كنا نلقبه بعمر الجن لأنه يطير من المقلاة مثل السمك الحي. ألف أن يجلس في الخلف. ضعف مستواه التعليمي حوله إلى الشغب. يمضغ قطعة ورق، ويضعها في جعبة قلم بك من الحبر الجاف، وينفخ فيها، فتنطلق مثل الرصاصة. قد تصيب عنقك أو خدك، فتشعر كأن عقربا قد لسعتك. تلتفت لكنك لا تعرف من أين انطلقت القذيفة.
اليوم وقع ما لم يكن في الحسبان. قام أستاذ اللغة العربية إلى السبورة وسجل التاريخ ـ 05 أبريل سنة 1970 الموافق ل 29 من شهر محرم عام 1390 ـ مسبوقا بالبسملة. وبمجرد ما دون سطرين من قطعة التطبيق، أصابته حبة ليمون، قادمة من الخلف على قفاه. من هول الفزع، قفز الرجل من مكانه. التفت القسم بكامله إلى الخلف. رمى المدرس بالكتاب والطباشير، ثم أرغد وأزبد! وتساءل بغضب لم نألفه فيه:
ـ من ابن الزانية الذي فعلها؟!
عم القسم صمت رهيب. بدأت القلوب ترتجف. لم نعش حادثا مشابها من قبل. هذه جرأة زائدة عن الحد، ولن تمر مرور الكرام.
تقدم إلى الصف الأول، وبدأ يشم أيدي التلاميذ واحدا واحدا، حتى وصل إلى نهاية الصف الثالث. فطلب من عمر الجن أن يقف، وخاطبه بلهجته البدوية:
ـ قفّرتيها* أ ولد المحامي؟!
انهال عليه بالضرب كيفما اتفق. الأستاذ يضرب، وعمر يصرخ، ويُقسم كذبا بأنه ليس هو من فعلها. عندما أشفى غليله، جمع حقيبته، وذهب إلى الإدارة.
اصفر وجه المدرس من الخوف، سأل نفسه معاتبا:
ـ ماذا فعلت؟ كان عليك أن تتصرف كمرب أو أب. الأطفال يخطئون، أما أنت فلا يجب أن تخطئ. في المساء سيأتي والده المحامي، ويقلب عليك المدرسة، ويلقنك درسا في التربية والقانون. وتقبل رأسه ورجليه حتى لا يرفع دعوى ضدك إلى القضاء. كان عليك أن ترسل تلميذا لإحضار الحارس العام المكلف بالقسم، وأن تجلس في مكتبك بهدوء، وتدون تقريرا في الموضوع، وتقدمه للإدارة، وتتركها تتصرف حسب ما تمليه القوانين. يا رب أين كان مخبأ لي كل هذا.
اقتحم المكتب وجلس. سأله الحارس العام بدهشة:
ـ هل أنت بخير؟
اجابه باقتضاب:
ـ كحلتها*! سلخت ابن محام، رماني وأنا ملتفت للسبورة بحبة ليمون على قفاي.
حاول الحارس العام تهدئته قبل أن ينقل نظره إلى جداول الأقسام والقاعات وحصص الصباح. ذاكرة هذا الحارس مثل الحاسوب. يحفظ أسماء وألقاب كل التلاميذ الذين أسندت إليه أقسامهم. هذا القسم بالذات الذي وقع به الحادث لا يوجد به ابن أي محام. فحص اللائحة حتى يقطع الشك باليقين. رفع بصره وقال:
ـ هذا الفصل لا يوجد به ابن أي محام. ما اسم التلميذ؟
أجاب الأستاذ، ونفسه تتأرجح بين الفرح والخوف :
ـ عمر الحياني!
رد الحارس العام وهو يضحك حتى قبل أن يفحص المعطيات باللائحة:
ـ هذا والده لحّام*. اشتكى منه مدرس الفرنسية منذ أسبوعين، واستدعينا والده إلى المؤسسة.
