ينقش القاص كاظم جماسي سروده ( كما سماها) بخفة يد ماهرة وبإبرة براعة ليبث إلى قرائه رسائله المشفرة غالباً والواضحة أحيانا ، هكذا يجده القارئ في مجموعته هذه كما هو الحال أيضا في شقيقتها الأبكر، مجموعته الأولى ( لغو لا أكثر) والتي طبعها في تسعينات القرن العشرين ووزعها متمرداً بطريقة الاستنساخ المبتدعة من الشباب العراقي المبدع تحديا للسلطة وقوالبها وللحصار ومخانقه فكانت التجربة الرائدة لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين التي أرى شخصيا أن الجماسي الجميل كما أسميه أحد أبنائها بل هو جزء من نسيجها الأدبي والروحي ولم يزل منشداً للبصرة كما لو أن حبله السري متصل بها ومتعاشق مع روحها.
وكان أن نال جزاء على تمرده اعتقالاً وتعذيباً من قبل السلطة حينها لا لشيء إلا لأنه تمرد فلم يأخذ موافقة الرقابة ولم يسر كما يريدون، ومتمرد كهذا لابد من أن يتمرد حتى في مشغله السردي فوصف نصوصه بالسرود متحرراً من تجنيس القصة القصيرة بقوالبها المستوردة وهيمنتها، فالسرود هنا مصطلح مشتق من السردية التي هي الأخرى مشتقة أو فرع من فروع الشعرية التي قال بها تودورف. والفرق بين الشعر والشعرية واسع جداً وإن ضمهما جذر أو قاعدة واحدة، وكذاك الفرق بين السرد والسردية، لذا أرى وبعد معاينة متأنية وقراءة مكررة لاشتغالات الجماسي أن مصطلح سرود إنما ينتمي للسردية بثوبها الفضفاض المتحرر أكثر من انتمائه للسرد وعوالمه.
وليس صدفةً أن تصدر المجموعة عام 2021 حيث وسمت منشورات اتحاد الأدباء بوسم محمد خضير سيد السرد العراقي وأستاذ التمرد القصصي الأول عربياً والأشهر من أن يُعرَّف، وهكذا كان الجماسي بتمرده متناغماً مع الوسم ( محمد خضير) ودلالاته ومع انتمائه الروحي للبصرة ومحمد خضير من جميل آيقوناتها الحاضرة.
تضم مجموعة السرود هذ تسعة عشر نصا أو مسرودة أو قصة قصيرة، سمها كما تحب لكن صاحبها جمعها على سرود، ومن هذه ال التسعة عشر نصاً ثمة خمسة نصوص مستلة من المجموعة الأولى ( لغو لا أكثر ).
وقد صمم غلافي المجموعة الفنان نصير لازم متخذاً من لوحة للفنان التشكيلي هاشم حنون الخلفية المتسيدة لشاشة الغلاف إن صح المجاز، وللقارئ هنا أن يلتفت إلى هذه اللوحة وذكاء المصمم حين شقها لشاشتين الأولى للغلاف الأمامي وعليها اسم الفنان هاشم حنون بالإنكليزية مع تاريخ 2020 وربما لاحظ القارئ تاريخاً مشطوباً 2019 أو هكذا تراءى له، للقارئ المشاهد هنا، ولا أريد التوسع في الحديث عن اللوحة ذاتها فهي باختصار تضج بوجوه وأجساد وعيون واحتدام سيكشف عنه الشق الآخر للغلاف الخلفي من الكتاب حيث يظهر اسم الفنان بالعربية ويحدد التاريخ بشكل أدق 26-1-2021 وعلى اللوحة كتبت عبارة تختصر المشهد كله: نريد وطن، وهو شعار الانتفاضة الشعبية المباركة التي خطت بالعراق خطوات مهمة إلى أمام وقلّصت من مساحات تحكم الفاسدين والجهلة بشكل مباشر وغير مباشر وكانت ستفعل الكثير لصالح العراق لو تُرك الشعب وحاله.
