تصميم العرض : أبو بكر الصديق بن عيسى
مسرحية ”الصفا” عندما يخدم القصيد البدوي الركح …
قدم المسرح الجهوي سيدي بلعباس آخر إنتاجاته، عشية يوم السبت 06 ماي 2023، مسرحية ”الصفا” والتي صمّمَ عرضَها المخرجُ أبوبكر الصديق بن عيسى. حيث ركّحَ أشهرَ قصائد مصطفى بن براهيم من خلال القصيدة المحورية يامنة أو ”غرام يامنة” وهي قِصَّةُ وَلَهِهِ الشديدِ بمحبوبته يامنة، والتي تدور حولها كل القصائد الأخرى التي أسس من خلالها أبوبكر الصديق بن عيسى دراماتورجيا جديدة مخالفة للمعهود والمتناول والمستهلك. بحيث أفرز نصا غنيّا لثنائية ”الصافا” و”يامنة” عن طريق مزج روح القصائد الأخرى بروح القصيد المحوري في العملية الدراماتورجية والبنائية التي أعطت في العام أنموذجا نسيجيا ركحيا لا هو بالحوار الصريح ولا هو بالشعر الضريح (الميت).
يعد في هذا الحال المخرج أبوبكر الصديق بن عيسى، أول من أخذ عشق مصطفى بن براهيم وسافر بقصائده إلى ركح المسرح الجزائري، كما كان شأن بعض المغنيين الجزائريين على غرار أحمد وهبي وخليفي أحمد وبلاوي الهواري وخالد حاج براهيم وعبد القادر الخالدي (الحفيد) الذين غنوا هذه القصائد وتغنوا بالمحبوبة يامنة.
دراماتورجيا أبوبكر الصديق بن عيسى في نص ”الصافا” ارتكزت محوريا على قصيد يامنة كتأسيس ركحي يقدم أجمل مفردات التجوال والعشق التي أصابت مصطفى بن براهيم. والقصائد الأخرى التي جاءت كركائز تدعيم للركحية الأساسية المحورية خاصة قصائد ” سرج يا فارس اللطام” و ”خلوني نبكي على سعدي” و”ما طْوَل دا الليل كي طوال” و”كتاب جاني من التل”…
لقد استطاع الدراماتورج أبوبكر الصديق بن عيسى، من إبداع تواصل ركحي مائز من حيث النص الدرامي المفحم باللغة الشعرية البدوية والقصيد الملحون، والذي جاء فعلا على شكل حوار مسرحي متمكن.
لقد أوكلت مهمة شرح الأبيات الشعرية إلى الفنان زكرياء فنطازي اعتبارا من ديوان مصطفى بن براهيم من خلال دراسة الأستاذ عبد القادر عزة، قصد تبسيط المفردات الغريبة والغامضة من دراماتورجيا التي أوجدها مصمم العرض، ولكن للأمانة فقد لازَمَت بعض الكلمات والمفردات الغريبة وبقيت عالقة بالنص- الناتجة بالضرورة من عمق اللغة المتداولة أنذاك في سنوات 1800/ 1867 الفترة التي عاش فيها الشاعر- قد أوجد صعوبة في التعامل بها من طرف الممثلين، غير أن احترافية أحمد بن خال وفريدة بن حمودة وحسين بن شميسة ومحمد بن بكريتي وأحمد سهلي … قد تفوّقت جليّا على صعوبات تواجد مثل هكذا كلمات صعبة، ولو ظهر في بعض الأحيان عناءٌ في التحكم في ذلك. لقد افتقرت كذلك في بعض الحالات الروابط الدراماتورجية بين فضاء القصيدة والقصيدة من جهة وبين فضاء القصيدة وقصة قصيدة الحب بين الصفا ويامنة من جهة ثانية. أرجعها شخصيا لتعقيد في نسج خيوط الحبكة باقتدار وبتجربة العمل الدرامي الجديدة على مسرحنا الجزائري.
