في نصها الموسوم بـ “ماريونيت” والمنشور في جريدة مسرحنا عام 2013 وفي كتاب يجمع ثلاثة نصوص “ماريونيت ـ السرير ـ فينوس” عن دار الشعلة بمصر عام 2021 استلهمت الكاتبة من التاريخ قصصاً تاريخية وأدبية لطالما أثارت الجدل وبذكاء شديد وبتقنية الواقعية الخيالية سحبت شخصيات من الزمن الغابر لتعطيهم فرصة ليبرروا أفعالهم وليشرحوا أفكارهم وقرارته وطبعاً عواطفهم ومما يسهُل اكتشافه في النص المسرحي هو الخطاب التراجيدي الناعم والصراع الهادئ على لسان الشخصيات لكن ليس ذلك الخطاب الذي قيل لحظة وقوع الحوادث في القصص الأصلية أو أثناءها، إنما حوار وخطاب ما بعد الصدمة وما بعد الحدث وما بعد الجريمة لكل قصة على حدى.
فبعد الخصام وبعد اكتشاف الخيانة وبعد الشجار وبمرور الوقت يستشعر الانسان أنه كان يجب عليه أن يقول كذا وكذا أو يشعر بالندم بكل بساطة أو كان يجب أن يتصرف تصرفاً معيناً لحظتها وهذا بالضبط ما جعلته الكاتبة فكرةً لنصها الجميل وتكمُن العبقرية في أن الشخصية المحرك للأحداث هي واحدة من أعظم الشخصيات أثارةً والشخصية الأكثر اهتماما من طرف الفنانين ادبياً وسينمائيا خاصة في هوليود وتعد موسيقاها أشهر السمفونيات، ألا وهي “شهرزاد” شهرزاد التي اشتركت مع شخصيات المسرحية في الذكاء والتضحية ونون النسوة ووقوع الظلم عليهن ونون النسوة هنا ليست عبثاً فعن قصد ربما وربما محض صدفة أو خبط عشواء اختارت المؤلفة أن تكون الشخصيات المظلومة كلها من النساء ودعونا لا نخوض في ذلك لأنه في اعتقادي النص هو عبارة عن وجهة نظر ولصاحبه الحق في قول ما يجده هو صائباً…
كما أن الزمكنة في النص أيضاً لعبت دوراً مهماً وأقصد هنا ركحياً ذلك أن الأحداث تدور في قبو لمسرح ما أو في متحف حيث تتواجد الشخصيات بملابسهم وإكسسواراتهم ومكياجهم كما رغبت الكاتبة لكن للمخرج خيارات أخرى كثيرة وعمليات إخراجية متنوعة فمثلاً يمكن أن تدور الأحداث في مقهى أو حافلة أو قطار وبملابس عصرية حسب رؤية المخرج ورغبته وإمكانياته الإنتاجية وهذا ما يميز الفكرة فعندما نسمع شهر زاد وشهريار وأنتجون وكليوباترا وعطيل وغيرهم من شخصيات المسرحية يتبادر إلى الأذهان القصور ومجالس الحكم وملابس معينة، وليست الزمكنة فقط ما يريح المخرج هناك أيضاً تنوع الخيارات بالنسبة للمدارس والتيارات المسرحية ولن يضر بالصراع أو الحوار أو اللغة بل يزيدها جمالاً ويزيد من متعة التلقي مهما كان خيار المخرج ومهما كان مكان العرض
نأتي الأن إلى الشكل وأدوات المسرحية وكما جاء في النص هي متعددة وهي أشكال عالية المضامين فخيال الظل الصيني والماريونات ورقعة الشطرنج وقطعه تؤجج الصراع من جهة وتزيد في الفرجة وتختزل الشخصيات الثانوية والمجاميع وتختصر الأحداث وهذا أيضاً يدل على رؤية أخراجية تمتعت بها الكاتبة وعليه فإن أي مخرج مبتدئ بإمكانه أن يقوم بالإخراج مستعيناً فقط بإرشادات النص والبرولوغ فيه وسيكون العرض ناجحاً لا محالة.
كما نلاحظ تنوع الشخصيات رغم أن الهدف واحد وهو كما أسلفت “ما كان يجب أن يحدث وما كان يجب ألا يحدث” كل ذلك وسط فوضى الأفكار والحواس وغرق الشخصيات في الرغائب والتشدد للآراء والأفكار من استبداد كريون وغيرة عطيل وبكاء ديدمونة وكبرياء شجرة الدر وحيرت نجم الدين وتعنت أنتيغون حتى شهريار وشهرزاد لم تكتف الكاتبة بجعلهما محركين للأحداث بل رأينا علاقتهما ببعض محل نقاش وصراع أيضاً وهنا وجب الإشارة إلى نقطة مهمة وهي فصل الشخصيات عن بعضها سواء كان ذلك فيما تعلق بالحوار أو بالأحداث وهذا قد أضر قليلاً بالبناء الدرامي للنص ـ من وجهة نظري ـ فلو أن الكاتبة جعلت الشخصيات تتداخل في الأحداث والحوار من خلال إيجاد نقاط مشتركة بينها أو بين الأحداث باعتبار أنهم أي الشخصيات والأحداث معاً متقاربون ومترابطون في اللغة إذ أن لغة النص واحدة خدمت الأفعال المسرحية والأفعال الترابطية وفي طبقة ومنزلة الشخصيات إذ أنهم من النبلاء والحكام المرموقين ولهم تقريباً نفس المصير سواء كانت ظالمة أو مظلومة وبالتالي كان من السهل إقحام كل قصة في أخرى عن طريق حوار مشترك لما لا يكون جماعياً وبلسان واحد أو من خلال شخصية حيادية كشهريار أو شهرزاد أو النادل لو فرضنا أن الأحداث تدور في مقهى، أو محرك للدمى لو كانت الشخصيات عبارة عن ماريونات أو ارحوزات وأن الأحداث تدور في علبة أو مسرحاً، يمكن أن يكون الكمسري قاطع التذاكر لو فرضنا أن الأحداث تدور في قطار، بإمكاننا أيضاً أن نقوم بالتغريب ونتخلى عن الإيهام فنخلق بذلك مسرحاً عامراً بالحركة وبالكلمة أيضاً ليكملا بعض فلا الأول يضعف الثاني ولا الثاني يغطي على الأول.
