قصيرة نسبة إلى أعمار مؤلفين من أمثال الروائي احمد إبراهيم السعد الذي عاصر هذه الحرب واشترك فيها،فهل قدم الروائي شهادة فنية ( روائية ) عن هذه الحرب ام استذكر أحداثها كما فعل العشرات من الروائيين والقاصين الذين كتبوا عن وقعها على الذات العراقية،وما أحدثته من خراب ودمار وضياع.
…………………
نلاحظ أولا أن عبارة (احمر أفضل من ميت) عنوان الرواية التي كتبها الروائي احمد السعد (منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق/2022 ) تحيل إلى عبارة مشابهة لها أفرزتها الحرب العراقية الإيرانية تقول (جبان أفضل من شهيد)،وهي عبارة تكشف علاقة الذات مع موضوعة الحرب،وإذا دققنا المعنى الذي تعنيه العبارتان، سنجد أنهما كناية ساخرة عن تورط الذات وهي تستجيب لنداء الحرب،والعبارتان تؤكد احدهما الأخرى: الأولى تضحي بالهوية الشخصية- الوجه، والثانية التخلي عن المنزلة المعنوية التي تسبغها الشهادة على شخصية المقاتل الذي دفع إلى خوض حرب لا تعنيه، وسط ضجيج الإعلام والشعارات الطنانة التي روجت لها السلطة المسؤولة عن الحرب آنذاك،وكان اختيار الفرد العراقي في تجنب خوضها، يبدو مستحيلا وسط تهديدات بقتله أو تغيبه في الظلام بتهمة الخيانة وعدم تأدية الواجب الوطني الذي حمله الشعار ( العراق وطن الجميع وحماية أمنه مسؤولية الجميع).
وهذا الشعار صحيح بمعناه اللغوي ودلالته عن علاقة المواطن بوطنه، غير أن تحري المعنى عن صحة القسم الأول من هذا الشعار بعد مرور هذه السنوات الطويلة (نحن في العام 2022)، سنجده فارغا من محتواه، بسبب العلاقة المرتبكة بين السلطة والمواطن فالوطن لهم ولنا ( حق) الدفاع عنه !! أما القسم الثاني من الشعار فقد دفع الآلاف من الشباب العراقي قسرا إلى نار الحرب الملتهبة واسكن الآلاف منهم القبور وعوق آخرين بعددهم أو أكثر !!
هذه الرواية وتاريخنا المعاصر
سنتعرف على حقيقة تاريخنا المعاصر من تعريف دقيق للمؤرخ العربي ابن خلدون الذي لخصه بتعريف شامل يحمل وعيا مبكرا حين قال: «أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتآنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال» (المقدمة ص57). المصدر
https://ar.wikipedia.org › wiki › تاريخ
وهناك تعريفات وأفكار متنوعة عن التاريخ، لا نريد أن نخوض فيها بل نكتفي بهذا التعريف الشامل الذي ثبته ابن خلدون بعبقرية وتشوف دقيق وهو ينظر إلى المستقبل!!
ولكي يكون هذا التعريف ملائما لتوصيف تاريخ الحرب العرقية- الإيرانية التي ابتلينا بها فسوف نضيف إلى هذا التعريف بضع كلمات تكشف أنها كانت – على الرغم من الأوصاف التجميلية لها من قبل مشعليها- في حقيقة أمرها تحقق ما تعرض له العمران (مثل التوحش والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض كما يقول ابن خلدون بحق بعد حذف كلمة ( التآنس) التي لم نجد لها واقعا في حياتنا المعاصرة !!
