يمشي والظل يسبقه كأنما يبحث عن شيء ضائع يريد أن يمسك به فينفلت من قبضته، فالظل لا يستطيع أن يمسك بالظل مهما حاول أن يغرز أظافره في ظل آخر، لن يستطيع قتله ولو أخرج رشاشه ورشقه رصاصا ولو ركب دبابة تدك متون الأرض، ولو رماه بقنابل من طائرة لا ترى، لأن الملائكة تحب الظلال فتحميها من كل شيء..
يمضي متهادي الخطوات وظله يخترق الأشياء ويمتص الأضواء الشاحبة التي يرسلها شفق السماء على طول الرصيف في مساء شتوي بارد، يطرح أسئلته الساخنة التي لا تنتهي فلا يجد لها إلا أجوبة متكسرة تماثل الصدوع الموجودة في كل شيء حوله، الماء والهواء والنار والتراب لا شيء في هذه الجواهر والأصول مكتمل البناء، ..يرقب ظله الذي تبتلعه الأشياء في جوفها حينا ثم يخرج رقبته من ربقة البعث ، يصارع من أجل البقاء ، حتى الظل يريد أن يعيش إنه يكره الرحيل لكنه بعد مقاومة سيلبس عباءة أكبر و يتوارى عن العيون ليحتفي ببرودة منداة ..
أجساد آدمية هائمة ، ضائعة كورقات خريف مسودة لم يكتب عليها سوى رموز وطلاسم سليمانية مبهمة تحملها رياح باردة مخشوشنة ، وجوه تعتقد وجودها وهي أشباه العدم ، كظلال عارية مقشرة، كدمدمة ريح عقيم في صحراء أرجوانية ، .. يسير على الرصيف وحيدا يجتر أسئلته وتتناهى إلى سمعه أصوات معلقين يجيدون فن الوصف ، إنشاء عربي مألوف لا يختلف عما سمعه من قبل في قنوات إخبارية ، يخزر بعينيه ويصم أذنيه عن هراء يحزن الرصيف ، ..
كل الأيام تتشابه والمكان هو المكان ، الظل هو نفسه يمد عنقه أحيانا ويتقلص حينا آخر، ونحن لا نستحم في النهر مرتين ، يا لها من مفارقة عجيبة ! ..، يتوقف قليلا كمن يستذكر شيئا ، يقنع نفسه أن نهر هيراقليطس ليس هو نهره الذي يستحم فيه هؤلاء ، وجوه شاحبة كتفكيرها الذابل ، قابعة في هامشها الضيق تلوك الزمن ولا تجرؤ على الاستحمام ، آه لقد تعفن كل شيء فيها !، حتى الزمان لا يستطيع أن يفعل شيئا سوى المرور بسلام من الرصيف كحفيف أغصان عارية ..
يمتد من جسده النحيف مرة أخرى ظل طويل لايدري من أين خرج ، يصافح الطريق ، يريد أن يسافر بعيدا ليحضن الريح في صحراء زرقاء فيسارع الزمن مبتعدا عن الرصيف ، يريد أن يمسك الهواء ويكتب بحبره غمامات سوداء مثقلة بالرماد، .. في ساحة معزولة لا تزال خالية من الأبنية ، يحمل في كفه حفنة من تراب ، يفركها بأصابعه وهو يتأمل حباتها تتموج في صفحة الرياح وتتساقط ذرات لتعود من حيث أتت ، .. آه من هنا بدأت الحكاية ! ومن هنا نهاية البداية ! ، سرح الذهن بعيدا في البعيد وعيناه ترقبان السماء تغزل الغمام كمن أراد أن يكتبه بالهواء، آدم ، التفاحة ، أيتها الأنثى ، كان الجميع هانئ البال هناك، الشيطان .. لقد كتب كل الطلاسم وسحر العيون وعطل العقول ! ماذا صنعت أيها الشيطان ؟ صرفه من دوامة تفكيره مشهد الأوراق التي تركها على المكتب وهي لا تزال منثورة ، و جمهورية أفلاطون تغلق أبواب مدينتها الفاضلة ، تدمدم في أحشائها رياح زرقاء تمتد في الأفق البعيد ، يحث الخطى عائدا ليكمل ما كان قد بدأه من شعر حالم عن مدينته الفاضلة .. آه أنت غلوكون ، وأنت مينون وأنت أين اختفيت يا بروتاغرواس ؟ من ؟ ثيثيوس ؟ عزيزي سقراط ؟ اشتقت إليكم حقا
أفلاطون ضاحكا : وماذا وجدت على الرصيف أيها الشاعر؟
آه يا أفلاطون ! كنت أظن أن باستطاعتي أن أحكم الرصيف بحكمتك، لقد كنت مخطئا .
