الذات والعالم ثنائية إطارية تمثل بتفاعل طرفيها قوام الحياة عمومًا، حياة العنصر البشري على وجه الأرض، إن العلاقة الجامعة بين طرفيها، تتيح في الغالب للعالم أن يكون بما فيه ومن فيه موضوعًا يقع في مدار اهتمام الذات باستمرار، في حالة مضارعة لا تتوقف؛ وما يجعل من هذه الثنائية في عمومها سببًا لحزم من النتائج المتصلة بالذات الإنسان فكرًا وشعورًا، هذه الذات نفسها من خلال تجليها الفردي والجمعي. ( )
إن العالم ينطوي في هيئته على موجود ذي طابع رحلي متغير لا يعرف الجمود، بالنظر إلى ظواهره الطبيعية من ليل ونهار وشمس وقمر وفصول أربعة وعوارض طارئة من مطر وزلازل وبراكين وبرق ورعد …إلخ، هذه الحالة القلقة التي لا تعرف سكونًا تترك بلا شك آثارًا فاعلة في وعي الذات، تدفعها وتجعلها في حالة نشطة من الفكر الدائم بغية تحقيق أقصى قدر ممكن من الحضور المثالي الإيجابي، تلك الحالة التي لا ترتبط في الغالب بقيم دلالية موضوعية بقدر اتصالها برؤية الذات وبتجربتها وباحتياجاتها وبنظراتها للمحيطين بها، في ظل مفردات تمثل في حضورها سلطة غالبة فاعلة مهيمنة على صلاتها وتفاعلاتها والأنساق الفكرية والشعورية والسلوكية الملازمة لها، هذه المفردات مثل: المنافسة، الطموح، المساواة بالغير، التفاخر، الفوز، السبق، الشعور بالعظمة، الهيمنة، نيل إعجاب الآخرين، إشباع الناقص. ( )
لا شك في أن محاولة الوقوف على هذه الحالة الناجمة عن تفاعل طرفي ثنائية الذات والعالم تقتضي استقراء عبر مستويات معرفية عدة: تاريخية، نفسية، اجتماعية، فلسفية، سياسية؛ فالذات بتجليها الجمعي والفردي تحيا دنياها من منطلق غريزي فطري يتمثل في السعي والحركة الدائبة بغية إدراك اللذة والسعادة التي بها تقاوم مظاهر الحرمان والكبد والنقص والألم، وغير ذلك من نزعات عاطفية سلبية تدفعها إلى وضعية تجعلها تعيش حياتها في حالة لا إرادية تقوم على الهروب الدائم منها.
وفق هذا الطرح نجد أنفسنا بصدد حالة من الفعل ورد الفعل؛ ورد الفعل هاهنا يعد المشكلة التي تجعل هذه الورقة البحثية منها مجالاً لمعالجتها؛ إن الاختلاف والتباين بين بني آدم أفرادًا وجماعات يمثل حتمية لا مناص منها، الناس متباينون في الفكر في العلم في القوة في المال في المعتقد في غير ذلك الكثير والكثير مما يمكن رصده والحديث عنه ويتطلب حقولاً معرفية يتم توظيفها في مناقشته وإلى فضاءات نصية تحتضنه لرصده وتدوينه، لكن جوهر القضية يكمن في أن الذات في سعيها لسد فراغات الناقص في حياتها قد ينطوي في كثير من مراحل عمرها على عثرات وسلبيات يترتب عليها نتائج مأساوية تلقي بظلالها على فضائها الحياتي الخاص المحدود ومن يقعون فيه من الدوائر القريبة منها، وعلى الفضاء الحياتي الأكثر عمومية واتساعًا؛ فمظاهر قبيحة تشوب حياة الإنسان وتحملها مفردات، مثل: القتل، الصراع، الحروب، الخصومات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومشاعر معلومة بالضرورة، مثل الحقد والحسد، وتمني ما عند الغير لنفسها وزواله عنه، كلها تعد نتائج محتملة ومتوقعة وحاصلة بالفعل ناجمة عن هذه المعادلة التي تتكون من عناصر عدة: ذات+شعور بالنقص+فعل+سعي وحركة+غاية منشودة.