ورواية ( احمر أفضل من ميت) تقرا تلك الحرب قراءة مختلفة عن معظم الروايات العراقية التي تناولت أحداثها المأساوية وتوقفت عند نتائجها المرعبة، أو تلك الروايات التي مجدت الانتصارات الوهمية بما سمي وقتها بروايات قادسية صدام التي كرستها الروايات التي كتبت أثناء الحرب، وكشفت الأيام التالية زيفها وتلفيقاتها المتنوعة!فالحرب العراقية – الإيرانية قد ترسخت أحداثا ونتائج وخسارات في الوجدان العراقي الجمعي، وما زالت نتائجها تظهر إلى العلن بين فترة وأخرى، وما يهمنا هنا وجهة نظر الشخصية الروائية ( وسيم) تجاه هذه الحرب، لان نتائجها وتداعياتها على الذات العراقية قد أشبعت في الكتابات الروائية العراقية وغير الروائية ،لكن التجربة الفنية المستخلصة من الحرب التي خاضها وسيم على هامش أحداثها هي التي تشكل انجازا روائيا متقدما ،بعيدا عن التسجيلي في تفاصيل المعارك وما يعانيه المقاتلون منها، وتعبر بنا إلى ضفاف مستقبلية خاضها بطلها ليصبح نموذجا يحتضنه الواقع الجديد بتغيراته العجيبة.
لقد تناولت هذه الرواية مفردة مهمة من مفردات الحرب الكثيرة تتعلق باستجابة الفرد العراقي لها أو رفضها أو الإعفاء عن خوض غمارها ، من خلال ثلاثة نماذج :وسيم الذي يمجد الحرب وينعم بالأمان من ويلاتها بوصفه ( كاتب حرب)، وعابد الرافض للالتحاق بها ويفضل الموت على ذلك ، وهو يبتكر شعار( احمر أفضل من ميت) الذي اعتلى عنوان الرواية، وشغل بؤرة دلالية فيها سننصت لها ونفصل في دلالتها. أما النموذج الثالث فهو (عذاري كوسج) قاطع التذاكر في محطة قطار المعقل،المعوق الذي نظر إلى ساقه المبتورة التي أكلها الكوسج عندما كان يسبح في النهر وهو صغير وهو يردد عبارة (ربي أحمدك وأشكرك ص47 ) عشية الإعلان عن الحرب،وسط خوف وحسد رواد المقهى من عوقه، ليصبح نموذجا لآلاف الجنود الذين عوقوا أنفسهم كي يتجنبوا خوض غمار الحرب!!
سارد غير موثوق به
تسرد أحداث الرواية من وجهة نظر (وسيم نعمان) الذي يمتهن الكتابة الروائية التي تمجد الحرب ،وهي صفة لموصوف من المتملقين للنظام، يكتبون روايات وقصصا تمجد الحرب وتصف جنودها أبطالا استثنايين ( لا يموتون ) بدعوى دفاعهم عن الوطن المقدس! ليصبح وسيم نموذجا لهم في هذه الرواية، يردد بفرح غامر عبارته :(أنا اشعر بفرح خروجي من الحرب بكتاب رسمي ممهور بختم احمر ص46 أدق جرس دراجتي واردد مع نفسي :غدا سأطير بورقتي الرئاسية إلى دائرة التجنيد ص47) والختم الأحمر أمر سلطوي بإعفائه من واجب الذهاب إلى جبهات القتال متخلفا عن أقرانه في المواقع الخلفية الآمنة مع مجموعة كبيرة من أمثاله في الواقع المعيش!!
وتكشف سيرته الذاتية انعطافات مهمة،بين تاريخ تألقه وانطفاء دوره، بالعلاقة الجدلية بين تاريخ اندلاع الحرب وانطفائها بشكل مفاجئ وبين سيرة حياته،تلك العلاقة التي يشتبك بها مصير الفرد مع السلطة،صعودا وانخفاضا،فقد سجل صعود نجمه في الرواية التعبوية تضخما لدوره يسجله إزاحة كتبه لكتب مهمة لكتاب عالميين كما يقول وسيم مخاطبا أمه (أفرغت جانبا من مكتبتي من رواية ( الحرب والسلام، مائة عام من العزلة،الساعة الخامسة والعشرون،نقود مزيفة، …ورصفت مكانها رواياتي وقصصي، ص11…..) لتحل مكانها رواياته عن الحرب (وصورتي بشارب كث، وبذلة زيتونية على الجانب العلوي لظهر الغلاف.الصورة لم تتغير مع كل كتبي،ومقالاتي التعبوية،والمادحة في الصحف والمجلات…ص90