انفرجت أسارير مدرس العربية، وضرب جبهته بيده وقال:
ـ ولد الحرام!؟ منذ بداية الموسم، وهو يؤلب علي الفصل، ويفعل ما يحلو له، وأنا أخاطبه اسكت يا ابن المحامي! اجلس يا ابن المحامي! وأستحلفه أن يكف عن الشغب، وهو يزيد فيه! واستغربت في نفس الوقت من تدني أخلاقه، ومستواه التعليمي؟!
في هذه الحقبة كان أبناء الأعيان وكبار الموظفين يدرسون جنبا إلى جنب مع أبناء العمال والصناع والتجار الصغار وباقي شرائح المجتمع السفلى. لم تظهر المدارس الخصوصية بعد. حتى اللباس لم يعرف سوى فروق طفيفة. أغلب الأولاد يرتدون سراويل الجينز (بلو صحارى)، ونعال من البلاستيك الأبيض الممتاز، يتراوح سعرهما بين خمسة عشر وعشرين درهما.
لما عاد مدرس اللغة العربية في حصة اليوم الموالي، أول شيء قام به أنه وضع الحقيبة فوق المكتب، ثم اتجه إلى الطاولة الأخيرة في الصف الثالث، وأشبع عمر الجن ضربا وشتما.
وعندما عاد إلى مكتبه، ردد مع نفسه بصوت عال:
ـ قال لك والده محامي! لم أصدق أن يتصرف أبناء المحامين على هذه الشاكلة، وأن يكون مستواهم متدن إلى هذا الحد؟!
كنا نعمل مع مدرس اللغة العربية ست ساعات بمعدل ثلاث حصص في الأسبوع. يبدأ كل حصة بضرب عمر الجن وشتمه حتى ضج وانقطع عن الدراسة.
نحن أبناء الشرائح السفلى من المجتمع كنا نخاف من المدرسين، ومن الآباء والأولياء. كان الناس ينظرون إلى المدرس نظرة الأب الثاني الذي يمكن أن يصنع منك موظفا أو رجل أعمال أو محام أو طبيب. يمكن أن تشتم مدرسا في صمتك. هذا كل ما تستطيع فعله في ذلك الوقت. لكن أن تتجرأ، وتقذفه بحبة ليمون داخل مملكته الخاصة، فتلك حماقة كبرى لن يغفرها لك أحد، ولا بد أن تُجلد عليها مرتين أو أكثر، وفي الختام تلفظك المدرسة، وقد يلفظك البيت أيضا، وتجد نفسك في الشارع.
المعجم:
ـ قفرتيها : أي قمت بعمل يستحق أن تُسلخ عليه.
ـ كحلتها: جعلتها سوداء، بمعنى قمت بعمل خارج عن القانون.
ـ لحّام: صانع تقليدي يلحم الأواني المثقوبة ويصلحها.
مراكش 26 ماي 2023
—————–
الاستهلاك اللغوي بقلم: علي ابراهيم/ العراق
قد لا يتصور البعض منا حجم الاستهلاك في الاقتصاد ،باعتباره الركيزة الاهم في ديمومةبقاء الانسان بما عهد عليه نفسه من متطلبات الحياة من الماكل ،والمشرب واختلاف اذواق البشر فيماتريد ان تاكل وتلبس.
ولكن قد يتبادر الى اذهاننا مفهوم الاستهلاك اللغوي عند البشر ،وهو ما يكتسبه الفرد بعد الولادة فكانت الالفاظ ،والكلمات،والجمل وهي ما يعبر عنها في الوصول الى غايته.وقد تجاوز الاستهلاك اللغوي هذا السلوك المكتسب الى وسائل الاعلام التي دخلت للاستهلاك من ظروف المحن ،والماسي التي توسعت بعد عام 2003/من مخلفات الارهاب مثل حالات الاعلان عن المستشهدين من الانفجار بقطع جداريةتبرز حجم الكلمات المحزنة في الاستهلاك اللغوي ،وما تعرضه الجدران من اعلانات ملونة عن الاستهلاك في البضاعة الجديدة رغم عدم جودتها ،وطريق الوصول اليها .مع اشارات ،ورسوم باسلوب موجز عن نوعية البضاعة .
