(( شِعريَّة ُالسَّرد والتَّخييل عند الشَّاعر المغربـي ” مصطفى ملح ” ))
عِندما يتَحوَّلُ الحَرفُ الشِّعْرِيُّ إلى اسْتِعَاراتٍ ومَجَازاتٍ يُفْردُ لهَا الشَّاعِرُ مِن رُوحِهِ مِسَاحَاتٍ وظلالٍ، وَيَجْعلُها تنْطِقُ وتبُوحُ وتَعْبُرُ إلى المُتلقِّي لِتَحْفِرَ فيهِ أخَادِيدها وأصْواتها وصَهِيلها؛ آنذاك يُمْكِنُ للشَّاعِر أن يحْتفِي ويكُون سَيِّد الاسْتِعارات والمَجَازَات البلِيغَة والأنيقـةِ.
في المجموعة الشِّعرية ” أمواجٌ في اليابسة ” للشَّاعر المغربي المُجدِّد ” مصطفى ملح ” يُشيِّدُ الشَّاعر عوالمَهُ الشِّعرية من خِلالِ مُعْجمٍ دَلاليٍّ مُمْتاحٍ من الطَّبيعة : (الغابات، حجر،أمواج،الخطاطيف،الشجيرة،حديقتي،العشب…الخ).في هذه المجموعة الشِّعرية يُعْلنُ الشَّاعُر أنَّ المرْء يحيَا حالة ظمإ ويُبْسٍ فيَحْتاجُ للسَّقيِ والارتِـواء.
يَتَحرَّكُ الشَّاعِرُ ” مصطفى ملح” فِي جغُرافِية شِعريَّةٍ قادرة على اسْتيعاب كُل عطشٍ، يَصْهَلُ شِعْراً مُقتفياً أثر الشِّعْر النَّثْري؛ فيسْرُدُ ما يختلجُ بدواخله، فهو الشَّاعرُ المُرْتحِلُ الصَّارخُ ضِدَّ العبثِ؛ المُنْتصِرِ للحَياةِ في نَصَّيْ : ( ضِدَّ العبَث و ” نَعِيشُ معاً نَمُوتُ معاً)؛ ص 104.105 من المجموعة الشِّعرية.
يُؤمِنُ بالموَتِ، يُشارِكُ المَوْتَى رَقْصَهُم، حَيْثُ يقولُ في نص” الرَّقْصُ مع الأصدقاء” ص، 106 :وأزحفُ نحو الموتى.أرقصُ.أشْعُرُ أنِّي لسْتُ غَرِيباً عَنْهُمْ.صِرْتُ رفِيقاً فِي الكُورال الغَامِضِ..إلى قوله في ذات النَّص:
لمْ أكُ حَيّا أصْلاً.كانَ الواقِعُ يَأكُلُني، والآنَ سَتَأكُلُنِي الأَرْضُ !
هُو قدره يَسْحبُهُ نَحْو زُمْرةِ الذين يُشْبِهُونَهُ في الْمَوتِ جَرَّاء الواقع الذي يَأْكُلُهُم..هي طَواحِين الحَياة تجْعلُهُ يَمْضِي إلَى حَيْثُ النِّهاية؛ فأن يُصرِّحَ بأنَّ الواقع يأكلهُ والأرض تأكلهُ..هو إقرارٌ بأنَّه كائنٌ مُنْتهٍ..ومُشاركته الرَّقْص والكُورال دلِيلٌ على يقينه بمأساوية الواقع الذي تحياهُ القرية.
تتكرَّرُ سيرة الأكل في نص سيرة ” موجة “، ص 111:
الشطُّ الجائعُ يأكلُ موجات أم يأكلُ نورسة أم يأكُلُنِي..فهذا الاستفسار تولَّدَ لدى الشَّاعر نتيجة انْحِسار أفق الحَياة..فها هُو في نص ” سِيرة موجة ” يقتفي سِيرة موجة؛ التي في حقيقة الأمر تعبير ذَكيٌّ مِنْهُ عن العاصفة التي تأتي على الحياة والحُرية نتيجة رصاصة..وما يؤكِّدُ ذلكَ أكثر قوله :
يأْكلُهُنَّ الشَّط الجائع،فتكُونُ النَّجاة من نصيبِ منْ فضَّلَ الطَّيَران، ص 111
الشَّاعرُ يؤمنُ باللاَّموت النِّهائي؛ فهناك دوما امتدادات للأشْياء والمَوْجُودات.