تبدأ أزمة وسيم بسقوط النظام الذي صنع منه كاتبا،وستكون رحلته إلى المهجر ثم عودته متخفيا إلى العراق،متنا روائيا،يسجل فيه السارد/ الشخصية سيرته الذاتية ابتداء من فيضان البصرة عام 1969 ،بذلك المشهد المؤثر الذي رسمه السارد لعائلته وهي تقاوم الموت بطرق بدائية تكشف ماضي حياة عائلته الفقير :( كان عمري ثلاث سنوات وبضعة أشهر،عندما رأيت ابتسامتها وأنا داخل قدر طبخ معدني كبير يطفو على ماء الفيضان.سحبتني يدها، وسمعت خطوها الثقيل في الماء الداخل إلى بيتنا..وضعت صرة النقود والمصوغات الذهبية في حجري، ورأيت وجهها المبتسم يقول لي: إياك أن تلمس شيئا ص12
كان فيضان البصرة أول حدث حاسم في حياة عائلته الصغيرة: وكان سببا في موت أخته عطارد تحت أنقاض جدار البيت الذي قتلها وشرد العائلة في أول هجرة قسرية أحدثتها الطبيعة ضد الإنسان، أما هروبه من بيته إلى المنفى الاختياري فكان عقوبة له،على اصطفافه مع السلطة التي مجدت الحرب بوصفها دفاعا عن الوطن. وهو يعترف في عبارة بليغة إلى أمه بأنه قرر ( الهرب وليس السفر)بسبب قصصه ورواياته ( هناك فرق يا أمي، هربت ولم أسافر، هربت من قصصي ورواياتي التي كتبتها عن جنود لا يموتون في حربنا …) ثم يضيف ( جنود الحرب المنتصرون في كتابتي سيهددونني بالقتل حين يتصالحون مع جنود الواقع ص10) كان ذلك استذكارا لوسيم العائد إلى وطنه بعد وفاة أمه، من خلال تقنية ابتكرها الروائي إذ يتصور دخوله(إلى رأسها وشاهدت العديد من البقع السود ص10 ) ليكتب تصورا عن حياتهما وحواراته معها حول قضايا مصيرية كالحرب التي أصبحت نقطة سوداء في حياته.
يهتم الروائي احمد السعد، بتاريخ شخوصه الروائية ومنحدراتهم الريفية،وانتقالهم إلى المدينة،حيث تشكل الهجرة القسرية أو الطوعية من الريف إلى المدينة،انتقالا في القيم والعادات التي تعطي حياتهم قيمة واعتبارا، بوصفها قيما ريفية تمجد علاقات القرابة ورابطة الدم بين أفراد المجتمع القروي، لكنها تتعرض للاهتزاز والمحو التدريجي في حياتهم القادمة، حين يتوطنون في المدينة،ويتأثرون بقيمها وأخلاق ساكنيها،الأمر الذي يخفف من عبء تلك العادات في مجتمع المدينة،ويدعو حاملها إلى التغاضي عنها والسير على وفق مفاهيم غريبة عنه، ويبدو ذلك جليا في ضعف وعي نسيم وانصياعه إلى المصالحة مع ذاته،وانسياقها إلى تمجيد أنانية الذات ودفعها إلى التصالح مع السلطة، دون تفكير بالمحيط الذي كان ينظر إلى نشاطه في الكتابة نظرة سخرية واستخفاف بشخصه، يتضح ذلك من تعليقات أقرانه الساخرة على نبرة صوته النشاز،التي تصدرها أوتاره الصوتية في حالة الفزع ب( صرخة العاهر)ويفسر وقعها على ذاته ( لا شك أن تلك العاهر هي حقيقة خوفي، تظهر معه وتختفي دونه،) ص42 والصوت جماع الشخصية وحين يلصق بصفة عاهر ولا يغادرها، عند ذلك تصبح دالة على غربة عميقة بينه وبين معارفه ومحيطه الذي ينبغي أن يكون متآلفا معه.