إذن اللوحة تكشف عن تمردٍ كبير معلن على الغلافين الأمامي والأخير، مضافاً إلى أو منسجماً مع التمرد القصصي الممثل بوسم محمد خضير الذي اختاره الناشر( اتحاد الأدباء) ومع تمرد الجمّاسي بمصطلحه ( سرود) لنكون أمام ثلاث متجهات للتمرد: الأول لفنان اللوحة والثاني لاختيار الناشر والثالث للكاتب ذاته.
ولاشك أن هذه اللوحة المنتمية إلى التمرد لم تُختر عبثاً إذ أن كل سرود المجموعة تشي بالتمرد والرفض أو تصرح به بوضوح كما في نص ( الديك ) المكون من عدة مقاطع حيث يصرخ الصبي الذي رفض أوامرهم بكلمة ( لا ) وظل يصرخ بها بقوة في مقابل البقية الذين صاروا يقأقأون مثل الدجاج ( قيق قيق ) في مشهد متناص مع الرواية المعروفة ( حقل الحيوان ) ومع قصيدة أمل دنقل الرافضة:
( المجد للشيطان معبود الرياح / من قال : لا في وجه من قالوا : نعم ).
وفي النص المعنون ب ( نشيج الفرس) وهو الآخر مكون من عدة مقاطع نجد روح التمرد متجلية في زوج ” مظلومة ” ذاك المتخفي بجنونه ودروشته وهكذا في جميع النصوص، لكن النصين الخاصين ب الشاعر والصعلوك العراقي الجميل المتمرد ” جان دمو” كانا من أجمل نصوص المجموعة وأعني نص ( الزورق) حيث يرسم جان دمو بانوراما مرعبة وفيها توابيت القتلى التي تندلع منها ألسنة النار وتخرج حتى من أعلى إطار البانوراما بينما يقطر الدم منها من أسفل البانوراما ويسيح على الأرض، ويقول جان دمو لمحدثه : هذه ضفة، وتلك ضفة أخرى. وحين يسأله الراوي وكيف العبور أشار جان بما كان يساعده على تحمل البشاعة وهو قنينة العرق ويقول: هذا هو الزورق. ولاشك أن القراءة الفكرية التي تعتمد المواقف وضرورة الفعل المقاوم لمواجهة الظلام والاضطهاد لن ترضى بمسكن أو مخدر سلاحاً للمواجهة أو وسيلة للعبور إلى الضفة الأخرى الأجمل، لكن قراءة أعمق ستشعر بقوة الرفض المتمثلة بزورق جان دمو المعبر عن صعلكته الرافضة الجميلة مما يذكرنا بعروة الصعاليك وأصحابه، يذكرنا بمنقذ الشريدة وكواكب من الأباة الذين تستروا بهذا زوارق ليعبروا عن رفضهم ويحضرني هنا ما ورد في قصيدة( القول في عروة الورد ) للشاعر حيدر الكعبي (إذا الشاعر الحر / ألقى على جمهوره الحر/ في جانب الدرب شعرا/ قتلوه وقالوا: تأبط شرا )
ويتجلى فعل الرفض والتمرد عند كاظم الجماسي في استخدامه لرمز جان دمو في النص الآخر ( تحرير) وتلك الباصات الحُمر المتجهة من ( الميدان) إلى ( ساحة التحرير) والإشارة الرمزية واللغوية لكلمتي الميدان والتحرير وهما منطقتان في بغداد واضحة خاصة وإن ساحة التحرير حيث نصب الحرية الشهير للفنان جواد سليم وحيق قلب التظاهرات الشعبية الرافضة لسياسات النظام بعد 2003 كما رفضت النظام قبله بطرق مختلفة قبل 2003 ( حيث عاش جان دمو )، في هذا النص وبخيال جميل أبدعته محبة الجماسي لهذه الأجواء وانتمائه لها يقوم جان دمو بجمع القطرات المتبقية في قناني الخمر ليملأ منها قنينة كاملة ثم يقوم بتوزيعها قطرة قطرة في أفواه راكبي الباصات الحمر المنطلقة من ( الميدان ) والمتجهة إلى ( ساحة التحرير) ثم طار وتبعته طائرة أسراب الحافلات الحمر!