يقول :
لاشيء يمُوتُ على الإطلاق، فدورة الحَياة تعودُ بعد رحِيلٍ مُؤقَّتٍ أو بعد عزْفٍ .. إنَّ الأشياء تَعُودُ للحياةِ من خلالِ محفزات.هي حتمية الحياة بعد الموت.
يقول في نص ” لا شَيْء يَمُوتُ نهائيا ” :
لاشيء يمُوتُ على الإطلاق : إذا حُكَّ الطُّبشُور يصِيرُ عِباراتٍ.والْمَوْجُ إذا ما غادرَ يمّا يُصْبِحُ ذاكرة للمَدِّ وبَيْتُكَ إنْ لَمَسَتْهُ أَصَابِعُ موسيقى انْطَفَأَتْ شَمْعاتُ الحُزْنِ بِهِ. و الشَّمْسُ تَموتُ مَسَاءً وسْطَ البَحْرِ، وعنْدَ الصُّبْحِ تَعُودُ أَشَدُّ بَيَاضاً … إلى قوله : لاشيء يموتُ إذن، ص48.
مصطفى ملح يُقيمُ في حقول وعرصات المَجاز والاسْتعارات، تَسْكُنه لعنة الكِتابة المُتفرٍّدة الْمُغايِرة ؛ يأتي إلى الشِّعر من بابِ السَّرد الْمُوغلِ في الاحتفاء بالتَّخييلِ..ذاكرته الشِّعْرية لا تَهْدَأ ولا تفْتُر..ما بين لوحةٍ شِعْرِيَّةٍ وأُخْرَى تُداهِمُك الصُّور المرْسُومة بِدقة؛ إذ يحتفي بالذَّاكرة، تُبَاغِتُهُ أَخْيِلة و ومضات وبارقات، تجْنحُ به لرسْمِ عوالمه الشِّعرية الْمُنكشفة حِيناً، الْمُوغِلة أحايين أخْرى في الدَّهشَة والإدْهَاشِ.
في نص: ” الأتوبيس رقم 3 “؛ عبر رحلة الأتوبيس غير السَّريع يرْسُمُ الجُوع الذِي يسْكُنهُ، إذْ يَشْتهِي أنثى، لكنه ينتهي في عُزلة جائعةٍ ويصْمُتُ عن رسم الْمشهد بنقط حذْفٍ.
يُقدِّمُ الشَّاعِرُ وَصْفه لمُسَامحةِ امرأة من خِلالِ دَفْنِها واعْتِبَارها وَثناً قدِيما،ويُؤْمِنُ بوِلادةٍ نَهارية، وكأنَّ به يُؤَكِّدُ عَلَى كَوْنِ النَّهار أكثر إفْصَاحاً من اللَّيل المُظْلمِ الذي يعتريهِ الخِداع واللاَّوُضوح واللاّيقين.
ومِنْ ثَمَّ فهو لا يأْبهُ بولادة اللَّيل غير المُنكشف الْجَلِيِّ، والدَّفْنُ هنا ينبغي أن يكُونَ واعِياً، في حالةِ صحْوٍ.
يأتِي الشَّاعرُ إلى النَّص ( البياض) يُباغِثُهُ ليلاً حيثُ لا مكانَ للحُزْنِ ..يُعْلِنُ عن أصواتِ البياضِ وزغْرُودة الْكلمات.
يكتبُ الشَّاعر إقرارهُ بيدِهِ ويُوقِّعه في نص : ” قِتالٌ في ليل”.