إن التأمل الاستقرائي المتأني في العناصر المكونة لتلك المعادلة يتيح الوصول إلى نتائج أقرب إلى الدقة، إذا ما نظرنا باستغراق وتفصيل إلى مسألة الغاية المشتهاة الآتية في نهاية هذه المعادلة؛ إن هذه الغاية تدفعنا بنظر واع ٍإلى:
-دوافع الوصول إليها
-الوسائل المستخدمة لأجل الوصول إليها
-النتائج المرتبة على الوصول إليها وأثرها في حياة الفرد وحياة من حوله وحياة المجتمع عمومًا.
-هيئة الغاية المنشودة ذاتها من حيث مسألة إدراكها من عدمه؛ هل غاية تستحق وتدفع حياة الذات إلى الأفضل؟ أم لا؟ هل تم الوصول إليها فأضحت أمرًا ممكنًا؟ أم عجزت الذات عن إدراكها فصارت وهمًا وعقدة قد تفضي إلى نتائج أكثر سلبية في بنيان الذات النفسي يؤدي إلى حالة مرضية وحالة حياتية أكثر قبحًا؟
في كتاب ” فن اللابمالاة” لمارك مانسون مادة معرفية يتسنى للقارئ من خلال مطالعتها تكوين وعي يقوم على محورين:
-الحاصل الكائن بالفعل في سياق الحياة بتدرجه من الفردي إلى الجمعي إلى الإنساني على امتداده الزماني والمكاني.
-ما يجب أن يكون ويعد بمثابة مقترح أو توصية يقدمها له مؤلف الكتاب من خلال تجاوز التفصيل إلى المجمل الذي يمثل قناعة يتبناها الكاتب ويوصي القارئ بالعمل بها. ( )
إن متغيرات الحياة تدفع الإنسان رغمًا عنه في أحيان كثيرة إلى إعادة النظر في أسلوبه في التفكير وفي الشعور وفي الممارسة الأدائية المصاحبة لذلك من خلال ما ينجزه من أدوار في داخل سياقه، هذه العملية تجعله في موقع شديد الحساسية بين طرفين ( الآني الذي ينطوي على حالة قلقة يسعى جاهدًا إلى تغييرها والمنشود الذي يظنه فردوسًا يسعى لنيله).
إننا إذًا بصدد لوحة يمكن تخيل أجزائها، المتسبب فيها بدرجة كبيرة تلك الرسائل المبثوثة من العالم وما فيه ومن فيه إلى هذا الإنسان ولا تكف عن التوقف، فتدفعه دفعًا إلى القيام برد فعل مضاد، تعين عليه عوامل؛ منها رؤيته لأقران له يتحركون ويمارسون ويدركون غايات يرى هذا الإنسان من وضعية المراقب عن كثب أو من مسافة أبعد أن قيامه بها على غرار وعلى خطى المحيطين به وتحصيله لها مثلهم سيحقق له سعادة؛ فتصير السعادة المظنونة إذًا ليس في إدراك ما ينفعه ويحقق لحياته شيئًا إيجابيًا تقتضيه ومن شأنه أن يغير منها للأفضل والأنجع له ولمن حوله، لكن في تشبهه بمن حوله وصنيعه مثلهم فحسب؛ فيتحول مفهوم السعادة من قالب نموذجي يحتضن دلالته إلى قالب زائف يتمثل في محاكاة من حوله بطريقة تغيب عنه مقومات العلم والوعي وتجعل منه تابعًا يسير منقادًا متجاوزًا فضاء احتياجاته الفعلي إلى فضاءات حياتية لا تخصه وقد لا تناسبه يسعى للتشبه بها بناءً على حالة تنافسية مرضية ورغبةً واهمة في الاستمتاع بشعور بلذة زائفة بالتفاخر والزهو إذا ما وضع في مقارنة تجمعه بغيره.