تمكن المخرج الشاب أبوبكر الصديق بن عيسى، من أن يضع المتلقي في جوّ وفضاء مسرحيين متناميين، من خلال سينوغرافيا ليوسف عايدي ، بهندسة بصرية اشتغلت على المستويات العليا للعلبة الركحية في عديد اللوحات وعلى المستويات الافقية بكل عناية واقتدار. فجعل أجزاء ووحدات الديكور القماشي المتساقطة من الأفق إلى نحو ارتفاع بسيط من الركح و مفصلات الديكور البائن العتيد والقويّ يتنامى بفعل الإخراج المحكم فظهرت الأجسام القوية كمركبات ( عريات تجرها أحصنة) و أطراف الأقمشة البيضاء المتدلية قطريا كأنها أحصنة منفردة لوحدها يركبها الفارس الذي يملأ أرجاء ساحة فضاء القصيدة الشعبية البدوية وما أكثرها من تنوعات حسب كلّ قصيدة.
لقد أبدع المخرج في إبراز روح كل قصيدة على حدى وفي مجمل العمل على إبراز فضاء القصائد مجتمعة. لقد خدم العمل الركحي في معظمه والذي اعتمد على إفراد فضاء سينوغرافي لكل جزء أقصوصة من قصيدة على حدى، إدراك جمالية الابداع المتخيل العام للمسرحية وعلى استساغ المتعة.
يستجيب العرض المسرحي ”الصفا” في نظري الخاص لمخبرية الاتقان والبحث في صناعة الفرجة المسرحية فلقد تبنى ”نصا ليس بالقريب إلى الدراما” واستطاع المخرج أن يؤسس لفعل درامي جريء اشتغل من خلاله على عوالم القصيد البدوي المغنى ومن خلال ما خُفي من فضاءات القصائد التي لم يعثر عليها أي فاعل مسرحي من قبل، وهي جزئية لم يعرفها المسرح الجزائري وحتى ولو عاشها فليس بمثل هذه الحدّة والجرأة في خلق الفضاء السينوغرافي المتعدد الأشكال والألوان واللمسات والترتيبات والمرامي ومن إدارة للمثل في هذا الخضم الضخم من الموجودات الركحية (trouvailles scéniques) وما ستفتحه هذه التجربة من آفاق مديدة وجديدة وفي طرح الإشكالية الدراماتورجية منذ الاستهلال إلى النهاية.
ظهر النص منطوقا نابضا بالحياة في كل فضاءات النص المتتالية و في كل الفضاءات الركحية المتلازمة. كما ظهرت مفردات العملية الاخراجية من تمثيل وأدوات الديكور والاضاءة واللباس والموسيقى موزعة وموظفة بطريقة متظافرة في وحدة كاملة وجاءت مبررة ومفعمة بالإيقاع الموزون ولو في كثير من الأحيان خدم الريتم البطيء (المعتمد) وحدة التونبوريتم (tempo rythme) عموما.
ومن الملاحظات التي يمكن تقديمها لفريق العمل:
1- العرض كله مبني على ثنائية قصيد حب ”الصفا ويامنة” وهي ما أسميتها بالركحية الحاملة لباقي أركاحيات المسرحية والتي وفق فيها العمل بصفة عامة بل وكانت عملا فريدا من نوعه. غير أن ضرورة نسج القصة لتزداد جمالا وفهما على الدراماتورج إيجاد خيط ربط تقلب يامنة من حب الصفا إلى وصفه بالغدار، كيف ولماذا؟
يا صافا الغدار
حبك عني جار
وخذاني وطوى علامي….
وهو الذي كان في حقيقة القصة يعشقها إلى الثمالة مهما كان في بعض الأمور زيرا للنساء والخمرة … وهذا ما وقفنا عنده في بداية العرض.
2- يبقى في نظري، اهتمام المخرج أكثر في صياغة النهاية ركحيا. فلم تظهر هذه الأخيرة على نفس وتيرة المكون الدراماتورجي العام.
تركية
تركية لوصيف
وقد جاءت – رغم استساغتها جماليا- إلا انها وقعت على حين غرة من المتلقي.
سنعود بالتفصيل في دراسة قادمة إلى هذه التجربة الجميلة الجديدة في عالم مسرحنا الجزائري.