” أنا مصطفى ابن التُّراب الموقع أسفله …الخ).هو إذن يجعلُ من البياض ساحة وغى وقتال؛ قتال بالْمُفردات :
” تأهبتِ المفردات لِسَحْقِ البياضات.مرَّت ثوانٍ تَرَاجَعَ خط الْعدُوّ إلى الْخلفِ. ماتَ البياض أخيراً فَزَغْرَدتِ الكلمات مُبَشِّرة بِولادةِ نصٍّ علَى ورقِي”.
في ” أمواج اليابسة “، يُوجِّهُ الشَّاعر خطابه الشِّعري السَّردي إلى كائنٍ عَطشانٍ أملا في كأس ضوءٍ.
وقد أتت المَجموعة الشِّعرية ” أمواج اليابسة ” في ثمانية فُصُولٍ،جعل الفصل الثامن منها بعنوان : ” نساء يتَسرَّبن إلى سِرْبي”، وَلَعَلَّ هذا العُنوان يُوحِي بالحُضور المُتميز للمرأة سَواء كانت أمّا، أو حبيبة في حياة الشاعر” مصطفى ملح”.
وفي نص ” ثقب صغير بذاكرتي” يُصَوِّرُ الشَّاعرُ كيفَ استحالت الأُنْثَى التي يَعرِفُها، والتي لا تهتمُّ بنهارهِ ولا بخرٍيفه، هو يؤمنُ أكثر بالغريبة التي تحتويه بحنانها يقول في ص 129، نص: ” ثقب صغير بذاكرتِي” ..والغريبة تَجْمَعُني ثُمَّ تفْتَحُنِي ،فَتَطيرُ عنادلُ منْ جَسَدِي وَأَصيرُ نَشِيداً، وأنتِ تَصِيرِينَ ثُقباً صَغيراً بذاكرتي، إشارة منه إلى تَوارِيها في الذَّاكرة واضمحلالها؛ هي اعترافات شاعرٍ صَاغَها بروحِ شاعرٍ عَاشِقٍ يَعْرٍفُ كيف يُؤثِّثُ حُرُوفه، فيأتي بَوْحَهُ مُطَرَّزا في حَضْرةِ التي أَسَرَتْهُ وَأَدْخَلَتْهُ قَفَصَهَا وصَارَ لها زوجاً؛ تتحوَّلُ المرأة إلى فخٍّ فِضِّيٍّ عَاشِقٍ، فخ مَدفُونٍ تحت التُّربة.
الأنــثى / المرأة في شعر” مصطفى ملح”:
كيف تحصُرُ الأنثى / المرأة في ديوان : ” أمواج اليابسة ” ؟
تشْهقُ في الشَّاعر الأنثى / المرأة، فأفردَ لها فصلاً اجْترحَ له عنوان: ” نساء يتَسَلَّلْنَ إلى سِرْبِي”؛ هيَ الحَرْبُ الوُجُودية التي جعلت الذَّات الشَّاعرة تُقاوم وتُعْلِنُ عن تمَرُّدِها وعن رغبتها في الحياة، والاستمرارِ والْبَقاءِ.
” كُل حَواسِّي حَدَسَتْ أنَّ فَتَاةً لمْ تَمُتْ بَعْدُ، شبيهي الآخر الفَرْدُ، فتاةٌ لمْ تُصَبْ بالدَّم والحرب الوجودية عاشت لِتَرَانِي وَأَراها !.ص 139 من المجموعة الشِّعرية.
ذاكرة المكان والحب في المجموعة الشعرية ” أمواج في اليابسة”
في نص : ” شَرِبْتُ ما سَكَبَ الغُروبُ”، يُشْركُنا الشَّاعرُ في حالةِ العِشق التي عاشها وقت الغُروب فِي الشَّط وأثر الوَداع ،وكَيْفَ انتهى مُمْتطيا صَوْتَهُ نحوَ حَدِيقة عِشْق اشتعلت بِداخله، وكأنَّهُ رسَّام يُمسكُ بريشتهِ وُصَوِّرُ مشهد عشق وقْتَ الغربِ، راسماً ما سَكَبَهُ الْغُرُوب من الْوداع، وكيف انتهى وحيداً في المَحَطَّة مُسْتأْنِساً بليلٍ وَعُزْلة،وقد عبَّرَ عن ذلكَ ببلاغةٍ.
