
أسهمت الروافد المعرفية المتعددة في إغناء الثقافة العربية ومدها بمقومات معرفية جديدة أحدثت في داخلها نقلة إبستمولوجية مغايرة للسائد ، فشهد القرن الثاني إلى الرابع الهجري ثورة معرفية هائلة مست فروعا كثيرة من المعرفة الإنسانية ، مست الأدب والعلوم والفكر والفلسفة والدين ، فكان من مظهر الاغتناء الثقافي ظهور المدارس والتيارات الفكرية والاتجاهات المذهبية ما جعل تلقي المعرفة أمرا مفتوحا أمام الجميع من الخاصة والعامة ، ما استوجب اجتهادا أكبر من أهل العلم تقريبا للمعرفة وتيسيرا للتلقي فكان الشعر التعليمي منهجا بيداغوجيا وجد فيه أرباب العلم طريقا إلى ذهن المتلقي العربي ووجدانه معا ، لأن الخطاب الشعري شكل جزءا من المفكرة الثقافية للتلقي العربي وأسهم في تكوين الذائقة العامة فكان مدخلا ملائما لتمرير وترسيخ المعرفة على مختلف أشكالها.
لقد تشكلت المعرفة العالمة في الثقافة العربية في مختلف أصناف المعارف والعلوم ، فكان المنتج النحوي والصوتي والعروضي والفلسفي والبلاغي والنقدي والعلمي مادة أغنت البيئة الثقافية غير أن عددا من التصانيف امتازت بتعقيدها وصعوبة إدراكها لتمنع المادة فيها وحسبنا أن نشير إلى معجم العين للخليل وترتيبه الصوتي المتمنع على الإدراك للعامة من الناس ، أو علم العروض الذي وجد فيه المتلقي عسرا في الفهم ، حتى إن الخليل نفسه تحرج من طرد الرجل من الإتيان إليه لأخذ العروض عنه فأمره بتقطيع البيت التالي : إذا لم تستطع شيئا فجاوزه إلى ما تستطيع
ليفطن الرجل إلى مراد الخليل وينقطع عن زيارته ، ونفس الأمر نجده في الفلسفة الإسلامية التي كانت تمارس ازدواجية الخطاب فتجد الفيلسوف منحدرا بلغته الفلسفية إلى الشارع كما كان يفعل سقراط من قبل ، وتارة أخرى تجده مستعليا بخطابه الذي يقف عند حدود التلقي الخاص ، كما في قول الكندي : تأييس الأيسات من ليس ” فعبارة من هذا النوع لأي يمكن للمتلقي العادي أن يفهمها ، لأنها تمتح من الجهاز المفاهيمي اليوناني في أصوله الفلسفية فهي تعني إيجاد الموجودات من عدم ، لذا فتعابير من هذا اللون تظل محصورة في دائرة التداول الفلسفي الخاص بين الفلاسفة ، لكن أغلب الكتب الفلسفية في الثقافة العربية راعى فيها الفلاسفة فعل التلقي واجتهدوا في تبسيط المعرفة الفلسفية للقارئ لتمينه من أدواتها ومفاهيمها خاصة وأن دورها في نقل الثقافة العربية من دائرة النص إلى العقل والبرهان كان أمرا حتميا استوجبته حداثة معرفية جديدة ، ولو تتبعنا ما صنعه النحاة والمعجميون والدارسون على اختلاف مشاربهم المعرفية لوجدنا أن المحضن الثقاتفي العربي وسم بالتصنيف الموسوعي كما نجد في الأغاني للراغب الأصفهاني وإحياء علوم الدين للتوحيدي ووفيات الأعيان لابن خلكان وغيرها كما نجد التصنيف متوجها نحو الشروح المتعلقة بالمظان واختصار المطولات كما نجد في الشروح النحوية والصرفية مثل شرح”الكافية لابن الحاجب ” وشرح الشافية لابن الحاجب كذلك وشرح المفصل لابن يعيش وشروحا شملت كتب الدين مثل فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني وحاشية السيوطي على سنن النسائي ، بل وجدنا في تراثنا العربي ما قصر الكتاب كاملا على شرح نص واحد كما صنع المناوي في شرحه لقصيدة النفس لابن