وجاءت الجداريات القائمة على ركائز الحديدبقياسات وابعاد مناسبة ولتعلن عن الرغبة في بقاءالاعلان اللغوي قائما ملازماللمدينة الحديثة وتطورها،اويقل وجوده في الارياف من عدم الاهتمام به ،او الحفاظ على الارض والنهر والزرع من الداخل اليها بفعل التغيير ،وقد يقتصر على الطريق الخارجي فقط والواصل الى القرى المتفرقة ،ولكن يصبح الاستهلاك اللغوي بعيدا عن الصو اب قبل الاهتمام به من حيث مزج الالوان واختيار القطعة المناسبة للعرض اللغوي ،ومن ذلك جدارية وسط المدينة باعلان كبير (لا ترمي النفايات في النهر ) وهذا بحد ذاته يهدم في اللغة التي ستفقد صلاحيتها للاستهلاك من خلال الخطا اللغوي ،وفي جداريات الحائط نجد الكثير مثل ما يكتب بالضاد ،والظاء والفرق بينهما في تثبيت الالف من عدمها والتي ستحدث اعاقة لفظية رغم استخدامها للاستهلاك ،والانتفاع من تلك الجدارية .
وجانب اخر للاستهلاك اللغوي هو النشرة الملونة للكلمات على اغلفة الحلوى مثل -حافظ على نظافة مدينتك-والتي نادرا ما تلفت انظار من يلقم الحلوى ويرمي الغلاف ،وهو يحمل من العبارات ،والجمل التي تثري الاستهلاك اللغوي مع جمالية الصورة المعلنة عن الحلوى ودونما اكتراث من الطفل او المشتري في تتبع الغاية من النشرة الملونة في الفاظها اما لسيطرة البطون ،وكثرة اللعاب النازل من اللهفة في شدة التذوق ،اوغاية الجهل والتجاهل في النظرةللاشارات ،والمقاطع اللغوية المثبتة عليها ..
ان دور الملصق الجداري ،والنشرة الجدارية القائمة على الخط الواضح ،وماتتركه المصانع من اغلفة الانتاج للاستهلاك الغذائي قد يعزز
دور الاستهلاك اللغوي في اختيار العبارة المناسبة ،اذا احسنا النظر الى ماهية العبارات المستخدمة ،وطر يقة توظيفها ،وتنظيمها والدقةفي اعلانها وتخيرالالوان المناسبة لها فكل ذلك يسهم في الحفاظ على اللغة وديمومتها رغم اختلاف طرق استهلاكها الغذائي سواء الملصق الجداري ،ام الملصق الذي يخرج الى الضوئي ،ولا ننسى ما ينشر في السنوات الاخيرة من ملصقات باللغة الاجنبية ،وهي متناسقة في الوانها وكتابة الحروف الاجنبية فيها مع الاشارات وهذه قد لا ينظر اليها الا دارس اللغة الاجنبية ،وقد تكون مبهمة الالفاظ وعدم فهمها اذا كانت في التجارة والاستثمار وهذا لايلغي جمالية الملصق المعلن عنه.
ان ثقافة الاستهلاك بجانبها اللغوي والتعبيري بالصورة والتشكيل قد تسهم في مفاهيم انتشرت تحمل علامات المرض اللغوي ،وحالات التشخيص ولكن دون علاج وتعبير عن ملصق انهكته الاخطاء اللغوية وغفل عن ابداء رايه في جمالية الملصق الملون حتى يقرر الفرار عند اول هبوب للرياح العاتية ولا يحمل اوزار اللحن في قراءة مايكتب عليه،وقد يكون عرضة للتمزيق من ايدي طائشة لا تريد ان تعرف شيئا عن عنوان الاستهلاك اللغوي الذي يبدو غريبا عليها ،وهي تسعى للاستهلاك الغذائي فقط .