” عُدْتُ إلى رَصيفي الدَّاخلي، كَنسْتُ وَهْماً كُنْتُ أحْسِبُهُ الْحقيقة، وامْتَطَيْتُ الصَّمت نحو حديقةٍ نشَبتْ هُنَاكَ بِدَاخِلي “ص 138″ نص: ” شَرِبْتُ ما سَكَبَ الْغُروب”.
الذَّاكرة وسُؤال الأنا والإحساس بالاغتراب:
هِيَ أسئلة تُدغْدِغُ حَوَاسَّ الشَّاعر في هذهِ المجموعة الشِّعرية، فيبْحثُ لهُ عن مساحةٍ للتَّحليقِ لذلكَ اختار أنْ يَكُونَ نِسراً مُحلِّقاً: ( نص النّسر) ص11.
وهُو بهذا يرسمُ للمُتلقِّي صُورةً عن ذاتِهِ الأبِيَّة التي تَرْفُضُ أن تَكُونَ دُودَةً في الأرضِ.
يقول في ذات النَّص:
” وقدْ عَوَّدْتُ رُوحي أنْ تَطيرَ… الخ “، فالطَّيران والتَّحليق يَشِي بَعَدمِ الْخُنُوع، فسماءه وأفقه رحبٌ : ( أرى اتِّسَاعَ الأفْق يَفْترِسُ الْفراغ..).
موضوعة / تيمة الخوف في نصَّيْ : ” أخَافُ دم العيد” – ” أخافُ رنين الهاتف”، أي خوفٍ يلبَسُ ذات الشَّاعِر؟ ! .
وفي نص ” المُتَّهم”؛ يُعَرِّي الذَّات العَربية الْمُنْهزمة الذَّليلة، ص 98، من خلالِ اسْتِحضَارِهِ لسُوريا؛ إذْ يُعَدِّدُ صُور الهَوان والذُّل : ( بَيْتي مَفْتُوحٌ، نَفْطِي مَسْكُوبٌ ،قَمري مَجْرُوحٌ، جِسْمي مشْلُولٌ، بيعتْ ، مائِدتي غُصِبتْ..الشَّاعرُ لاَيلُومُ غير الذَّات العربية، فهو لاَ يَتِمُّ أحداً :
ما مُتَّهمٌ أَحَدٌ غيْري،لا رُومٌ لا فُرْسٌ لا أمريكا لا نسْلُ سُلَيْمانَ الْباقُونَ، ولا مروان ، ولا أحفادَ مُعاوية الأحياءُ، ولا أعْداءُ دِمَشْقَ ولا سُرَّاقَ الفرحة من شفتيها. لا ..ما مُتَّهمٌ أحدٌ غيري.
يُصَدَّرُ نص ” المتهم” بتوكيدٍ لفظي: (( سُوريا سُوريا ))؛ هي صَرْخة اسْتِجْداء واسْتِغاثَة أم حَسْرة.. لِيُعلنَ في آخر النَّص أنَّ حالة الْعُرْي التي باتت عليْها سورْيا سورْيا ويتكرَّرُ اللَّفظُ يبْدُو الْجرْس المُوسِيقي حزيناً.
غناءٌ هو هذا النَّص بلَوْنِ الشَّجَنِ و الْأسى ..فالشَّاعرُ يَمْضَغُ خذلان الْعُروبَة لسوريا الْجريحة، هو المَسْكُونُ بالْقلقِ الشِّعري؛ مَا يفْتأُ يَكْشِفُ عن مَشَاعِرهِ الَّتي نمَتْ في مِنْطقةٍ وُسْطى ، بين يقينٍ عاشَهُ ووَهْمٍ يَعِيشُهُ.
الشَّاعرُ هُوَ ذاكَ الْكائِنُ الْمَسْكُونُ بِوَجَعِ الْأُمَّـةِ.
” مصطفى ملح ” شاعرٌ مُحَلِّقٌ في الأَفْضية الْمفْتُوحةِ على الْحياةِ والْحُرية. يكتفي هو بالقليلِ من قليل لينْسُجَ حلمه الأزرق.