وهنا تكمن المتعة متعة الممثلين والمخرج والسينوغراف وتقني الإضاءة والجمهور متعت مشاهدة عرض أدبي وبصري كلاسيكي وتجريبي في آن
إن الكاتبة كانت في قمة الصفاء الذهني وهي تنسج خيوط اللعبة وكانت في قمة الجرأة لتتحدى شكسبير وسوفوكليس وأحمد شوقي ففكرت بصوت مرتفع ماذا لو أن “عطيل” لم يظلم “ديدمونة”؟
ماذا لو أن “عطيل” لم يظلم “ديدمونة”؛ وأنها فعلاً كانت على علاقة مخزية بالمسمى “ياغو”… في الأخير لا نار من دون دخان والدافع موجود والتهمة كاملة الأركان لكنها تبقى مجرد تهمة والمتهم بريىء حتى تتم إدانته.
لكن الحكم والخصم هما واحدٌ هنا وقد مات، نعم شكسبير مات ودفن معه السر إلى الأبد وبإعتباره أبيض البشرة؛ فمن الطبيعي ألا ينصف “عطيل” العربي الأسمر ومن الطبيعي أيضا أن يُظهر “ياغو” و” ديدمونة” ضحيتي غيرته المفرطة وغير المدعومة بدلائل وقرائن تثبت تورط الأبيضين.
ومن ذا “عطيل” الجلف العربي الأسمر حتى يتريث ويفكر قبل أن يصدر الحكم وينفذه بعد الأدانة، لا…. فهو ليس ذكيا بما فيه الكفاية ليفعل ذالك، إذ ليس أميراً مثقفاً ك “هاملت ” مثلاً، ورغم أن الكاتب والمؤلف واحد وهو شكسبير بالطبع، إلا أنه جعل من الأمير هاملت شاباً أكاديمياً ذكيا صاحب بصيرة؛ لا يُقدم على الانتقام؛ إلا بعد التأكد عبر فرقة الممثلين ليكشف حقيقة عمه زوج أمه أخ أبيه وقاتله والذي سرق من الرف تاجاً ووضعه فوق رأسه دون وجه حق.
إذا وعلى حسب شكسبير على لسان هاملت وعطيل.. شخصيتان بنفس الدافع ونفس المطلب بطباعٍ مختلفة يصدران أحكاماً مختلفة ليعاقبا شخصيات بنفس القرب والبعد في مسرحيتين مختلفتين إحداهما تحقق العدالة “هاملت” والأخرى ترتكب جريمة قتل دون دليل أو حتى محاكمة “عطيل” فقط؛ لأن “السي” شكسبير (نفحتلوا). أي لمجرد أنه أراد ذلك.
إذن وبعد عشرات السنين من كتابته لكلتي المسرحيتين؛ أظن جازماً أن “عطيل” ذو نخوة وشرف؛ أما “هاملت ” فذو شخصية مترددة هزيلة القرار؛ وأن ديدمونة كبقية بنات جنسها خائنة في مثل هكذا موقف وليس في كل المواقف.
وهذا الطرح على سبيل المثال لا الحصر فكل الكُتاب كانت أقلامهم ولا تزال وجهة نظر تحتمل الصواب فماذا لو أتحنا الفرصة لكريون ليبرر استبداده واعترفنا لماكبث أن طموحه مشروع وأنّ شايلوك في تاجر البندقية محق في أن يقتطع قطعة لحم من أنطونيو …” ماذا لو ” هذه العبارة كانت لتبدو غريبة قبل أن تقرأ مسرحية ”ماريونات ”
لأن البيلي وباقتدار جعلت لهذه العبارة جدوى وأهمية. ليقلب الموازين من انكسار الضحية لقوة خاصة لو أن الكاتبة تتفضل وتضيف مشهداً ختامياً تجتمع فيه الشخصيات المظلومة لتواجه بحركة واحدة وصوت واحد جبروت الطغاة من الشخصيات الأخرى وسط ذهول وخوف منها، لكن تبقى رؤية إخراجية من عشرات الرؤى التي يحتملها النص ويتحملها مصمم العرض.
في الأخير الشكر الكثير والعميق للكاتبة لأنها أضافت للريبرتوار العربي مولوداً في القمة جمع بين قوة اللغة وجرأة الطرح وجماليات رائعة وتحكم رهيب في البهارات التي جعلت منه نصاً شهياً.