اسْتِباحةٌ
على بعد مسافة ليست بعيدة من المعسكرين، كل ليلة يتحاوران حتى يأخذ من الليل شطرة، اقتربت النهايات!
– اعضك وأحذرك أنك وما تقوم به خطأ.
– أوامر أنفذها.
– عندك عقل تميز الحق من الباطل.
– ملك الري قظ مضجعي.
– اذن تعرف الحق!
– نعم.
– ألا تخاف يوم الميعاد.
– أقتلك وأتوب للرحمن بعد سنتين.
مهدي الجابري .. العراق
تُثير المتناولات ضمن مرتكزات النقد الثقافي إشكاليات لا حصر لها؛ بوصف التعامل ضمن هذا الطرح تعاملاً يُلامس البُنية المؤسساتية, حتى المقدس منها, ناهيك على أنّها حفر في ذاكرة الشعوب, فضلاً على أنّها – في نظر الكثير – خطاباً مؤدلجاً, وبذلك استعان هذا النقد (النقد الثقافي), بما عُرِف بالانساق المضمرة, مع المحافظة على جمالية المنجز الأدبي وجماهيريته على حد تعبير عبد الله غذامي. وبما أنّ المعروض الجمالي خطابٌ يُشكل الساحة الرحبة لإسقاطات مفاصل النقد الثقافي؛ والتي دأبتْ المنجزات الفنية وأجناسها لاحتضانه, ومن تلك الأجناس القصة القصيرة جداً.
تأسيساً على ما ذُكر جاءت هذه القراءة المتواضعة لتُسلط الضوء على إمكانية توظيف هذا النقد في مجال القصة القصيرة جداً؛ متخذةً من القاص العراقي (مهدي الجابري) ومن قصته (استباحة) أنموذجاً كعينة تحليل.
اتكأتْ القصة بشكلٍ لافت على بنية الحوار المكثف والمختزل بين شخصيتين شكلتا تاريخيًا وبشكل (سيميائي) ثنائية متضادة دون ذكر اسميهما في القصة لمعرفتهما لدى متلقي النص بديهيًا, لانهما جزء ذاكرة المجتمع, الأول منها الإمام الحسين (عليه السلام), وثانيهما عمر بن سعد, اللذان مثلا يوم واقعة كربلاء رمزان متضادان, وإذا أردنا الحفر في نسيج النص والوقوف على نسقه المضمر, بلا شك فإننا نلمح انتقاد للواقع السياسي, وكيف أنَّ كرسي الحكم عند الكثير الهدف الأسمى, وهذا ما يتضح من حوار الشخصية (ملك الري قظ مضجعي), هذا النص يحيلنا إلى القول: إعادة التفكير بالوقوف عند النصوص الابداعية للوقوف على طبيعة العلاقة ما بين كتابة القصة والثقافة بكافة أشكالها, ومن هنا يتحتم علينا استقراء هذا النص وفق دلالة لفظة (ملك الري) وهو رمز الحصول على المكاسب الدنيوية ولو على حساب قتل أبناء الانبياء, و (قظ مضجعي) وهو رمز انشغال البال والجوانح للحصول على مطامع الذات, وتحول الدين لعِق على اللسان والانشغال بعبادة الدنيا – على حد قول الإمام الحسين (عليه السلام) قُبيل الواقعة بعد خُذلان الناصر, حاول القاص الجابري الاعتماد على النسق المضمر للقصة ذات الجزئيات التاريخية, بطرح فكرة التنازل عن القيمة والمبادئ الحقة من أجل الحصول على مغنم سياسي, ومن الافصاح عن ذلك.
لقد أبدع الكاتب عندما وظف في مستهل القصة عبارة (على بعد مسافة ليست بعيدة من المعسكرين), تجد القراءة أنَّ القاص الجابري أراد أنْ يدخل المتلقي في حيثية الزمان المتخيل بوساطة البعد الرامز, وكأنما يحاول ارسال فكرة أنَّ كلَّ ما حصل من جزئيات مؤسفة في لقضية الحسينية ليست بمعزل عن واقعنا المعاش, وإنَّ التاريخ يُعيد نفسه كل يوم, بدلالة قوله (ليست بعيدة), ثم يحاول صاحب النص يدخلنا في ثيمة الجدال والمناقشة, وطرح ثنائية التضاد بتقاطعهما الذي يستمر إلى أوقات متأخرة من الليل (كل ليلة يتحاوران حتى يأخذ من الليل شطره), هذا الجدال جدال أزلي, ارادت القصة ارسال رسالة وبشكل مضمر أنَّ أصحابَ المنفعة يحرصون على اقناع انفسهم والاخرين بانهم اصحاب حق, وان ما يقومون به هو الصواب والشرعي.
ومن الأنساق المضمرة في القصة, ما ورد في حوار الشخصيتين: (أعضك وأحذرك أنك وما تقوم به خطأ), إذ نلحظ العلاقة المفتوحة ما بين المعنى والرسالة المتوخاة وبشكل غير واضح, فالقاص يحاول ان يقول لأصحاب النفوذ ما تتبنون وما تسعون له دون ضابطة قمة الخطأ, وأنَّ الكاتب – هنا – يجسد مبدأ الوعظ بدلالة لفظة (أعضك وأحذرك), هذا السياق, سياق متكامل لنقد السلطة ومنظومتها التي لم تقدم ما هو مقنع.
ومن هنا حاولت القصة أن تطرح بنية محاكاتية (تشابهية) لواقعة تاريخيَّة راح ضحيتها سبط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم), وواقع مزري معاش ضمن نسيج فني سردي واعي, بالاتكاء على ما أُضمر من نسق اشاري, وهذا ما كشفته المرتكزات البنائية لهذه القصة, والمهيمنات الموضوعية المطروحة ضمن سردية مباركة تستحق الاشادة, فمع قصر العبارات وتكثيف البنى النصية واختصار المعنى نجح القاص مهدي الجابري بتوظيف الخبر الاعتيادي إلى دائرة الإبداع التي تحتاج جهدًا فنيًا ذا معنى مؤثر حسب قول سليمان بكري.