يقول :
زُرقتان في يدي كافيتان لاعتقال البحر والسَّماء في كُرَّاستي..
فهو شاعر غير مُتطلِّبٍ، يقنعُ بالقليلِ ويؤمن بالقليل لتحيا شهرزاد خارج النَّص الذِّي يُكبِّلُها ويأسِرُها ..فجعل شهرزاد خارج النص يؤشر أيضا رسم إطار جديد للأنثى / المرأة ، إذ لم يعد النَّص هو الذي يُهَيْكِلُ صوتها ورد فعلها.
إنَّ العنوان الذي ارتضاهُ ” مصطفى ملح ” لِيُعبِّرَ عن عواصِفه الشِّعرية؛ جَعلهُ عُنوانا للفصل السَّابع؛ فاليَابِسة إيذانٌ بالنَّجَاةِ للبحَّارَة.
إنَّ الذَّات الشَّاعرة تحيا صِرَاعاً مريراً، الأمر الذي أفْضَى بها للبحْثِ عن هُويتها الضَّائعة في نص ” عِنْدَما غرق البحر” ص 119، هاهُو الشَّاعر يَرْسُمُ التًّحول الذي طال العالم يقول في ” عِظام السَّفينة”:
أعَزُّ صَديق يصِيرُ ألذَّ عَدُوٍّ ..
ملائكة يُصْبحون زبانية
… رعاعٌ يصيرُونَ في لحظاتٍ رُعاة
…الخ.
فيكُونُ الشَّاعر مُضْطرّا للنَّجاةِ بنفسهِ والنَّأْي عن البَحْر الذي يلْتَهِمُ كُل شَيء؛ فمفردة ” البحر” لمْ تَرٍدْ هُنا عبثا، فالشَّاعر ” مصطفى ملح ” يَرصفُ مفرداته في المكانِ المُناسِبِ، فالبحر معروفٌ بعُمقِهِ وغدر أمواجه وتقلبها، لذلك اختارَ العودة إلى غُرفَتِهِ بالمدينةِ لِينْسُجَ صُبحاً مُغايِرا يليق به وتشْتَهِيهِ ذاته.
إنَّه الشَّاعر ” مصطفى ملح” ينقل لنا التَّحول الذي طال الإنسان من خلال معجم الطَّبيعة المُهَيمن في المجموعة الشِّعرية: ( البحر، الموج، اليابسة..)، وكأنَّ به يقول: ( يرحل الموج نحو اليابسة).
فلا شيء يبقى على حاله : نص ” يصيرُ البحرُ يابسة “
لا شيء إذن يُخلِّصُ الشَّاعرُ الرَّسام من الرَّصاصة سِوى خَيَال قارئٍ يكون قادراً على تَشْييدِ ألف مِتْراسٍ.
وحدهُ خيال القارئ الرَّحب الشَّاسع بمُكْنتِهِ التَّصدي للقتلِ ( القتل الرَّمزي)؛ وكأنَّ بالشَّاعر يُصَرِّحُ أنَّهُ بحاجةٍ إلى قارئٍ شاسع الخيالِ يخلِّصُ الظَّبْي / بياض الوُريقة من الموت.
وحدَهُ القارئُ الْمُبحرُ الَّذي يغُوصُ في الأعماقِ يستطيعُ تَخْليصَ الشَّاعر الذي ينتمي في الغالبِ إلى منطقةٍ مُهَدَّدَةٍ بالْموتِ.
إنَّ الشَّاعر “مصطفى ملح” بارعٌ في التَّصْويرِ والرَّسْمِ بالْكلِماتِ، إذْ ينتقِلُ بين ضميرِ الْمُتكلِّمِ ( من أين تأتي الطَّلقة؟) ص 58، فهو مُوجِّهٌ الخطاب وفي ذاتِ الآن الْمجيبُ عنه.
فيضعُ المتلقِّي أمام ذوات مُتعدِّدَةٍ ..
إنَّها الأنا غير النَّائمة ، التي تغتالُ الصَّمت لِتُعْلنَ عن قلقها الْوُجُودي.