لقد جسدت سيرة حياته المسرودة بصوته سخرية مرة، عن ماضي حياته وهي تزرع أشواكا في طريقه إلى التصالح مع الواقع الجديد بعد التغيير،ليصبح تاريخ الحرب ومآسيها قيدا يطوق ذاته، ويجعلها تمتهن التخفي عن الأنظار!! وتلخص عبارة فردريك نيتشة التي وضعها الروائي في متن روايته، سيرة حياته التي تشبثت بالزائل واليومي للخلاص من تعقيدات الحياة إبان الحرب، يقول فردريك نيتشه(حكمة أخرى وضرب اخرمن حماية الذات تتمثل في أن يتلافى المرء قدر الإمكان رد الفعل،وان ينسحب من الوضعيات والعلاقات التي تجعله مضطرا إلى تعليق حريته ومبادرته الشخصية ليتحول إلى مجرد آلة رد فعل ص99 وسيكون تعليق زوجته الأجنبية جيسيكا على هذا الكلام تأكيدا على أنانيته وحماقته: (أنت آلة رد الفعل يا وسيم، السلطة لم تتزوجك عنوة،أنت الذي كنت تتلذذ بمداعبتها لك، وكان رد فعلك هو التمدد على سريرها ص99) وهي حقيقة شخصية وسيم الذي كان يتلذذ بمداعبة السلطة له،كنموذج لعشرات الكتاب والروائيين الذين افرزتهم الحرب وكانوا من فرسانها!
لقد التزم معظم من كتبوا عن تلك الحرب بصمت مطبق عن كتاباتهم تلك ،ولم يعتذروا عنها بنقد ذاتي وفضل العديد منهم الهجرة إلى المنفى، أو الاندماج مع واقع التغيير الذي حدث بالروح الانتهازية نفسها، لكن ( وسيم نعمان) عمد إلى الاعتراف أمام ذاته والآخرين بان كتاباته كانت رصاصات قاتلة موجهة للناس، ثم عمد إلى التبرؤ من تاريخه وكتاباته،لغرض تطهير ذاته من الدنس الذي لوثها وافقدها هويتها ، فلجا إلى حرق تاريخه وكتبه التي تشير إليه في نزوع إلى التصالح دون جدوى، وقد كتب واصفا تلك اللحظة من حياته :(عند حاوية أزبال تتوسط قطعة ارض مهجورة أشعلت رواية ( ألوان طيف الانتصارات) التي أحرقت تباعا كل الكتب، والمجلات والصحف(….) وشاهدت صورتي في ظهر غلاف الرواية وهي تحترق،كان شعورا يشبه الإيفاء بدين قديم قلت : انظر إلى ذلك الكذب الذي يحترق بسهولة ص105)ثم يلخص مرارة انخراطه في تمجيد الحرب وإعلاء شانها برواياته وكتاباته الصحفية ضمن عبارات موضوعة بين قوسين، خارج متن أحداث الرواية تكشف وجهة نظر ( وسيم) عن الحرب والحياة،تلخيصا وتكثيفا لتجربته بعد أن انتهت الحرب، وأصبحت ماضيا، لا تأثير مباشر لها عليه وعلى غيره فيقول: (أن تضع رواياتك،وقصصك ومقالاتك، وقصائدك التي كتبتها في حب القائد والحرب وتتبول عليها، وتتركها تجف لتحرقها في مكب أزبال بعيد، هذا لا يعني انك بدأت الصدق الآن بل لأنك تأخرت فيه مع بقاء السلطة ص91 )
هناك العديد من هذه الجمل الشرطية التي تكثف تفاصيل تجربة الحياة التي عاشها وسيم مهدي وتعلن بالوقت نفسه دخول المؤلف فضاء الرواية وهو يسهم في تغذية تمرد وسيم على وضعه القديم تجاه المصالحة مع الواقع الجديد دون جدوى!!من هذه العبارات ما يشي بذلك:(أن تستيقظ صباحا وتشعر انك غريب في بيتك وتبكي،ذلك يعني أن تجد الحل لتستعيد لاقتك مع وطنك ونفسك ص89 )لكن عبارة سابقة لهذه العبارة تشي بصعوبة ذلك: (أن تأتي إلى بيتك خلسة بعد سنوات هروب، وبعد منتصف ليلة في العام 2013،وتطلب من السائق أن يطفئ مصابيح سيارته…هذا يعني انك ستكرر هروب الخوف من جديد،لكن داخل بيتك ومن وطنك هذه المرة !! ص62 )
ان مبدا مصالحة الذات مع الآخر الشامت والساخر منها بفعل اندفاعها في مساندة الحرب، تمثل إشكالية معقدة في هذه الرواية، تتماهى مع ما يجري في الواقع،الذي ينظر الى العلاقة مع السلطة نظرة شك واستنكار وغضب.