إن السعي لتحويل حالة الحرمان أو مواجهة عوارض النقص أو تجاوز عتبات الحزن والألم التي يعاني منها الإنسان (الفرد والجماعة) أغلب حياته ليست المشكلة، لكن المشكلة في دوافعها وفي الآليات المتبعة وفي النتائج التي قد تنجم عنها.
إن الفلسفة والفلاسفة على مدار التاريخ الطويل لذلك الحقل المعرفي والمنتسبين له المهتمين به تضعنا أمام توصيفات متشعبة كمًا وكيفًا لهذه الحالة الحياتية المتسلطة، وفي صحبتها وبالتوازي معها حقول أخرى؛ كالتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع، وتيارات فكرية اقتربت أكثر في دائرة رؤيتها من مدار الفن والأدب على وجه الخصوص، كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية.
وفي ضوء ذلك التناول نجد أنفسنا أمام قناعات أشبه بتوصيات علاجية:
-جمال الحياة سعي يقوم على الإضافة وتحصيل الجديد دائمًا.
-السعي يتأسس على امتلاك قدرات حقيقية تجعل من الوصول للغاية أمرًا ممكنًا.
-في السعي على الإنسان أن يقرأ أولاً قراءة توصيفية متأنية طبيعة الأزمات التي يكابدها، وما تتطلبه مما من شأنه إزالة مظاهرها.
-حركة الإنسان من فضاء الاحتياج إلى فضاء الإشباع يجب أن تتأسس على وعي مفاده أن ليس كل ما يحصل في فضائه الخارجي ويسير وراءه الغير طلبًا لنيله يكون بالضرورة مفيدًا نافعًا له هو.
-إدراك طبيعة الغاية المنشودة من جهة، وقراءة ما تمتلكه الذات من قدرات وإمكانات قراءة ينتج عنها إجابة عن هذا السؤال: هل تستطيع الذات نيل تلك الغاية بأفعالها وبإمكاناتها المتحصلة لديها بالفعل أم لا؟ يعد أمرًا ضروريًا وحتميًا تفاديًا لحالات سلبية قد تلقي بظلال قاتمة على الذات وتدفعها دفعًا إلى حائط مسدود ليس عنده سوى مشاعر قبيحة من نوع: الاكتئاب، الإحباط، اليأس، وقد يصل الأمر إلى حافة كارثة هي التخلص من الحياة كلها؛ أي الانتحار.
-الشعور بالسعادة لا ينبع فقط من معرفة ما يجب الاهتمام به والحرص على نيله، لكنه ينبع أيضًا من إدراك ما يجب عدم الاكتراث به من الأساس أو إعطائه قدرًا من اهتمام.
-ترتيب واجبات الإنسان وأولويات العمل بالنسبة له إلى جداول تنقسم قسمين: عاجل وآجل ومحاولة الإنجاز المستمرة لها وفق هذين القسمين تعين كثيرًا على تكوين شخصية مثالية إيجابية أسرع من غيرها اقترابًا ووصولاً لما يطلق عليه الغاية والحلم الفردوسي السعيد في هذه الحياة.
-قراءة الإنسان لمشاعره فيما سبق من حياته سواء أكانت فرحًا وسعادة، أو حزنًا وألمًا ومسببات الاثنين قراءةً تحاول وضع إجابة عن هذا السؤال: هل كانت تستلزم وتستحق الشعورين النقيضين؟ أم لا تستحقهما تعد أمرًا حتميًا لازمًا في سعيه وحرصه على أن يكون المستقبل أكثر حسنًا ومثالية من الماضي ومن الحاضر كذلك.
-اللامبالاة إذًا وسط بين طرفين: المبالغة في الاهتمام من جانب، والإهمال والانصراف الذهني والشعوري لدرجة العزلة والانفصال الكامل عن العالم ومتطلباته ومتغيراته من جانب ثانٍ.
—–
* أ.د أحمد يحيى علي: أستاذ الأدب والنقد، كلية الألسن، جامعة عين شمس- جمهورية مصر العربية.