..ها أنذا أمشي
في كَفِّي ليلٌ أبيض
في صمتي فوضى تتشبثُ بي.في حَلْقِي وَرْدُ صَديقٍ عادَ منَ النِّسْيَانِ..
فاللَّيلُ الْأبيضُ يفَجِّرُه من خلف العتمات، يؤمنُ الشَّاعرُ بِقُدْرَتِهِ على تَحْويلِ الْعتمة إلى بياضٍ …( فهو مسالم غير حقود..حتَّى وإنْ أتَتْ الطَّلقة من بيْتِ صديقٍ ..دائما ينتظرُ الْورد من الْعدُوِّ.
هو الْحِلمُ والسِّلْمُ والصَّفْحُ دَيدَنُهُ؛ فقلبه كما كفُّهُ ليل أبيض.
يقول في نص” من أين تأتي الطَّلقةُ؟ “
الطلقة، هنا قد تكون خيانة أو خذلانا
فيتحوَّلُ الصَّديقُ إلى عَدُوٍّ والعدو يمُدُّ يدَهُ فيقدِّمُ ورداً ..
وفي نص ” ضوئيات” ص 40 يُعلِنُ عن صداقتهِ للضَّوء مُذْ الصَّرخةُ الأولى ..لذلك يرْفَضُ أنْ يسْتبدِلَ ضوء الشَّمس / الحرية بكأسِ اللَّيلِ الَّذي يَرْمُزُ للاسترقاقِ والْعبودية والظَّلامِ، فروحهُ تشرَّبتْ الضَّوء … وقد ألمعَ إلى كونِ الضَّوء صديقهُ فكيف يقبلُ بغيرهِ بديلاً ..فهُو ابن الضَّوء ولنْ يَرْضَى بِغَيْرِهِ بديلاً.
في نص ” هُوجِمت عِظَامُ البيانو” يصفُ الشَّاعرُ الذَّاكرة الْمُغتالة / ذاكرةُ الْمكانِ / مقهى ” شالَّة”، فالشَّاعرُ يُصَوِّرُ كيفَ اُغتِيلَ الْعيدُ وتعفَّنت الحَلْوَى ..فشالة طالها النِّسيان وفقدت ألقها وقد عبَّرَ عن ذلكَ بقوله: ” لمْ تَكُ إلاَّ دمْعة ذاكرةٍ تتآكلُ بالتَّدًرُّجِ،لذلكَ جعلَ للبيانُو عِظاماً، فالفرح اُغتيلَ في مقهى “شالة “والنِّسيان زحفَ على الْمكانِ بما في ذلك البيانو
بمقهى شالَّة غادر فيل كولينَزُ وهاجمت الغربان عِظام البيانو..
ثُمَّ تعفَّنت الحلوى واُغتيل الْعيدُ، لِيُغَادرَ الشَّاعر المكان بحثا عن حياةٍ وفرحٍ.
يقول في ذات النَّص ص 34
” سِرْتُ أُفَتِّشُ عَمَّنْ يَمْلأُ إبريقي بالأزهار …إيذاناً منه بأنَّ الذُّبولِ قدْ أَتى على المكان فجعلهُ باهتا فَاقِداً لبهائه ورونقه، فالأزهار تُضفي الْبهجة والحياة والفرح على الأفضية وتجعل النفوس تستشعر الدِّعة.
يتوسَّلُ الشَّاعرُ السَّرد لِيُشَيِّد معمار وتضاريس نُصُوصٍ شِعرية حُبْلى بالاستعارات والْمجازاتِ والصُّور التي يطْغى عليها التكثيف.
يُمْسِكُ بعصا الشِّعْرِ ويَهُشُّ بها على الكلمات فتنمو صورا شعرية بليغة تحتاجُ إلى قارئٍ ذَكِيٍّ لِيُعيدَ تَفْكِيكَهَا وقراءتها حسب مرجعيَّته الثَّقافية؛ فليسَ كلُّ قارئٍ / مُتَلَقٍّ يَجْسُرُ على مُقاربةِ نصوص ” مصطفى ملح”، فَهُوَ ينثرُ عليها من بَهِيِّ صُوَرِهِ الشِّعرية، ممَّا يجْعلُها نُصُوصاً مُتَمَنِّعَةً فيعُودُ للتراث ليبني نُصوصاً كمَا فعلَ في نصِّ ” غُصن مغروس في سماء” ،إذْ استحضرَ ” مكَّة ، طرفة بن العبد، القبيلة، خولة، المعلقات ..الخ”.