لوحة أقدام غريبة تذكره بالوطن
يمتلك وسيم خيالا جامحا مؤطرا بأحلام وكوابيس دشنتها حياته في الريف،وتحتشد في مخيلته صور وأفكار غريبة:طيور ملونة وهو يقودها محلقا ( على جناح طير ازرق، وسرب الطيور الملونة يتبعنا بأصوات مختلفة ص20)، يتحدث مع الدجاج مدعيا معرفة لغتها، وهو يعتقد بان (الريش المتحرر من أجساد الطيور الحبيسة هي أرواحها المتمردة، بالضبط مثل إيمان أمي أن الثياب الممزقة بسبب العراك تأخذ معها قبضة من الروح ص22 )
وكانت أحلامه عن الطيور تشكل واقعا موازيا لحياته،تزوره في الحلم، وتتنبأ بالقادم من حياته، وحياة أهله ، ومن أحلامه: أنه سيعيش ثمانين عاما، وان أباه الضابط في الجيش ( سيموت وعلى كتفه نسر ص23 )ولذلك عمد وسيم على سرقة كل النسور الذهبية التي يحتفظ بها أبوه ، دفعا لموته القادم فاضطر أبوه إلى رسم نسر على كتفه بالقلم ألماجك الأصفر!!.،وسط سخرية أمه (وهي تشاهد زوجها الضابط يرسم على كتفه نسرا بقلم ماجك اصفر ص26 )
ومن خلال مخيلة وسيم يرسم المؤلف لوحة سريالية عجيبة عرضها 50 سم وطولها 40 سم بأقدام عائلته مطبوعة على قطعة قماش ابيض يحملها معه في هروبه إلى المنفى، فيها أقدام أمه وأخواته وقد طبعت بالحبر الأسود على هذه القطعة ( إطارها اسود،وفضاؤها كفن أمي الذي اشترته ليذكرها بالموت، سرقته من خزانة ثيابها، كي اصنع طبعات الأقدام الصغيرة والكبيرة منها ص6 ) ولكي ( لا تصيبني لوثة النسيان دونت بدايات حروف أسمائهن في فراغات خطوط الأقدام. أشاهد الحرف فأتذكر الوجه، أتذكر الوجه وأتجاهل الاسم، تبتسم وجوه أقدامهن بوجهي كل صباح،وتترك الأسماء غصة تمسك بأحشائي ص7 ) وحين تسأله زوجته الأجنبية جيسيكا( لم سجنت أقدامهم داخل لوحة؟ يجيب : كي لا أتيه ص7)
وهي إجابة تضمر دلالات وتداعيات وأفكار جسدتها رحلته !
احمر أفضل من ميت
يتصدر مانشيت ( احمر أفضل من ميت )شاشة إحدى الفضائيات التي تقدم تقريرا يفيد :(وجود شخص مجهول في العاصمة بغداد يكتب بمداد احمر عبارة ( احمر أفضل من ميت)على جدران البيوت، واسيجة المؤسسات والدوائر،وأبواب المحال، وكبنكات الدكاكين،ولم تستطع كاميرات المراقبة التقاطه،لذلك سمي في بغداد ( شبح الكتابة الحمراء) ص98 )
ويسرد وسيم سيرة حياة صديقه ( عابد) الذي يشكل نصفه المناقض، بصفات استثنائية، فهو(شخصية إشكالية فوق ما تتصورص109)( كان يكتب عبارات عل جذوع أشجار الحديقة وكنت أدون ما يكتب في دفتر صغير ص110)ولم يكن عابد ( عابدا)، بل كان كما يصفه رجل الأمن (شيوعي ومتآمر نجس ص48 )،وهو الذي ابتكر الجملة- اللغز ( احمر أفضل من ميت) ونحتها على جذع شجرة،ثم – بعد أن انتشرت نيران الحرب- أصبحت شعارا مألوفا يراه المارة على جدران المنازل واسيجة الحدائق وغيرها، ويوضح وسيم زمن كتابة هذه العبارة وعبارات أخرى كان وسيم يدونها في دفتر صغير( كان يكتب مثل هذه العبارات على جذوع أشجار الحديقة،وكنت أدون ما يكتب في دفتر صغير،ومن جملة ما كتب عبارة ( احمر أفضل من ميت)بعدها تم إلقاء القبض عليه من قبل رجال الأمن، وأنا انظر إليه من بعيد في حيرة من أمري ص110 )
وإذا كان وسيم لا يعرف معنى عبارة صديقه هذه، مع انه دونها في دفتره الصغير،فان صفحات الرواية البالغة135 صفحة،تتستر على هذا المعنى أيضا لتغذي تطلع المتلقي إلى معرفة ذلك،ولذا سنستعير عبارات أخرى مقاربة لمعنى العبارة، تتعلق بموقف عابد من الحرب، فقد أعلن لصديقه وسيم: (دققت جرس دراجتي بإلحاح لاطرد من تفكيري فكرة انتحاره التي قال أنها أفضل من سوقه إلى الجيش ص40 وهي تعديل لمعنى العبارة الشائعة عنه : احمر أفضل من ميت.