أفلاطون : وهل تظن أن الرصيف يسهل حكمه وأنت ترى الكل يحكم حواسه في العالم وانت مجرد شاعر تسبح في متاهات الخيال.
الشاعر: نعم هذا ما ظننت ، لكن الرصيف أمسى ممتلئا بالظلال ، ولم أر رجلا واحدا يحمل في يده مصباحا .
قهقه أفلاطون حتى ظهرت نواجده وقال : أجننت أيها الشاعر، ألست ترى الرصيف يلمع تحت وهج شاشات الهواتف والحواسيب ، فما حاجتهم إلى مصابيح ؟
نعم كنت أظن أنني إذا حملت مصباحي سيفعلون مثلي وسنتعاون لنجد الحقيقة
أفلاطون ينظر إلى السقف كمن يسترجع تاريخا : لا تحزن أيها الشاعر فقد عانيت من قبلك، ولم أفلح مع أحد ، لا يمكنك أن تحكم الا بالفلسفة أما شعرك فاطرده من مخيلتك كما طردت من قبلك الشعراء .
نظر الشاعر إلى نفسه كمن يقلب على شيء لازال ضائعا، .. تذكر ظله الطويل بحث عنه قليلا ، فلم يجد له أثرا إلا قطعة صغيرة على صفحة محاورة تقول :
“فإذا كان عليه أن يحكم على هذه الظلال من جديد وأن ينافس السجناء الذين لم يتحرروا من أغلالهم قط .. ألن يسخروا منه ويقولوا أنه لم يصعد إلى أعلى إلا لكي يفسد أبصاره وأن الصعود أمر لا يستحق منا عناء التفكير فيه؟”..
رفع الشاعر بصره قليلا فكان الظل قد ذاب تماما في غلوائه أمام ناظري أفلاطون ، ففهم الشاعر من بسمة فيلسوفه أن الرصيف لا يمكن أن تَرُصَّ لبناته الحكمة مثلما لم تستطع ذلك في زمن أفلاطون وأدرك أن الكهف سيظل مظلما ولن يستفيق فتيته أبدا رغم الضجة التي يثيرها حاملوا المشاعل ، …
دخان يتصاعد من الجمهورية ، يبلغ السقف فيغزل غمامة صغيرة مثقلة بالرماد ، يتأملها الشاعر وهو يبتسم كأنها تعصر أحزانه كليمونة وترتفع أكثر فأكثر، بقيت لحظات معلقة في الهواء ثم تلاشت في لمح البصر كأن السقف ابتلعها في جوفه كما ابتلع ظله الطويل .
أخذ الشاعر يقلب صفحات الجمهورية يبحث عن محاوريه، يبحث عن السطور، لاشيء ثمة سوى طلاسم ورموز لا يفقه منها شيئا، وقف مدهوشا مسمرا في مكانه، يحرك يديه بحثا بين الأوراق عن الأوراق، عن غمامة سقطت من السماء، عن حفنة من تراب ذرتها الرياح، عن صحراء زرقاء، حتى ظله الطويل ذاب في اللامرئي ، ربما صار شطحا في الحجب، لاشيء غير الظل سيستنجد به الآن ، على الأقل سيفي بالغرض ريثما يعود أفلاطون ذات يوم ليكتب محاوراته من جديد … فكر قليلا وهو ينظر في صفحات الجمهورية متأففا ليدرك متأخرا أن أفلاطون ومحاوريه غادروا بعيدا وأخذوا معهم كل الحكمة وأغلقوا عليها الحقائب وسافروا إلى ما الوراء .