يتَحَوَّلُ الشَّاعرُ إلى ساردٍ ويتقَمَّصُ أدواراً وينتقلُ بينَ الضَّمائر: ( المتكلم، المخاطب، الغائب)..
لايَنِي الشَّاعرُ ” مصطفى ملح” في كُل مجاميعه الشِّعرية يبحثُ عن صيغة شِعرية تجعلُ تجربتَهُ الشِّعرية تتَفَرَّدُ.فَيَجْعَلُ القارئ في حَيْرَةٍ.
كيفَ يُباغِثُ النَّص هل من عتبةِ وبابِ السَّرد أم الشِّعر، أم هُمَا معاً ..؟
الشَّاعرُ يسْتحضرُ أباهُ ..يُعلِنُ عن افتقاده، كما يُحِسُّ بانكسارِ ساقيه،فَيَعْمَدُ إلى النَّبْشِ في ذَاكرةِ الصِّبا ليسْتَدْعي حدث كسْر ساق النَّعجة وعدم عتاب الأب له،هو افتقادٌ نهائي، وهذا ما تُؤكِّدُهُ جملة النص الموسوم بـ : ” تأخَّرَ أبي كثيراً “.
كيفَ تأتلفُ الكلمات وتصيرُ لها رُوحاً في النَّص الملحوي ؟.
وأنتَ تُقبلُ على تَلَقِّي وتذَوُّقِ نُصوص الشَّاعر ” مصطفى ملح “،تُحِسُّ نفسك ظمآنا، تطلبُ الاستزادة،فكل نصٍّ ينصُبُ أمامَكَ فِخاخاً من المَعانِي التي تحتاج لفك علاماتها ورُمُوزِها، فترتبكُ وتسْتَدْعي دخيرتك الثقافية ومقرُوئك المُتعدِّد المتنوِّع، لكنَّك في النِّهاية تقعُ في فخِّ الْعِشْقِ ؛ عشق نُصُوصٍ مُدْهشةٍ، خلاَّقة، مُبدعة.
وهنا أقول؛ كم يلزمني (( نا )) من كأس لأهزمَ العطش (عطش التَّذوق والقراءة اللَّذيذة ) ، التي تعدك ((نا)) بالمُتعةِ ، وتسافرُ بك ((بنا)) من خلال رموزها إلى عوالم شِعرية بهية وصور وأخيلةٍ عميقة باعثة على الافتتان..
هل سأنجُو من أمواجِ الشِّعْرِ الْعاتية المتلاطمة؟.
هي نصوصٌ آسرة، لا تكُفُّ عن المراوغة، نُسِجَت بِحُبٍّ، فجاءت رصاصاتها الشِّعرية طلقاتٍ مُخْتلفةٍ بين اسْترجَاعٍ وحَفْرٍ فِي الذَّاكرةِ، وبينَ قراءة في الواقعِ والْحَياةِ، وإلى الصِّراع الأبدي : ( موت≠ حياة) ( الفرح ≠ الحُزن ) ( الحب ≠ الكراهية).
استنتاج:
يعرفُ الشَّاعرُ كيفَ يخيطُ لكلماتهِ قُمصاناً تليقُ بها وتجعلها أنيقة بديعةً، وكيفَ يضَعُ على رؤوسها آكاليل وتيجانا، فيأتي إليك النَّص دون أن تذهب إليه، تعقدُ في حَضْرَتِهِ هُدنة قدْ تطولُ أوقد تقصُرُ من أجل محاوراته ..وكثيرا ما تُصابُ بالْعجزِ واليأسِ أمامَهُ، فَتَتَحوَّلُ إلى قارئٍ أبكم ..يحتاجُ إلى قراءاتٍ عديدةٍ.