كان عابد رافضا للحرب، ويعمد إلى تجنبها،حتى بالانتحار، لكن فكرة ( غير المشمولين للتجنيد بسبب شيخوختهم أو عوقهم ص46 )وهي تتجسد أمامه بشخصية( عذاري كوسج) الذي أكل الكوسج ساقه اليمنى،وكان يردد أمام رواد مقهى خمسه ميل وهم يتحدثون بخوف عن الحرب القادمة (ربي أحمدك وأشكرك)كانت فكرة ملهمة له ولعدد كبير من المشمولين بالتجنيد إلى الحرب،وكانت نظرة الخوف والحسد لجميع رواد المقهى الأصحاء إلى ساقه المبتورة، حافزا لعابد ولغيره لقطع أجزاء من جسمهم او تشويه يطال أجسامهم ليشملهم العفو !!
لقد صور هذا المشهد المكثف في الرواية،نماذج بشرية تجنبت الحرب ببتر متعمد لأجزاء من الساق أو اليد أو تشويه بليغ يجنبهم خوض الحرب، إضافة إلى التقنيات التي ابتكرتها السلطة للعقاب ببتر صيوان الإذن التي شاعت عبر فتاوى لرجال دين لا يعرفون الرحمة أو وجه الله.
تقنيات مبتكرة وأفكار لمقاومة الحرب
يبتكر الروائي احمد إبراهيم السعد تقنيات يغذي بها مخيلة بطل روايته وسيم والشخوص المحيطين به ، أمه،أبوه، صديقه عابد وصديقه الجديد –سيمون/عباس)السائق…بأحداث وحكايات وعبارات خارج المتن الروائي تكشف إعانة المؤلف للسارد،وتوسيع عالم الرواية،بالدلالات المتنوعة التي تسهم في إثراء واغناء احداثها المحدودة بعالم وسيم الى افاق اخرى وابتكار شخصيات ثانوية لها دور في اعلاء هذا المنحى.
أول المبتكرات صندوق صغير ( كاكي اللون رسمت وسط غطائه علامة (+) حمراء،ص13)، كان وسيم يتطلع إلى معرفة ما بداخله،وحين سال والدته عن محتويات الصندوق قالت فيه يختبأ ( جندي صغير ص13( جندي صغير وجده أبوك محشور في جبال الشمال ص14 ) وعندما يسألها عن سبب سجنه في الصندوق تجيبه:(حتى لا يرجع للحرب ص14 ) ثم تؤكد له إذا ( شافه احد يكبر الجندي ص14) لكنه حين يفتح الصندوق لا يجد فيه (غير وصولات الماء والكهرباء، وصورة مقصوصة من غلاف كتاب عسكري لنوري السعيد،…الصفحة نفسها)، وابتكار شخصية جندي لا يكبر ويتخفى في صندوق صغير حتى لا يكبر ويشمل بالتجنيد ، وهي فكرة وكناية عن رفض الجميع للحرب!!
