ظلت المدونة النقدية العربية مرتبطة بالمنشأ الثقافي التراثي في ظل غياب نموذج جديد يمكن الناقد العربي من أدوات منهجية وإجرائية حديثة لمقاربة النص الآخذ في التشكل والتحول ، حتى بدأ الاطلاع عبر آلية التثاقف التي حصلت بين الشرق والغرب سواء من خلال البعثات الطلابية التي درست في فرنسا وإنجلترا أو عبر الدخيل الثقافي الذي مارسته الكولونيالية بثقلها المعرفي على الثقافة العربية التي ظلت في وضع المقتبس والمحاكي للمنجز الغربي الذي عرف تطورا كبيرا على المستوى المدرسي من حيث الغنى النظري الذي شهدته البلاد الغربية ، والتي كانت نتاجا طبيعيا للحداثة الأروبية منذ عصر الأنوارالذي استفاد من إرساء معالم الفلسفة الحديثة على يد ديكارت وكانط وهيجل وغيرهم ، مما دفع بالنقد الغربي إلى الأمام مستفيدا من تطور اللسانيات والأنتربولوجيا وعلم النفس والسيميائية والسيمانطيقا وغيرها من الفروع المعرفية التي التقط النقد الغربي مفاهيمها وأدواتها فأثمر ذلك مناهج نقدية جديدة تحت مسمى المنهج التاريخي والمنهج النفسي والبنيوية التي ولدت من رحم لسانيات دي سوسير والتفكيكية مع جاك دريدا وسيميائية بيرس وموريس وغريماس وما استتبع ذلك من تطور كبير في لسانيات النص ولسانيات التواصل وجماليات التلقي وغيرها .
وفي نفس السياق شهدت النظرية الأدبية تطورا ملحوظا منذ شكلانية الروس التي قاربت النص من الداخل متجاوزة ما أرسته المناهج المقاربة للنص من الخارج كالتاريخي والنفسي مما أرسى دعامات جديدة في الحقل النقدي وفتح الطريق لمقاربات جديدة تتناول الخطاب من زوايا معرفية متعددة ، وكان لابد للناقد العربي أن يمارس نوعا من القطيعة مع المدونة النقدية القديمة التي تم استهلاكها في سياق تاريخي كان ملائما لها ثقافيا لينخرط في مشروع النقد الغربي الذي سيهيمن على تفكير الناقد العربي عبر فلسفاته وأنساقه وأدواته فلم يسلم طه حسين من إغراء المنهج التاريخي في دراسته الشهيرة عن الأدب الجاهللي مستثمرا الشك المنهجي عند ديكارت وطروحات مارجليوت سنة 1925 ليصدر بعدها كتابه في الشعر الجاهلي بعدها بسنة مع ما أثاره من زوبعات نقدية هائجة ، ولم يسلم العقاد ولا النويهي من تأثيرات سيكولوجية فرويد ولاكان فدرسا كلاهما ابن الرومي وأبا نواس دراسة نفسية تستحضر أدوات التحليل النفسي لمقاربة الخطاب ومعرفة ملابسات إنتاجه ، وظهرت المقاربات البنيوية بشكل أكبر في المدونة النقدية العربية لما كان للمنهج البنيوي من سحر أكبر حتى إنه عد ” موضة الستينيات ” في أروبا والبلاد العربية ، وولدت التفكيكية من رحم هذا المنهج بعدما أعلن بارث موت المؤلف في ترسيخ لأهمية النص من حيث المقاربات الداخلية مما فسح المجال لاستدعاء المتلقي الذي ظل مهمشا في الأدبيات البنيوية فكان لجامعة كونسانطس الألمانية مع فولفانغ إيزر وتوماس ياوس الدور الأكبر في ترسيخ مفهوم جديد كان غائبا عن النظرية النقدية والأدبية وهو القراءة والقارئ ليبدأ الحديث عن القارئ النموذجي عند إمبرتو إيكو والقارئ المثالي عند ياوس وغيرها من التصنيفات وما اشترط لهذا القارئ من شروط تجعله قادرا على محاورة النص والتفاعل معه عبر إعادة إنتاج النص أثناء ممارسة فعل القراءة .
إن الناقد العربي الذي استطاع أن يهضم النظرية الغربية عبر قراءة متونها واستيعاب أدواتها المنهجية في كتابات نعدها ثورية لما أرسته من متغيرات جديدة في حقل النظرية الأدبية ك: ” تحليل الخطاب الروائي” و”شعرية دوستويفسكي “لميخائيل باختين ودرجة الصفر في الكتابة لرولان بارث ومبدأ الحوارية لتودروف الذي أرسى مصطلح السرديات وما أرسته جوليا كريستيفا من مفاهيم التناص والسيميائية وفكر ما بعد البنيوية وأعمال جيرار جنيت مثل “أشكال الخطاب الأدبي” وكتابه ” أطراس ” و”مدخل إلى النص الجامع ” ، أخرج النقد العربي من مركزيته الشرقية التي فقدت قوتها الابستمولوجية فكان لابد من إحداث قطيعة تاريخية مع المدونة التراثية لعدم أهليتها لمقاربة الخطاب في ضوء الحداثة وما بعد الحداثة احتراما لمنطق التاريخ إذ لايمكن للعقل العربي أن يمارس نوعا من الرجعية التي تنافي فعل الحداثة ، لذلك وجد الناقد العربي نفسه مضطرا من الناحية النفسية قبل الناحية المعرفية والحضارية إلى امتصاص أدوات النظرية النقدية الغربية وتوظيفها في بيئة عربية ذات حمولة ثقافية مغايرة استطاعت فيها المركزية الغربية أن تفرض نفسها على التفكير النقدي العربي وأن تشكل عبر مناهجها جزءا من مدونة النقد التي انضافت إلى المدونة التراثية .