إنَّ نُصوص هاتهِ المجموعة الشِّعرية تحتاجُ من الْقارِئِ توقيع ميثاق ٍ للقراءةِ، فلا يُباشرُها إلاَّ وهو خال الذِّهن والبديهة من كل المُشوِّشات الخارجية، وكأنه في حضرة إلهٍ أو صلاة تحتاج للخشوعِ وإخلاص النية.فيقبلُ نحوها وقد تجَرَّدَ من كل حُكْمٍ مُسْبَقٍ .. مُطاَلبٌ هو إذن ببناء صُورة خاصة عن النصوص التي يحتفي بها ويقرأها، بعيدا عن النُّصوص النَّمَطية التي أَلِفَهَا.
النُّصوص الملحوية بحاجة إلى الإنصات العميق، إلى السكَّن والإقامة فيها من أجل تبيُّنِ مغزاها ومبناها والانتقال بها من البناء للمجهول إلى البناء للمعلومِ.فالتسلق والسرعة لا مكان لهما في تلقِّيها وقراءتها.
هي إذن، بحاجةٍ لقارئٍ تفاعلي يعيد البناء والتَّشييدَ لكونها نصُوصاً تختزل جماليات خاصة لايستشعرها ويتذَوَّقُها إلاَّ القارئ الفطن الْمُخلص للنَّص؛ الذي يواعده مرات ومرات.
أيها القارئ العزيز؛
دعْ النص / النُّصوص تسري في رُوحِك، لأنَّ الأرض الشِّعرية الملحوية حُبلى بالاحتمالات، هي أرض تجعلك تعيش حالات من الشَّطحات غير المألوفة وغير المُحتمَلةِ.
إنَّ الشاعر” مصطفى ملح ” يُشَكِّلُ ويخلق سماءه الشِّعرية على أرضٍ مَنْذورةٍ للتَّحَوُّلِ والْمُغايرَةِ والإدهاش والإمْتَاعِ.
ما يَفْتَأُ يُشْرِكُنَا في دوائر القلق الشِّعرية المَحْبُوكةِ بِحِنْكَةِ شَاعرٍ مُتَمَرِّسٍ تشَرَّب الحَرْفَ، فتقاسَمَ معنا هواجسهُ ، فوْضَاهُ ، قلقهُ، المعجونِ بمداد وحِبْرِ الإبَاءِ، بحثاً عن أرضٍ شِعْرِيَّةٍ جديدة تبعثُ على الافتتانِ والذُّهُولِ.
يعيشُ الزَّمن الشِّعري بكُلِّ إحساسٍ ويَقَظَةٍ، يُفَجِّرُ اللُّغة ويُشَعْرِنُهَا سرْداً ،فتنتظمُ في فُصُولٍ جعلها مدْخلاً لعوالمهِ الشِّعرية.
وفي ختامِ هاته الورقة أقول: أيُّ جينات شعرية هي جينات الشَّاعر ” مصطفى ملح” ، وأي وَعْيٍ جمَالِيٍّ يتشكَّلُ في جسدِ هذه النُّصوص الْمُخاتِلة؛ إنَّهُ وعيٌ شعريٌّ مُغايرٌ بثَّتْهُ أنفاسُهُ، فانْكَتَبَ صَوتاً شِعْرِيّاً مُتَفَرِّدا يشبهُ ذاتهُ فقط.
أيَّها الشَّاعرُ
احملْ صَوْتَكَ كطائرٍ غرِّيد
رَمِّمْ ثُقُوب الذَّاكرة
أقمْ للشِّعْرِ طُقوس احتفاء،
هو ذاك الشِّعرُ ينبُتُ في الْحُقول
في الْوِديــان
يأتي طلقات ..
دعْ حَيْرَتَكَ تُوقظُ الْجَوْعى
تَرْسُمُ الْبسمةَ الْجدْلــى
تمْحُو أثرَ الدَّمْعـة
كُنْ شَــاعراً وكفَى
فلك مساحة التَّخييل والتَّحليق.
كنْ البحْر، البَرّ، السَّماء.