سيناأما اختصار المطولات فإن تراثنا يشهد بمن أولع به ولعا شديدا كا بن منظور صاحب لسان العرب فإنه اختصر عددا لا يستهامن به من الطوال فقد اختصر الأغاني بأجزائه الخمسة والعشرين في كتابه مختار الأغاني وله مختصر الحيوان للجاحظ ومختصر زهر الآداب للحصري وغيرها ، ولابد أن هذه الحواشي والشروح والمختصرات كت ترمي إلى التعليمية وتقريب المعرفة من الأذهان ، وكأن قراءة المطولات والمظان وأمهات الكاتب أمر معجز بالنسبة للقارئ العادي لم يكن يجد فيها العالم المتبحر الموسوعي أدنى صعوبة في خوض غمارها وإعادة كتابتها كتابة واعية فاهمة مدركة للمقاصد بأسلوب أقل تكلفا مما هي عليه في أصولها ، ما أسهم في إعغناء فعل القراءة وإثراء الحياة العقلية في الثقافة العربية ، لكن رغم هذه الجهود يظل الشعر التعليمي من أقوى المؤثرات وأنجع الطرق التي لقيت مقبولية قرائية لدى الطالب العربي لا باعتباره انبناء ذهنيا فحسب ، لكن من حيث تكوينه النفسي الذي شيدته الذائقة الشعرية بحمولتها الوجدانية المنترسخة في الأبنية السيكولوجية للإنسان العربي ، فالشعر ديوان العرب وهو اللسان الناطق عبر التاريخ العربي بأمجادها وبطولاتها ونكساتها وانهزاماتها ، إنه المدونة الأكبر في التاريخ ولابد أن اتخاذه بناء لتمرير المعرفة سيكون ذا أثر أكبر في الوجدان قبل العقل ، وهو ما يجعله وسيلة بيداغوجية ناجعة استطاعت فعلا أن تنقل المعرفة في مرحلة تاريخية لا يزال الشعر العربي فيها حمالا للوجدان العربي ، فكانت المنظومات في الفقه كمتن ابن عاشر وفي النحو كألفية ابن مالك من أشهر ما نظم لتقريب المعرفة الدينية والنحوية من الأفهام ، وكانت المنظومات تتوالى في شتى الفروع المعرفية في العروض والعلوم كالفلك والطب والرياضة وفي الفلسفة تطلعنا أراجيز ابن سينا على هذا الشأن إذ نظم في الطب والتشريح والأدوية وفي الفلسفة قصيدته في النفس تلخص حمولته الفلسفية للنفس بتصانيفها الثلاثة نباتية وحيوانية وبشرية راسمكا فيها صورة الورقاء للنفس البشرية وهي تهبط من مها العلوي لتتجاور مع البدن.
الشعر التعليمي في الثقافة العربية
إن محاولة التأريخ للشعر التعليمي في الثقافة العربية يحتاج إلى عملية الحفر في طبقات المثاقفة وهو أمر من الصعب الحكم فيه على الرافد الأكثر تأثيرا ، فالثقافة العربية امتزجت بالهنود والفرس واليونان وكل من هذه الثقافات تمتلك هي الأخرى روافد من جغرافيات عديدة ، لذا فهو أمر يظل غير ذي معنى بالنسبة لنا رغم محاولات الدارسين ترجيح كفة الهنود لتأثيرها الأكبر على الفكر العربي من حيث التشابه في المدونة السردية بما فيها من حكايات وأساطير وأسمار كما يذهب إلى ذلك الدكتور مصطفى هدارة وقد تكون النشأة عربية خالصة أسس لها رؤبة والعجاج في متونه اللغوية المعروفة بجمع الغريب وهذا طرح ذهب إليه الدكتور أحمد أمين ، ما يدلمنا قطعا على أن مسألة الحسم في الجذور تظل متمنعة ، لأن التداخل بين المؤثرات كان قويا ، فتأثير اليونان كان ظاهر الأثر في شعرهم التعليمي وهم الذين عرفوا هذا اللون مع الشاعر ” هزيود” ، وأيا ما كان التاثير فالراجح عندي أن الشعر التعليمي ولد في البيئة العربية استجابة للتطور المعرفي والاغتناء الشديد والمتسارع الذي شهده المحضن