وهنا كان بودي أن تستمر المجموعة كلها مع جان دمو وتجلياته وآمل أن ينجر القاص المبدع كاظم الجماسي مشروعاً سردياً كاملا على هذا المنوال عن جان دمو .
إن هذين النصين ما كانا ليكونا بهذا الجمال لولا أن كاتبهما تأمل جيداً الدرس الذي ذكره ريلكه في رسالته التي وضعها المؤلف مقدمة أو كثريا إضاءة لكتابه وأدعو إلى قراءتها من كل من يمارس فعل الكتابة ليرى ما أهمية أن تقرأ وترى وتطلع وتتسلح لترتقي بروحك وحالاتك كلها قبل أن تكتب !
هذه الروح المتمردة وقد تجلت بأبهى صورها في نصي جان دمو ( زورق وتحرير) تتوزع بنسب مختلفة في بقية النصوص، تشع هنا وتقل هناك ولكنها موجودة في جميع النصوص، ففي النص الجميل بشعريته (تطريز) نحن أمام لوحة أتقنها رسام بارع وشاعر مرهف فالنسوة جامعات القناني الفارغة من المزابل يعادلن هذا الفعل وما يتسبب به من روائح وأوساخ بفعل أجمل هو تطريز القماشات البيض بطيور وفراشات وبلابل ثم يختتم المشهد بتجلي البياض الناصع للقماشات، وتبدأ رحلة القناني ثانية.
وفي النص المعنون ( الأمر يستحق العناء) يرسم السارد مشهداً بانوراميا لمجموعة من الموظفين يخوضون في بالوعات المجاري بحثاً عن رواتبهم وكان أحدهم أو كلهم يصيحون اللعنة فيتردد الصدى: العنة العنة والدلالة المضادة للخصب واضحة. يذكرني هذا المشهد بمشهد في مسرحية لصموئيل بيكيت عنوانها على ما أذكر ( هو وهي ) وفيها يخوض الناس في حمأة قذرة وكل واحد بيده علبة طعام وفتّاحة العلب وكل منهم يخشى أن يفقد تلك الفتّاحة.
وفي نص ( جمرة) نتابع تلك الجمرة المتوقدة لذاك الذي يرفض شروطهم بالمغادرة ويصر على البقاء فيرمي بسيجارته لتلتقط امرأة السيجارة وتشعل سيجارتها من جمرتها وخلال ذلك نعرف أنها أم وتمنح نفسها لمتكرش بليد كي تعيل أولادها ثم تنطفئ تلك الجمرة في بالوعة مياه قذرة أيضاً !
في النصين الماضيين المواجهة ضد القذارة هو تمرد أو لون آخر من التمرد ترسمه سرود الجماسي الجميل كما يحلو لي أن أسميه، وهكذا تتنوع المواجهات والتمرد في ( حبل سري / طيران/ الصرخة الأولى / توق قديم/ لغو لا أكثر / بناة العدم/ وغيرها ..
وإلى هذا كله يشير العنوان الرئيس للمجموعة ( كما لو أننا نولد للتو ) بأن فعل التمرد على القيود والقوالب والظلم والظلام والاضطهاد هو فعل ولادة ومن الولادة تأتي الحياة.
تحية للمبدع المتميز القاص كاظم الجماسي ولتجربته المكثفة جداً ولرسائلها وهو يبثها علها تجد من يتسلم ويفض الشفرات ويقرأ ويعي ويفعل، عسى ولعل.