هل إستفاقت مدائن الندم بعد سبات ايقظته حروب طفوليّة المنشأعدوانيّة السلوك واضحة المقاصد مدروسة الغايات، والتي اتكأت على مقامات مدائن الندم حين افصح عنها الأديب مدني صالح متنقّلاً في مدائنها بين هيت حديثة، وكشفت عن مناغاة الأرض تتراقص فيها الثمار، وتهرع بالسلّة إلى قصر الباشوات سلطة الأسياد تجاه العبيد من فقراء الأرض، وبين زعيق الأطفال يتكاثرون في الصيف اللاهب عند الشخاتير والاجراف، والزوارق تعبث بهم سطوة النهر الجارف يعبثون بالماء في التراشق، والضحك والأماني”وصابر” الذي يرشح إلى برج المربد في مكابداته العاطفيّة،؛ ونفسه المسحوقة أمام قصر الباشوات يفصح عنه مدني صالح زمن إستبداد الباشا حين يطلّ من شرفات قصره ويقول له:(يا صالح إنهق مثل الحمار وإنبح مثل الكلب امشِ مقلوب مثل العقرب يستأنس بك البنات). ثم يرمي إليه بالدراهم ثم يستعيد ذكريات مقامات برج المربد إلى ذكرى الإحتلال العشريني للعراق، ويسترد ذلك بمقامة اسماها”بداية الإحتلال والتي تنبعث منها رائحة الجوع اليومي، وقرقرة المعدات، والنظرات المريبة من أطفال الدشاديش ينتظرون ان يتزحزح الجند حتّى يرموا بأنفسهم في القمامة عن الفضلات المتبقّة قبل إحراقها.
هيت حديثة. يا مدُنَاً ضاقت ويلات الإحتلال العشريني، وتحمّلت قصبات الحدود وهي تتفرّج على الجنود، وهم يتنعّمون بالأكل، ويرفلون بالصحّة والعافية بين ربوع بساتين هيت ونواعيرهاوافياء حديثةويتعبّقون هواء الصحراء اللاهب والجاف.! وهل إبتسامات بينهم بدل الزعيق، والأصوات المقرفة، واللون الاحضمر يصبغ الأجساد والثياب والشوارع الازقّة؛ ويترك بقعاً غامقة في الجراح.؟
هيت حديثة لماذا تركت الغرباء يدخلون البيوت، والغرف، والحدائق، والزهور، والثمار، ويخرّبون مكامن النَّمل وما خزنته لفصل آخر يسيطرون على النهر وصخرة صابر ومكابداته ورباب التي ضحكت وبكت وصابر يتلوّى أمامها ويتراقص كعود الخيزران.!
هل بقيت تنتظر حتّى الالفيّة الثالثة، او إنّها شمّرت عن ساقيها لتهرب إلى الغرباء الدخلاء الجدد حين وزّعوا أشلاء الوطن؟! ويوم تنفّس برج المربد عند مدني صالح وفاحت منه رائحة الكرامة التي تندّت وتعفّرت بتراب الأرض تنفّست الكلمات منه (اجل اذلّوا الشيوخ والعجائز وإستهانوا بالأطفال وأستعبدوا النساء) وبين ثنايا ذلك كلّه شكرت هيت حديثة لامّها. في بدء الالفيّة الثالثة وسمحت للغرباء يسرحون على أرضها ويمرحون يقطفون عناقيد العنب تحت الاقدام ويرمون التَّين الأسود في النهر حتّى لا يُضاهيهم احد في سواد قلوبهم وغلظة وجوههم المبكية أمامهم، والحالكة لياليهم أكثر من ضحكات المتنفسين. منْ يعقل ان تضيع بساتسن هيت وتف نواعيرها عند ضوء القمر؟ وتستنزف طاقاق صابر ورباب وذكريات قصر الباشوات عند عتبة الأحلام الخائبة التي لم تقم إلأّ على جماجم البشر التي اُنزعت من اجسادها؛ ولن تقوم لها قائمة وهي تتصدر فحيح الافاعي وصديد الماضي الجاهلي الذي يلقى أفراح صابر ورباب ويسمّم نهر الفرات بين نواعير هيت حديثة، ويمحو لحظات الإنبهار والأفراح، والسعادة، والدهشة التي اُلقيت من قاموس الغرباء الشَّاذين في بلادهم، والفاريّن
منها والقادمين إليك بارض هيت الانبار يبثّون سمومهم، و أفكارهم المريضة، ويدعون إلى الأرض الخراب التي ستزحف على جسد الوطن ليصبح مريضاً لا يشفى، وذليلاً لا كرامة له.!
هي مراجعات للسيرة الذاتيّة يضمّها مؤلفات الأديب مدني صالح/مقامات مدني صالح و/برج المربد والكتابة على الماء في مدائن الندم/و/مقامات مدني صالح الثانية. / ومنه تتفرع التٍَسميات التي تُضفي عليها من الفلسفة ما يُزيدها تشوّقاً، وتلاعباً في اللّغة ومنها مقامة “” المدد يا مدد”” وتتدحرج عمائم الدَّراويش مقامات بلال في صفَّ الفلسفة، واحزان المصطلحات، ومقام الفراهدة الذين يتعذّبون، ومقامة مباهج الخلاصة. “”
وفي هذه المقامات يتخّذ مدني صالح أسلوب الحوار. مدخلاً إلى مقاماته، وليس القصّة التي تعتمد عليها ذلك إنَّ تمكّنه من الفلسفة ولغتها قد عمّق من أسلوب الحوار في معظم مقامات في ايراد المعنى اللّغويّ باوجه عديدة. ونبقى نستذكر مدن الصحراء الغربيّة التي جمعت الذكريات ومزجتها الفلسفة؛ ولا نستبعد ان تحافظ النواعير على أرضها حتّى لا تصبح بُوراً، وان تثبت عناقيد العنب الشَّهية ولا تُرم على الأرض وحتَّى لا يفقد صابر عافيته تجاه رباب في مدائن الندم نسجت خيوطها من الوهم لتدخل مدائن الإزدهار.