ومن هنا ، ترسخت قناعات إبستمولوجية لدى الناقد العربي في وعيه آمن فيها بضرورة توظيف المناهج النقدية الغربية في مقارباته عاملا على ملاءمتها مع طبيعة الثقافة العربية ، حيث وجد فيها المعيارية العلمية التي يستلزمها النقد الحديث في مقاربة خطابات جديدة آخذة في التحول بفعل متغيرات تاريخية متلاحقة ومتسارعة الإيقاع فكان لابد للنقد من مواكبة هذه التحولات والعمل على رصدها بأدوات متعددة أفرزتها طبيعة النص والرغبة من قبل الناقد في الإحاطة بمختلف جوانبه باعتباره سيرورة ثقافية لا مجرد معطى لغوي كما فعلت المدزنة النقدية القديمة حين تعاملت مع النص في تشكله اللغوي بلاغة وانسجاما واتساقا وانبناء وتشكلا فنيا في الحدود التي أرستها أدبيات النقد مع الجاحظ وابن قتيبة وابن رشيق وأبي هلال العسكري وقدامة بن جعفر وغيرهم .
وبناء على هذا التصور فقد تمكنت النظرية النقدية الغربية بمختلف مركباتها ومدارسها واتجاهاتها أن تضع تقتحم التفكير النقدي العربي الذي وجد نفسه محاطا برزنامة من المناهج المحملة بفلسفات وتصورات استفادت من العلوم الإنسانية فأغنت المدونة الغربية مما سيمكن المبدع العربي الذي تمرس على الفعل النقدي من التقاط الأدوات والتقنيات الجمالية والفنية لا في ممارسة العملية النقدية وإنما في إنتاج النص الإبداعي الذي سيخترق الأنساق التقليدية ويتجاوز المنتج الفني الذي دأبت عليه الإبداعية العربية لعقود ، كما وجدنا عند روائيين استطاعوا أن يدخلوا بالرواية غمار التجريب متجاوزين الأنساق المونولوجية التس سادت من قبل مرسين لوعي روائي جديد قوامه التعددية الصوتية أو ما يعرف بالبوليفونية ، ونفس الأمر سنجده عند الشعراء الذين سلكوا بالخطاب الشعري طريقا جديدة في اتجاه قصيدة النثر والشعر المرسل مسفيدين من شعرية تودروف وهنري ميشونيك وغيرهما على المستوى النقدي سائرين في خط موازلتأثير الحداثيين من الشعراء الغربيين ، وكذلك الشأن بالنسبة للمسرح الذي متح أدواته الجمالية والفنية من تطور النقد المسرحي على يد بافيس وموكارفسكي وغيرهما من الأسماء التي أرست لنقد مسرحي حداثي التقط مفاهيمه ومصطلحاته الناقد العربي ووظفه في نقوده للنص والعرض المسرحيين مستثمرا مفاهيم وأدوات السيميوطيقا كالعلامة وتصنيفاتها الثلاثية عند بيرس ( أيقونة ـ رمز ـ مؤشر) ، والميكرو ـ علامة عند موكارفسكي والدلالة المصاحبة وغيرها ومستدعيا الاركيولوجيا في معانقتها لجينيالوجيا نيتشه في مقاربة النص من حيث الحفر في طبقات اللغة والطرح الأنتروبولوجي في مقاربة العلاقات الاجتماعية والبنيات الذهنية واستحضار المقاربة اللسانية بثنائياتها السوسيرية ( لغة / كلام ، دال / مدلول ، سانكرونية / دياكرونية ..) ومفاهيم لسانيات التواصل عند ياكوبسون ولسانيات النص وتالسياق عند ” فيرث ” وغيرها من المفاهيم والأسس التي قامت على توجيه الممارسة اللسانية .
لذا فامتلاك الناقد العربي للوعي الابستيمي بهذه الطروحات وغيرها مما يوسع من دائرة ثقافته التي سبق أن غذاها التراث العربي واستدعاؤه للمدونة الغربية بحمولاتها المختلفة لابد أن يسير بالنقد العربي في طريق صحيح نحو تأسيس مشروعه المستقل الذي يستجيب لخصوصية البيئة والثقافة العربية بعيدا عن الخضوع لسلطة المركزية الثقافية الغربية التي تحتاج من الناقد العربي إلى عملية تطوير وشحذ وتبرية لإرساء دعامات نقد عربي مؤسس يمتلك معياريته العلمية كما فعل النقاد العرب في العصور الذهبية من تاريخ الإسلام وهم يستلهمون الأسس المرجعية للنقد من ثقافة اليونان وتحديدا من كتاب فن الشعر لأرسطو وقواعد المنطق من الأرغانون مستثمرين بدهاء تثاقفهم ، دهاء تجاوز المدونة النقدية إلى الفكر الإسلامي الذي كان أصعب من حيث التقاط حمولة المدونة الفلسفية من الممارسة النقدية التي كانت أيسر لدى كبار نقاد العربية.