
هذا الطائر الغريد الذي شاءت الأقدار أن يغادرنا هذا الأسبوع، ترك إرثا شعريا جميلا يزيد من بهائه وقوته جودة إلقائه لقصائده بحرارة المبدع العميق الإحساس، المؤمن بضرورة الشعر لإيقاض مكامن المشاعر توجيها ونفضا لغبار الرتابة المنسية للواجب الإنساني.
هو الشاعر الجميل الذي أتحف المسامع بقصائده الجملة الإيقلع المفعمة بالأساليب البلاغية النادرة.
شاعر يغرف من الحزن والفرح، يغرف من اليتم والمرح، يرسم الإحساس بكل ألوانه، رسما جميلا يؤثر على الأفئدة، ويستميل الأسماع لتسبح بعظمة خالق هذا البهي المطرب الساحر…ساحر بإلقائه المتدفق كالشلال يتلو القصيدة بوجدان يعكس عمق الروح، وأسرار البوح…
إنه الشاعر كريم العراقي، والعراق منبع الفنون بشتى ضروبها، طرق أبواب الأدب، فأنار وأجاد وخلد الكثير من أعماله الحاملة لأحلام الغلبة والشعراء وكل من يروم أن يرى الأفضل من الكائن متطلعا إلى الممكن الأفضل والأجمل.
ومنذ ريعانه شرع في الكتابة، لينشر نصوصه في مجلة الراصد، ومجلة ابن البلد ومجلة الشباب وغيرها بشعره تغنى كثير من العراقيين، وما تزال حواراته في منابر إعلامية كثيرة تشهد برسوخ قدمه في مجال الفن عموما.ّ
رحل من العراق نحو تونس بداية التسعينات، وكتب الكثير من الأعمال الشعرية والمسرحية المدافعة عن وطنه.
جاءت أشعارها بساتين تحمل أزهارا من لؤلئ وألماس..أسلوبه جزل سلس جميل الإيقاع، يوصل الفكرة بلا تصنع وتلكف، فلنستمع إليه وهو يقول في إحدى قصائده الجميلة:
أُشرّقُ أَمْ أُغرّبُ أَمْ أَطيرُ فشعري والهمومُ هما السريرُ
وآلافاً من الأَبيات أَبني لها يأويْ المعذَّبُ والفقيرُ
وبَيتْي غيمةٌ.. فإذا غفوتُ.. أَطاحَ بغفوتْي المطرُ الغزيرُ
فمن حقلٍ إلى جبلٍ لبحرٍ.. ومن خطرٍ إلى خطرٍ أسيرُ
عشقتُ مَسيرتي وبها قنعتُ وأعلمُ أنْ مسلكها خطيرُ
فخيرُ الشعرِ ما عَبَر المنافي ورددَّهُ المُهجّرُ والأسيرُ
وخيرُ الشعرِ ما غنّاهُ شعبُ لهَ نصرٌ بهِ ولهُ نصيرُ
أُناصرُ كلَّ ذي قلبٍ جريحٍ.. وأجهلُ ما يخطُ ليَ المصيرُ
أخي السيابُ والحلاّجُ عميّ وبشار بن بُرد أبي البصيرُ
لو أن الشعرَ يتبعهُ ثراءٌ بنى قبليْ الفرزدقُ أو جريرُ
وما الشعراءُ إلا قلبُ أُمٍ لصرخةِ كل طفلٍ يستديرُ
ملأنا الأرضَ أزهاراً وحُباً وفي أَعماقنا هَمٌ كبيرُ
ونقضي العُمرَ نكراناً ونفياً وبعدَ الموتِ أعلاماً نَصيرُ
شاعر يتوسد همومه وهموم مجتمعه ويجعلها سريره الذي يشهد مشاعره المترجمة لما يعتمل في جوانحه، ليجعل شعره ملاذا للفقراء والمعذبين الباحثين عن واحة تطفئ ظمأهم وهم يجوبون صحراء لاظل فيها ولا ماء.
إنه الشاعر الحقيقي الذي يعانق الطبيعة بعذريتها بعيدا عن السياسات المغرضة التي لا تخلو من مراواغات وخداع، فمن حقل إلى جبل إلى تل إلى هضبة، ومن خطر إلى خطر يشق دربه، ليجعل شعره يعبر المنافي ويردده الأسير والمهجر…
وبهذا يستحق أن يصير أخا للحلاج والسياب وبشار بن برد مؤمنا بأهمية الشعر في التعبير عن الضمائر، عن الأحوال، عن الطموحات والأحلام، ومثل هذا الشعر من شأنه أن يملأ الأرض حبا وعشبا وورودا…
كريم العراقي شاعر مؤثر جميل أطربنا وساهم في تثقيف المتلقين في مختلف مجالات الفن، فأعماله كثيرة تدل على غزارة إنتاجه وتدفق مشاعره التي تعكسها مختلف الأجناس الأدبية اتلتي انخرط فيها بإنتاجاته العميقة، فمن مساهماته في المسرح: مسرحية”الشارع المهاجر”،”ياحوتة يا منحوتة”،”عيد وعرس”،”ذات مرة”…ومن دواوينه الشعرية”للمطر وأم الضفيرة”، “سالم يا عراق”…وفي مجال الرواية للأطفال”الشارع المهاجر”، الخنجر الذهبي”…كتب سيناريوهات وحوارات لأفلام…
إنه المبدع الذي يتنفس الكتابة ليجعلها خلفا له بعد هذا الرحيل الحتمي الذي لا بد منه، فوداعا أيها الطائر الشادي المعبر عن مجريات سنوات، وكلنا رجاء بأن يسكنك الله فسيح جنانه، وهو السميع المجيب.