
وقف محمد ابن أبي جمال أمام المرآة وبرفق تحسس لحيته وذقنه، ثم مسحهما بباطن كفيه بقوة
“هذا البياض الذي احتل وجهي ورأسي حقيقي، لا يمكن إزالته، لكني أنا أنا، ما زلت ذلك الطفل الذي ركض في شوارع الحارات، ورقص في الحقول، وشاغب في كثير من الأوقات، فمن أين جاء هذا البياض الذي يملأ وجهي ورأسي؟”
ابتسم الحلاق بوجه محمد ابن أبي جمال، ثم وضع قليلا من (البودرة) على مقطنته، ومسح بها رقبة محمد، ثم سكب قليلا من (الكالونيا) بين كفيه ومسح بهما ذقن محمد ابن أبي جمال، ثم قال بحب: نعيما يا عريس!
نظر محمد ابن أبي جمال في المرآة المنهكة التي تنتصب أمامه، فأعجبه الرأس الذي أطل عليه خاليا من اللون الأبيض المشؤوم.
” سأظل أقص مخالب هذا الوحش الذي يحاول التهام روحي، لن أسمح له بالتمدد بين أنفاسي”
مشى محمد ابن أبو جمال في شارع الحارة المليء بالمطبات والحفر بخطوات واثقة ثابتة.
– “تفضل يا حج، تعال، تعال اشرب لك كاسة شاي!”
” حج يعني كبير في العمر، وأنا أنا، ذلك الطفل الذي ملأ هذا الشارع صياحا وقهقهات، ولم يحتلني الكبر بعد”
-“شكرا شكرا، عندي موعد بعد ربع ساعة، خليها ليوم ثاني”
ومضى محمد ابن أبي جمال سادرا في طريقه بين البيوت المتراصة المتقابلة المتجادلة المتصايحة حتى استعجله صياح بعض الصبية المتجمهرين أمام لوحين خشبيين وكومة من أعواد الملوخية.
– “يا زلمة شوت الفطبول، يلا بسرعة”
– “مش شايف الختيار يعني؟!”
“ختيار بعينك!”
حاول محمد ابن أبي جمال الركض لكن ثقلا عجيبا بقدميه منعهما من الطيران بعيدا عن ملعب الطفولة، فناقلهما برفق حتى سمع أحد الأطفال يصيح: يلا العب بسرعة، الختيار راح، يلا قبل ما…
سرى الغضب بين عيني محمد ابن أبي جمال، عض شفته، وضرب قدمه بالأرض، وأكمل سيره بخطى صلبة لم يوقفها ما أحس به من تعب ووهن وما تقافز من أنفاسه بين أحضان نبضات هاربة من صدره.
“من يقنع هؤلاء أنني أنا أنا، ما زلت أحمل في جسدي روح ذلك الطفل محمد ابن أبي جمال بكل فيها من عناد وجلد وتحد وقوة وثقة وثبات…”
“المسافة من السوق إلى البيت كانت قصيرة جدا فما أطالها؟ بربع ساعة كنت أقطعها مشيا، وأنا اليوم سأمشيها”
مشى محمد في شوارع الزرقاء الضيقة المليئة بالناس والرغبات والبسمات والأحلام والعبرات والنظرات…أحس بالتعب، تسلل إلى قدميه الإرهاق …
“سأركب الحافلة”
ولما لم يستطع جسده حمل ما توثب في دمه من رفض لجأ إلى أقرب موقف، وحط عنده رحاله.
وقف محمد ابن أبي جمال كالصنم بانتظار الحافلة، لم يحاول الجلوس، ولا حاول الاتكاء، ظل ثابتا في مكانه معلقا عينيه على أعمدة ناصية الشارع، شعر بالتعب، تراخت قدماه، بدأ صبره وجلده ينفدان.
“اصبر يا محمد، ألا ترى أنهم جميعهم ينظرون إليك، اصبر فأنت أنت، ذلك الطفل الذي ملأ الدنيا وأشغلها…”
وبعد انتظار طويل توقفت حافلة أمام محمد ابن أبي جمال، فحاول الصعود مع الصاعدين، ولكن الأيدي القوية الكثيرة والأجساد المتزاحمة صعدت ودفعته بعيدا عن عتبة الباب، وملأت مقاعد الحافلة وممرها الضيق، فبقي محمد ابن أبي جمال عند عتبة الحافلة يتفقد جسده، ويتحسسه، ويطمئن نبضاته الشاردة.
” إن لم تركب الآن ستتأخر على…
صوت ناعم بارد حلو أطل من بين الأجساد المتزاحمة: “تعال يا حج تعال “.
صعد محمد الحافلة، مرر جسده بعناء بين الأجساد المتزاحمة التي ملأت ممر الحافلة، تعلق بالسقف، ثبت ساقيه، وشد جسده بتعب إليهما، وتراقص قليلا يمنة ويسرة.
صوت دافئ جميل عميق جاء من أقصى الممر:
“قوم يا عليان، وقعّد سيدك الحج”
وجلس محمد ابن أبي جمال …