كما يستثمر الروائي القصة القصيرة تقنية لظهور الأصوات الأخرى التي تتنفس هواء الرواية، وهي تسجل موقفا عن تآلف مجتمع الرواية، كتعبير مجازي عن واقعنا المتآلف قبل أن يبدأ التخريب،والقصة تحمل عنوانا ملفتا للنظر (عباس سيمون وسيمون عباس – حكاية الصورة وصورة الحكاية ص86 )
يسرد الحكاية كتابة سيمون /عباس السائق الذي رافق وسيم في عودته من المنفى ، وتشير تفاصيل الحكاية المنشورة في صحيفة محلية،إلى تلك العلاقة الحميمة بين عباس بدر ( والد السائق) وسيمون موسيان الارمني وقد التقطا صورة تضمهما مع زوجتيها الحاملين ، وتعهدا أمام زوجتيهما أن يطلقا اسميهمها على الولدين:(إذا رزق عباس ولدا سيسميه سيمون،وفي حال رزق سيمون ولدا سيسميه عباس ص87 ) عرفانا بالصداقة وإلغاء لكل الثنائيات التي تفرق الناس وتجعلهم مختلفين بل أعداء على وفق ذلك!!
أما المفارقة الثانية فهو اضطرارهم بسبب الظروف الخارجة عن ذواتهم لتغيير أسماء ولديهم حين التقيا بعد سنوات طويلة :سيمون إلى احمد وعباس إلى أثير.
يقول سيمون السائق ( تغيرت ملامح أبي،الذي غير اسم ابنه من سيمون إلى احمد، واخل باتفاق تبادل الأسماء، بكى أبي من الخجل، وأكثر من الاعتذار،وطرح الدوافع والأسباب،(…) سيمون الأب عانق أبي وأجهش بالبكاء أيضا (معترفا لأبي)قائلا(بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر اضطررت أن أغير اسم ولدي عباس إلى أثير…في خضم الضحك صاح أبي بصوت مرتفع : أثير. فلم نسمع أحدا قال: نعم !!ص 87 )
وجه احمر لا يشيخ أو: أأتخلى عن وجهي أو عمري؟؟
تسرد الصفحات الأخيرة من الرواية، حياة ( عابد) بعد نهاية الحرب،وهو يعيش على هامش الحياة، في محل لبيع الأصباغ، لا يعرف له اسم ويلقب ( بالأحمر) .وحين يلتقيه وسيم يسرد عليه تفاصيل حرق وجهه ( بماء النار)حتى يتخلص من الالتحاق في جبهات القتال، أما الثمن فهو عبارة كان يرددها هي (شجاعة التخلي) التي يلخص معناها ( ان التفوق لا يكمن بما نريده من الحياة،وانما لاستعداد للتخلي عما فيها، واسماها (شجاعة التخلي) ص118 ) اما حرق الوجه فقد جنبه الحرب حين أصبح (مسخا متحررا أفضل من وجه ادمي مطلوب لخدمة عسكرية أو العودة إلى سجن مؤبد ص119 )وكان عابد يردد (انه من السهل جدا أن يكون الإنسان مطواعا غير انه لن يفعل ذلك لأنه: لا يحب الحياة،يشمئز من آدميته،يكره الخوف لأنه حالة إنسانية دبقة وزئبقية، ويكره الحب لأنه صلة وصلب الحياة والعائلة ص45
لقد أفرزت الحرب شخصيات إشكالية ، بعضها رفض الالتحاق بالحرب ، مضحيا بوجهه/ هويته التي يعرفه الآخرون بها كشخصية ( عابد) الذي لم يعرفه والداه بعد تشويه وجهه، على حساب انتصار شعاره ( احمر أفضل من ميت ) الذي يدعو إلى رفض الحرب بوصفها آلة تدمير وقتل، وأصبح نموذجا لأعداد كبيرة من الناس الذين بتروا أجزاء من أجسامهم كي لا يلتحقوا بجبهات القتال، أما الصنف الثاني فهو نموذج (وسيم ) الانتهازي الذي يستغل الحرب لصالح ذاته النرجسية ، ليكون مصيره ضياع الهوية والهجرة إلى أوطان يضنها وسيم ( بلا مشانق ومن غير فوهات بنادق ،إلى دنيا اختارها لي خوفي،دنيا حمراء كوجه هروب عابد ص123 ).