الثقافي العربي خلال العصر العباسي بشكل أكبرخاصة زمن الرشيد والمأمون ، فكان ضرورة تربوية وتعليمية احتاجها أهل العلم كمنهج بيداغوجي يتلاءم مع الكفايات الوجدانية للمتلقي العربي الذي يستسهل الشعر المتشكل والمتخزن في ذاكرته عبر الزمن ، ما يجعل تلقي المعرفة شعرا أمرا يسيرا بالنسبة له ، فتنوعتة المتون والاراجيز في شتى فروع المعرفة الإنسانية سواء تلك التي اقتحمت العمق المعرفي للكتب أو تلك التي عرفت بها وعملت على تحبيبها للقراء كما نجد في قول أبان اللاحقي عن كليلة ودمنة يقول :
هذا كتاب أدب ومحـــــنه وهو الذي يدعى كليلة ودمنه
فيه دلالات وفيه رشــــــد وهو كتاب وضعته الهـــــــند
فوضعوا آداب كــل عالم حكاية عن ألسن البــــــــهائم
فالحكماء يعرفون فضله والسخفاء يشــــــتهون هزله
ولبشر بن المعتمر قصيدة في الفلسفة والطبيعة وعلم الحيوان يقول :
تبارك الله سبحانه بين يديه النفع والضر
من خَلْقُهُ في رزقه كُلّهم الذِّيخُ والتَّيْتَلُ والغُفْرُ
وساكنُ الجوِّ إذا ما علا فيه ومن مسكنه القفرُ
والصدع الأعصم في شاهق وجَأْبَةٌ مَسْكَنُها الوَعْرُ
والحيَّةُ الصماء في جحرها والتتفل الرائغُ والذّرُّ
وفي الطب نظموا متونا وأراجيز منها ما تحدث عن فن الطب وصناعته ومنها ما أرخ لهذا العلم كإسحاق بن حنين الذي قال :
أنا ابن الذي استودع الطب فيهـــم وسمى به طفل وكـــــــهل ويافع
يبصرني أرسطاطاليس بارعــــــا يقوم مني منــــــــــطق لا يدافع
وبقراط في تفصيل ما أثبتت الألى لنا الضر والإسقام طب مضارع
وما زال جالينوس يشفي صدورنا لما اختلفت فيه علينا الطبـــــــائع
ويحيى بن ماسويه واهْرن قبـــله لهم كتب للناس فيها منـــــــــافع
ولهم في الفرائض والدين متون لا تعد أ>طر منها لعبد الحميد اللاحقي بضع أبيات يقول فيها :
هذا كتاب الصوم وهو جامع لكل ما قامت به الـشرائع
من ذلك المنزل في القـــرآن فضلا على من كان ذا بيان
ومنه ما جاء على النبـــــي من عهده المتبع المرتضي
صلى الإله عليه وســــــلما كما هدى الله به وعلـــما
ولهم في التاريخ متون وأشعار فصلوا فيها الحوادث وسجلوا فيها الأيام مثل قصيدة الجرمي التي ذكرها ابن الأثير وهي قصيدة تبلغ نحو مائة وخمسين بيتا عرض في تفاصيلها الحرب الدائرة بين الأمين والمأمون مسجلا تلك الفتنة وما رافقها من أحداث في بغداد وخارجها ، ونظموا في فتح الأندلس ذاكرين أسباب الفتح وما جرى من أحداث وحكوا دخول طارق بن زباد ووصفوا الحروب التي جرت ضد المسيحيين .
لقد شمل الشعر التعليمي كل ما استطاع من فنون المعرفة والعلوم السائدة فقدر على أداء وظائفه التعليمية التي أسهمت إيجابا في نشر المعرفة وتحبيبها وتقريبها إلى الطلاب الذين وجدوا في المادة الشعرية أسلوبا مؤثرا بما حملته تلك الأشعار لا من معارف فحسب وإنما من طاقات تعبيرية استطاعت أن تخاطب الوجدان الإنساني وأن تنفذ إلى الباطن ، ولعل هذا من الأسباب التي ستنحو بهذا الشعر إلى التأليف عبر الشروح التي ستشهدها الثقافة العربية كشرح الألفية لابن عقيل وللمكودي وشرح الآحرومية وشرح قصيدة النفس لابن سينا وشرح منظومة ابن عاشر في الفقه لأحمد مصطفى قاسم الطهطاوي وغيرها من الشروح التي وجدت العبقرية العربية متفتقة الأكمام.